بعض الكتب تكون شيقة ولو تجاوز عدد صفحاتها 300، نغوص فيها حتى الانتهاء من قراءتها في جلسة واحدة. هكذا كان حالي مع كتاب المفكر والفيلسوف الفرنسي أندريه كونت-سبونفيل (مواليد 1952) الموسوم “فرصة العيش، دراسات أخيرة” الصادر في باريس عن المنشورات الجامعية الفرنسية PUF)، 2025).
الكتاب عبارة عن تسع دراسات تتناول مواضيع مختلفة من تاريخ الفلسفة، ما زالت تطرح بثقلها على الإنسان المعاصر منذ أن قاربها الفلاسفة الهلنستيون حتى يومنا هذا. يسلط فيه كونت-سبونفيل الضوء على تطوره الفكري من خلال مناقشة نصوص فلاسفته المفضلين، كأبيقور والرواقيين وميشال دو مونتاني وسبينوزا وألان ولويس ألتوسير ومارسيل كونش، مقدماً تحليلاته المعمقة لبعض كتاباتهم المتعلقة بمعنى الحياة وهدفها التي ما زالت أصداؤها تتردد في قضايا راهنة تتعلق بالدماغ والروحانية والمادية، مستكملاً فيه ثلاثيته التي بدأها مع كتاب “القيمة والحقيقة، دراسات كلبية” الصادر عام 1994، التي تواصلت مع كتاب “من التراجيديا إلى المادية” الذي نشره عام 2015.
الكتاب مهدى إلى الأكاديمي والفيلسوف الفرنسي فرنسيس وولف (مواليد 1950) المتخصص بالفلسفة اليونانية القديمة، الذي خصه كونت-سبونفيل بمجموعة أحاديث شكلت موضوع كتاب حمل عنوان “العالم بصيغة المتكلم”، صدر عام 2021 عن دار فايار، لخص فيه وولف مواقفه وأعماله الفلسفية المترافقة مع محطات من حياته.
يبدأ كتاب “فرصة العيش” بطرح سؤال يتناول مسألة رغبة الإنسان في الاستمرار في الحياة أو في اتخاذ القرار بإنهائها، ناظراً إلى هذا السؤال كفرصة يجب اغتنامها لمواصلة العيش في تدفقه الذي لا ينضب. ذلك أن الإنسان لن يستطيع طرح هذا السؤال ليقرر استمراره بالعيش أو إنهائه، إن لم يكن أولاً على قيد الحياة. مما يعني أن فرصة العيش تأتي أولاً، وهي تتطلب منا كل عناية. لأن الفلسفة لا تعلمنا الموت، كما قال مونتاني، بل تعلمنا كيفية العيش أو فن الحياة، ولعلها مرتبطة بهما وبالحب والسعادة والحقيقة والحرية ارتباطاً وثيقاً، بعيداً من كل أشكال الحزن والقلق والأوهام. فما قيمة فلسفة لا تساعدنا في الإجابة على السؤال الذي طرحه كامو: “هل الحياة تستحق أو لا تستحق أن تعاش”؟
إشكالات فلسفية
بعد التمهيد وتهيئة القارئ للدخول في الإشكالات التي تعالجها دراساته، يبدأ كونت-سبونفيل بالتفكر بفرصة الموت من خلال تحليل نصوص الأبيقوريين والرواقيين في مواجهة الانتحار. ففي فلسفة أبيقور التي تنظر مثلاً إلى الهدوء أو اللاهوى كغاية الحياة، يعتبر الخوف من الموت أحد العوائق التي تمنع الإنسان من الوصول إلى التمتع بحياته. ولعل المعتقدات الدينية تفاقم بحسب هذا الفيلسوف القديم الخوف، حين تتحدث عن العقاب الجسيم في الآخرة، لذا يحاول أبيقور شرح طبيعة الموت، قائلاً إننا حين نموت، لا ندرك موتنا، فالموت هو نهاية الوعي والأحاسيس ولا يمكن أن يكون مؤلماً. والخوف من الموت هو سبب تعاستنا، لذلك إن استطعنا التغلب على خوفنا من الموت، أمكننا أن نكون سعداء.
يعرج أندريه كونت-سبونفيل كذلك على كتابات مونتاني التي تتناول عظمة الفلسفة الهيدونية أو مذهب اللذة وحدودها والعيش بحكمة، لاسيما تأملاته في الموت التي تعلمنا أن التفكير في الموت يساعدنا في تقدير الحياة والعزلة، ثمة أيضاً دراسة مادية لفلسفة سبينوزا وغيرها من الدراسات التي تقارب مواضيع الموسيقى والتراجيديا كما نظر إليهما ألان ومارسيل كونش.
في كل هذه الدراسات يشدد كونت-سبونفيل على أهمية الحياة، مؤكداً لنا أن الفلسفة هي أولاً فن العيش وفقاً للظروف، مجيباً على بعض الاعتراضات التي تناولت كتاباته وأفكاره وهو أحد أكثر الفلاسفة الفرنسيين قراءة وترجمة في العالم. وحاول في هذا الكتاب جعل الفكر الفلسفي، بوصفه خطاباً استدلالياً، خطاباً مرتبطاً بالحياة، لأن الفلسفة بعرفه ما هي إلا سبيل من سبل إبداع الذات ولو تأسست على المفاهيم. وهي موجهة للإنسانية جمعاء، لأنها عبارة عن مخاطبة للحياة وتبديد لكل الأوهام والهلوسات والعوائق التي تفصلها عن السعادة.
ليست الفلسفة إذاً نمطاً من التفكير المجرد، بل فرصة متاحة للجميع للعيش وللتفكير في الحياة بدل الموت يشاركنا إياها الفيلسوف انطلاقاً من “محادثاته الودية والسهلة” مع نصوص مونتاني وسبينوزا ونيتشه وألان وغيرهم. ووجد الفيلسوف الفرنسي في كل أولئك الفلاسفة بعد عقود من القراءة والتأمل، نموذجاً فريداً جمع بين الفكر والأدب، بين المفهوم والعاطفة، وبين التأمل والحياة.
قدامى وجدد
يصف أندريه كونت-سبونفيل كتابه” فرصة العيش” بـ”الدراسات الفلسفية الأخيرة”، كما لو أنه أراد إغلاق باب الأبحاث الأكاديمية التي كرسها لتحليل تاريخ الفلسفة وأفكار الفلاسفة العظام، التي يميزها عن كتاباته الأخرى الأكثر حميمية وسهولة في الفهم، التي يطلق عليها صفة “أحاديث” أو “مداخلات مرتجلة”. وهو كما سبق وأشارت مجموعة دراسات علمية “أخيرة” تجمع بين المقالات والمداخلات المختلفة، تدور حول أفكار شخصيات عظيمة نهل الفيلسوف من معينها ورافقته فكرياً طوال مسيرته الفلسفية وهي مليئة بالمراجع والحواشي.
لعل هؤلاء الفلاسفة هم “الأساتذة” الذين اختارهم كونت-سبونفيل لنفسه، وعلى رأسهم أبيقور ومونتاني وسبينوزا ونيتشه والرواقيين، من دون أن ننسى بعض الفلاسفة المعاصرين أمثال الفيلسوف ألان (إميل أوغست شارتييه 1868-1951) الذي كان أيضاً عازف بيانو بارعاً وخصه في هذا الكتاب بفصل جميل تناول علاقته بالموسيقى التي يصفها بالكونية لأنها جزء من الطبيعة، ولأن القوانين التي تحكم الانسجام الموسيقي تخضع لقوانين الفيزياء ولو عبرت عن طريقة فريدة وإنسانية للوجود في العالم، فالموسيقى لا توجد إلا من أجل الإنسان، ولكن الإنسان نفسه لا يوجد إلا داخل الطبيعة. ومارسيل كونش (1922-2022)، الذي كان أستاذه، الذي نقل عنه مفهوم “الحكمة التراجيدية”، أي حكمة تقبل الحياة كما هي، بكل ما فيها، سواء كانت سعيدة أم تعيسة، حكيمة أم غير حكيمة، حكمة تقبل التحولات والمعاناة والفشل والموت، باختصار كل ما يبعث على اليأس ولا يمكن تعويضه في الوجود الإنساني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أكثر من مجرد تحليل نظري للمفاهيم، يهتم أندريه كونت-سبونفيل في هذه الدراسات بالإنسان. ذلك أن الفلسفة ليست بنظره علماً محضاً، بل مغامرة شخصية، تتطلب لقاءات وتحديات، تجبرنا على التفكير بطريقة مختلفة عما اعتدنا عليه. ولئن أحب محادثة الفلاسفة العظام كما أحب التحدث مع أصدقائه، فإنه نظر إليهم كحكماء ورفاق يمنحونه نقاط ارتكاز مكنته من فهم الحياة و”التفكير والعيش بصورة أفضل”. وبما أن الفلسفة هي”لذة التفكير”، شجع كونت-سبونفيل كل من أراد فعل التفلسف، أي فهم الأفكار والتفكير بنفسه، أن ينطلق أولاً من أفكار الآخرين. ذلك أن “طريق الاستقلال الفلسفي” مغامرة تتطلب جهداً وقراءة وتملك أدوات التساؤل والمفاهيم وطرائق التحليل ودقة المنطق ومهارات أخرى مختلفة، لن يستطيع أحد أن يصل إليها بمفرده ما لم يكن في البداية مستنداً إلى قراءة نصوص الفلاسفة الكبار، ألم يقل مالرو” في المتاحف نتعلم الرسم”؟ كذلك في كتب الفلسفة نتعلم التفلسف.
من خلال استلهام الفكر الأبيقوري والرواقي إذاً حول فكرة “فرصة الموت”، يقول كونت-سبونفيل إن “فرصة العيش” تأتي أولاً، وهي التي يكرس لها هذا الكتاب الجديد، مستحضراً نصوص الفلاسفة الذين أثروا فيه من أبيقور إلى مارسيل كونش. يقارب الكتاب كذلك التجربة الروحية التي يسميها “حالة وعي متغيرة”، أي تلك التي التي ينفتح فيها وعينا على اللانهاية والمطلق، لعلها بعرف الفيلسوف حياة العقل والشعور بالاكتفاء والسكينة والتحرر من الخوف ووطأة الزمن. إنها تشبه ما وصفه فرويد بـ”الشعور المحيطي” أو الشعور بالاندماج بالكل، كما تندمج الموجة مع المحيط الذي يحتويها، أو ما سماه جورج باتاي بـ”التجربة الداخلية”، أو ما سماه لو كليزيو بـ”النشوة المادية”.
كتاب “فرصة العيش” لأندريه كونت-سبونفيل كتاب مشرق يعرض الحياة كفرصة وكمعركة في آن واحد، ويعرض الفلسفة كأداة تساعدنا في اغتنامها. ليست الفلسفة دواءاً سحرياً ولا ضمانة ضد الأزمات، بل هي “فن العيش بمرونة وتكيف مع تقلبات الحياة” وقبول ما هو حتمي فيها كالخوف والمرض والفقدان، ذلك أن”اقتراب الموت يدفعنا إلى الاستمتاع بالحياة بغية محبتها والاستمتاع بها أكثر”. ألم يقل سبينوزا في “الأخلاق”: “لا يوجد أمل من دون خوف، ولا خوف من دون أمل”؟
باختصار يظل أندريه كونت-سبونفيل صوتاً فلسفياً فريداً في المشهد الفكري الفرنسي المعاصر، من حيث دعوته إلى فلسفة وحكمة عملية، غير متعالية، تسعى إلى تحقيق السعادة الممكنة هنا والآن، بعيداً من أوهام المستقبل غير المؤكدة.
نقلاً عن : اندبندنت عربية