لم تكن معاناة سوق الإسكان من “التكدس السياحي” حكراً على الإسبان فحسب، ففي البرتغال تعاني المدن مشكلات مماثلة تتعلق بتأجير المنازل للعطلات على المدى القصير وندرة المساكن ميسورة الكلفة، مما دفع السكان إلى رفع لافتات تعبر عن معاناتهم كتب عليها “علي أن أختار بين دفع إيجار المنزل أو شراء الطعام”. وفي فرنسا، اتخذت الحكومة خطوات نهاية العام الماضي لمواجهة الإحباط المتزايد في شأن توافر المساكن، إذ أقرت قانوناً طال انتظاره لتشديد القواعد المنظمة لسوق تأجير المنازل للسياح على المدى القصير، وارتفع عدد هذه الوحدات من 300 ألف إلى 1.2 مليون بين عامي 2016 و2024. ويتجه السياح الآن إلى مناطق شرق البحر الأبيض المتوسط بحثاً عن خيارات سكنية بأسعار معقولة، سواء كانت للإقامة في العطلات الصيفية أو كاستثمارات متوسطة الأجل.
قصة إسبانيا ليست فريدة من نوعها، إذ شهدت دول أخرى مثل إيطاليا وهولندا وحتى بريطانيا احتجاجات أو تدابير استباقية للحد من بعض أنواع الزوار الأجانب، وهو ما يعكس تحولاً في الخطاب حول السياحة المفرطة.
وستحتاج الإجراءات التي اقترحتها الحكومة الإسبانية إلى وقت لتطبيقها إذا مُررت عبر البرلمان، لكن الرسالة واضحة ومفادها أن الحكومات الأوروبية الآن مضطرة للاستجابة إلى التصور المتزايد في شأن السياحة المفرطة، وسط مشكلة أوسع تتمثل في تزايد الأسعار وعدم قدرة السكان المحليين على تحمل كلفة المنازل نتيجة الطلب المرتفع والعرض المحدود.
وينص الدستور الإسباني على أن لجميع الإسبان الحق في التمتع بـ”منزل لائق وكاف”. وبصورة نظرية في الأقل، فإن الحكومة ملزمة بضمان ممارسة المواطنين لهذا الحق.
إعلان إسبانيا وصدمة البريطانيين
أثار إعلان رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز عن خطط لفرض ضرائب على الأجانب الراغبين في شراء المنازل صدمة لدى السياح الأجانب، خصوصاً البريطانيين الذين يحلمون بالتقاعد في المناطق الساحلية.
وأوضح سانشيز أن الحزمة الجديدة المكونة من 12 مقترحاً تهدف إلى معالجة أزمة الإسكان وتخفيف الإيجارات المرتفعة، مشيراً إلى أنها تستهدف توفير “مساكن أكثر وتنظيم أفضل، ومساعدات أكبر”.
وتعكس هذه الإجراءات محاولة للتصدي لأزمة تفاقم مشكلة الإسكان في إسبانيا كما هي الحال في عدد من الدول الغنية، إذ تشهد مدن مثل برشلونة ومدريد ارتفاعاً حاداً في الإيجارات مما يشكل ضغطاً كبيراً على الشباب، مع تراجع القوة الشرائية مقارنة بكلفة السكن المتزايدة.
وتشهد أسعار العقارات في إسبانيا ارتفاعاً مستمراً لا سيما في المدن والمناطق الساحلية التي باتت وجهة مفضلة لعدد من المشترين الأجانب، بما في ذلك البريطانيون، لشراء منازل باهظة الثمن بغرض الاستثمار أو تأجيرها كعقارات سياحية قصيرة الأجل خلال فصل الصيف.
وتشهد أسعار العقارات في إسبانيا ارتفاعاً مستمراً، لا سيما في المدن والمناطق الساحلية التي باتت وجهة مفضلة لعدد من المشترين الأجانب، بما في ذلك البريطانيون، لشراء منازل باهظة الثمن بغرض الاستثمار أو تأجيرها كعقارات سياحية قصيرة الأجل خلال فصل الصيف.
وتعد إسبانيا إحدى أكثر الدول تأثراً بالطلب على المنازل السياحية، إذ استقبلت أكثر من 88.5 مليون زائر خلال عام 2024. وهذا “التكدس السياحي” بات يشكل أزمة ملموسة بالنسبة إلى السكان المحليين الذين يعانون صعوبة العثور على مساكن بأسعار معقولة، مما دفعهم إلى النزول إلى الشوارع للمطالبة بإجراءات حكومية حازمة.
واضطرت الحكومة اليونانية إلى التدخل العام الماضي، إذ أعلنت عن حظر شامل على تراخيص تأجير المنازل قصيرة الأجل في ثلاث مناطق مركزية داخل أثينا بسبب “الضغط الكبير على المجتمع”.
وحددت إسبانيا نغمة جديدة مع قائمة طموحة من المقترحات السياسية التي تركز على إصلاح صناعة البناء، وضمان الإيجارات المعقولة وتقديم حوافز لأولئك الذين يتبعون إرشادات الإيجار، ومن بين النقاط المثيرة للجدل في هذه الحزمة فرض ضريبة تصل إلى 100 في المئة على العقارات التي يُجرى شراؤها من قبل غير المقيمين داخل الاتحاد الأوروبي، وهو ما يشمل المواطنين البريطانيين.
وكثيراً ما كان المشترون البريطانيون متقبلين لعروض إسبانيا من الفلل الفاخرة تحت أشعة الشمس بأسعار أقل بكثير مما قد يدفعونه في بريطانيا، ومع ذلك فإن هذه العقارات ليست بالضرورة “المنازل المعقولة” التي يطالب بها الإسبان العاديون من الطبقات العاملة. وزاد شراء الأجانب للعقارات من مشاعر الإحباط لدى السكان المحليين، الذين يشعرون باستبعادهم لمصلحة المستثمرين الأجانب.
وأشار رئيس الوزراء الإسباني إلى أنه خلال عام 2023 اشترى غير المقيمين من خارج الاتحاد الأوروبي 27 ألف منزل وشقة في إسبانيا، “ليس للعيش فيها بل للمضاربة”. وأضاف أن هذا الأمر “شيء لا يمكن تحمله في سياق النقص الذي نواجهه”.
الرد المفاجئ من الحكومة جزء من اتجاه أوسع، إذ يسعى القادة إلى الاستجابة سريعاً للغضب المتزايد من السياحة المفرطة ونقص الإسكان المعقول، ومع تصاعد التظاهرات في جميع أنحاء القارة الأوروبية قد تضطر وجهات الأحلام الأخرى إلى اتباع النهج نفسه.
وتعد إسبانيا من أكثر الدول تأثراً بالطلب على المنازل السياحية، إذ استقبلت أكثر من 88.5 مليون زائر خلال عام 2024، وهذا “التكدس السياحي” بات يشكل أزمة ملموسة بالنسبة إلى السكان المحليين الذين يعانون صعوبة العثور على مساكن بأسعار معقولة، مما دفعهم إلى النزول إلى الشوارع للمطالبة بإجراءات حكومية حازمة.
تصاعد مشاعر الاحتقان في اليونان ضد السياحة
اندلعت موجة من الغضب في اليونان العام الماضي، إذ ظهرت رسائل مكتوبة على الجدران في أثينا قبيل موسم الصيف الرئيس، وكانت إحدى الرسائل تقول “السياح ارحلوا! الدولة اليونانية تقتل”.
بينما عرضت رسالة أخرى صورة لبناية كبيرة تظهر برجين يحملان علامة “إير بي أن بي” مشتعلة، تحت شعار “استمتعوا بإقامتكم في مقبرة أوروبا”.
وخرج المحتجون الغاضبون إلى شوارع العاصمة اليونانية أثينا مُعبرين عن استيائهم من الزيادة في أعداد السياح، الذين يغمرون مدينتهم.
وردد المتظاهرون شعارات مثل “إنهم يأخذون منازلنا بينما يعيشون في جزر المالديف”، في إشارة إلى أصحاب المنازل الأغنياء.
وأخبرت آنا ثيودوراكي وهي مقيمة محلية أُخرجت من منزلها داخل منطقة ميتاكسورجيو في أثينا قناة “فرانس 24” خلال ذلك الوقت بأن الوضع في المدينة المزدحمة أصبح “مكتئباً جداً”.
وقالت لصحيفة “ديلي ميل” “أعتقد أن الإجابة هي أن نخرج إلى الشوارع ونعطل كل شيء لأن الناس يفقدون منازلهم”.
وعلى رغم ذلك، ترددت اليونان التي استقبلت 32 مليون زائر عام 2023 في إرسال رسائل رسمية، تطالب الضيوف الأجانب بالعودة.
ويسهم قطاع السياحة بما بين 62.8 مليار يورو (64.6 مليار دولار) و75.6 مليار يورو (77.88 مليار دولار) في الاقتصاد اليوناني، أي ما يعادل ثلث الناتج المحلي الإجمالي سنوياً، وفقاً لجمعية الأعمال السياحية اليونانية (إنسيتي).
وخلال سبتمبر (أيلول) 2024 أعلنت الحكومة اليونانية حظراً على تراخيص الإيجارات قصيرة الأمد في بعض مناطق أثينا، وهو انتصار كبير للمتظاهرين الذين نادوا بإيجاد حلول لتأثير السياحة في السكان المحليين.
وتقرر رفع الضريبة اليومية على الإيجارات قصيرة الأمد بين شهري أبريل (نيسان) وأكتوبر (تشرين الأول) هذا العام إلى ثمانية يوروات (8.24 دولار)، بعدما كانت 1.50 يورو (1.55 دولار) خلال الأعوام الماضية.
وتتطلب الأزمة في اليونان إصلاحات أوسع، خصوصاً مع توقع أن يتضاعف عدد زوار البلاد بحلول عام 2030.
وعلى رغم القرارات الأخيرة التي اتخذتها الحكومة اليونانية، فإنها لا تزال بعيدة من النظر في الإصلاحات السكنية الشاملة التي تعدها إسبانيا.
واستمرت المشكلات التي تواجهها اليونان، التي لا تزال تتعافى من أزمة ديون ما يقارب العقد وتتجاوز تلك التي يعانيها الجار الإسباني، إذ تزيد الأجور المنخفضة من صعوبة قدرة المهنيين الماهرين على توفير مساكن بأسعار معقولة.
وتكافح اليونان مع ارتفاع كلفة البناء، مما يحد من قدرة الدولة على تنفيذ التغييرات الجذرية التي اقترحتها إسبانيا.
وفي ما يخص الوجود البريطاني فإنه يعد ضئيلاً في اليونان مقارنة بإسبانيا، إذ بلغ عدد المواطنين البريطانيين المسجلين في إسبانيا عام 2019 نحو 302 ألف، بينما لم يتجاوز عددهم في اليونان 17 ألفاً، وتزداد حدة المشكلة في فرنسا إذ قدر عدد البريطانيين المقيمين عام 2019 بنحو 176672.
فرنسا تواجه أزمة سكنية ومشكلات تأثر القطاع السياحي
وتعاني فرنسا أيضاً أزمة سكنية مستمرة، فيما أشار تقرير صحيفة “لو موند” خلال سبتمبر 2023. وأكدت الصحيفة أن “ارتفاع أسعار الفائدة يحد من توافر الرهن العقاري ويقلل من عدد المشترين المحتملين”، وهو ما يعمق مشاعر الركود في القطاع.
وأضافت أن “ضعف الطلب بدأ يؤثر في الأسعار ويقلل من مرونة المعاملات”، مشيرة إلى أن “سوق العقارات الجديدة في حال انهيار مما يؤدي إلى تأثيرات سلبية في صناعة البناء”.
ووفقاً لتقديرات عام 2024 ارتفعت أسعار المنازل داخل فرنسا بنسبة 27.8 في المئة في المتوسط خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، وإضافة إلى ذلك تتعامل فرنسا مع تحديات في سوق الإيجارات قصيرة المدى والمنازل الصيفية، التي تتركز بصورة رئيسة في باريس وبعض المدن الساحلية الكبرى. وتظهر أرقام الحكومة أن 80 في المئة من السياحة السنوية تتركز داخل 20 في المئة فقط من مساحة البلاد.
وتأتي فرنسا بعد إسبانيا في عدد السياح السنويين، إذ استقبلت أكثر من 100 مليون زائر عام 2023، مع ملاحظة أن فرنسا تستقبل 404 سياح سنوياً لكل ميل مربع، في حين أن إسبانيا تستقبل 442، وفق ما أشار تقرير صحيفة “تلغراف”.
وفي محاولة للتصدي لهذه الظاهرة، كشفت وزيرة السياحة أوليفيا غريغوار عن خطط لتنظيم تدفقات الزوار في بعض المواقع السياحية الأكثر شهرة داخل فرنسا خلال عام 2023.
وتشمل الخطة إنشاء مرصد سياحي لقياس تدفقات الزوار وتحديد المواقع التي تتعرض لحمولات زائدة.
وصرحت الحكومة خلال وقت سابق قائلة “فرنسا هي الوجهة السياحية الأكبر في العالم، لكننا نعاني نقصاً شديداً في البيانات التي تساعد في إدارة الحشود”.
وأكدت غريغوار أن فرنسا في حاجة إلى تحسين إدارة تدفقات الزوار خلال موسم الذروة، التي تهدد “البيئة وجودة الحياة للسكان المحليين، وتجربة الزوار”.
ومع تخفيف ورفع القيود المرتبطة بالجائحة، أبلغ عدد من المواقع الفرنسية الشهيرة مثل دير مونت سان ميشيل في نورماندي أنها تشهد ضغطاً كبيراً بسبب العدد الكبير من الزوار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى رغم ذلك لم تشهد فرنسا نفس التمرد الشعبي الذي أظهرته بعض البلدان الأخرى في مطالبات إصلاح القطاع السياحي.
وقالت الكاتبة المتخصصة في السفر من ليون آنا ريتشاردز لصحيفة “تلغراف” “أعتقد أن غياب الاحتجاجات ضد السياحة يعود إلى أن الفرنسيين أنفسهم يقضون عطلاتهم داخل بلادهم، من ثم تجهيز صناعة السياحة للتعامل مع الأعداد الكبيرة من الزوار”.
وعلى رغم أن فرنسا لم تشهد نفس الضغط الشعبي فإنها أوصت بإدخال قوانين جديدة للإيجارات السياحية قصيرة المدى عام 2023، وتقليص الإعفاءات الضريبية للإقامة السياحية المفروشة من 71 في المئة إلى 50 في المئة، مع خفض الحد الأقصى إلى 77 ألف يورو (79.3 ألف دولار).
وتهدف هذه التغييرات إلى توفير مزيد من العقارات للإيجار طويل الأجل وجعل العقود الطويلة أكثر جذباً لأصحاب المنازل، وهو ما قد يشمل البريطانيين في النهاية.
وبين عامي 2015 و2021 قفزت الإيجارات داخل البرتغال بنسبة 112 في المئة، وفقاً لبيانات “يوروستات”.
ويشكل المغتربون البريطانيون في البرتغال شريحة مماثلة لتلك الموجودة داخل اليونان، إذ يقدر عددهم بنحو 18500 شخص عام 2019.
نقلاً عن : اندبندنت عربية