“فوضى التسعير” تصل إلى الدواء المصري والمحظور في المتناول

بعد محاولات عدة للحصول على دواء “جونابيور” بالسعر الرسمي، اضطرت نهال (اسم مستعار) إلى شراء الحقن بسعر 1200 جنيه (24 دولاراً أميركياً)، متجاوزاً التسعيرة الجبرية بثلاثة أضعاف بسبب نقصها في السوق المصرية، إذ كانت الحقن ضرورية لتنشيط البويضة بحسب توصية الطبيب.

ولم يكن أمام نهال التي تعاني صعوبة الحمل بسبب وجود زوائد متصلة بالجدار الداخلي للرحم سوى قبول الوضع الذي بدا لها غريباً، فاضطرت إلى شراء ست حقن أخرى بسعر 1500 جنيه (30 دولاراً أميركياً) للواحدة، وتقول “كان يجب أن أبدأ العلاج وأستخدم هذه الحقن بعد انتهاء الدورة الشهرية مباشرة، فلم يكن أمامي خيار سوى دفع هذه الفاتورة المرتفعة”.

وما ذكرته نهال في حديثها إلى “اندبندنت عربية” يتوافق مع شهادة الصيدلاني طارق محمد الذي أكد أن الأدوية المخصصة للإنجاب “نادراً ما تتوافر وتباع في بعض الصيدليات بأسعار تتجاوز التسعيرة الجبرية”.

وعلى رغم أن بيع الأدوية بأسعار أعلى من التسعيرة الجبرية لم يكن ظاهرة شائعة في مصر، ويعتبرها العاملون في هذا القطاع “مجرد ممارسات فردية”، فإن “اندبندنت عربية” رصدت تجارب لمصريين خاضوا شراء أدوية بأسعار متباينة من أماكن شتى، مما يفتح تساؤلات حول فعالية الرقابة والقدرة على إحكام السيطرة على سوق الدواء المصرية.

ويؤكد صيادلة ومسؤولون في المنظومة الدوائية لـ “اندبندنت عربية” وجود خروقات في السوق نتيجة لأسباب عدة ومنها نقص المفتشين، مشيرين إلى أن من أبرز الانتهاكات “صرف ‘أدوية جدول’ من دون ضوابط”.

ضعف الرقابة وغياب التفتيش

ويشدد رئيس شعبة الأدوية باتحاد الغرف التجارية بمصر علي عوف خلال حديثه إلى “اندبندنت عربية” على “ضرورة زيادة عدد المفتشين وبخاصة في المحافظات خارج القاهرة”، لافتاً إلى أن “الرقابة في الأقاليم أضعف بكثير، مما يؤدي إلى انتشار التلاعب وغش الأدوية بصورة أكبر، إذ إن المخالفين يدركون أن التفتيش في القاهرة والجيزة أكثر صرامة”.

وفي مصر توجد ثلاثة أنواع من التفتيش على الصيدليات، الأول دوري مرتين سنوياً، أي كل ستة أشهر تقريباً، والثاني مركزي تجريه الإدارة العليا التابعة لهيئة الدواء بصورة عشوائية في مختلف المناطق بهدف الكشف عن أي خلل واتخاذ إجراءات صارمة ضد المخالفات، والثالث يعتمد على البلاغات المقدمة، وفق عوف.

وتعلن هيئة الدواء المصرية بصورة دورية عبر موقعها الرسمي نتائج حملات التفتيش التي تشمل ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة، إضافة إلى محاضر مخالفة البيع بالسعر المدون على العبوة.

وفي واقعة حديثة ضبطت الأجهزة الأمنية في الإسكندرية، شمال مصر، مالك صيدلية وقد خزّن مليوني قرص دواء، منها 1.8 مليون قرص من دون مستندات، إضافة إلى أدوية مخصصة للتأمين الصحي المحظور تداولها بغرض حجبها ورفع أسعارها.

 

وفي أكتوبر (تشرين الأول) الماضي أسفرت حملة تفتيش على 17 صيدلية في مرسى علم عن ضبط 1410 أقراص دواء مهربة ومجهولة المصدر وغير مسجلة في هيئة الدواء المصرية، في مخالفة للقوانين المنظمة.

وبالعودة ليونيو (حزيران) عام 2022، فقد أسفرت حملات التفتيش على نحو 9 آلاف مؤسسة صيدلية عن ضبط 2400 مخالفة متنوعة، شملت أدوية مهربة وغير مسجلة، إضافة إلى محاضر غش تجاري ومخالفات عدم الالتزام بالبيع وفق السعر الجبري المدون على العبوات.

ومن بين الوقائع التي تكشف عن استخدام صيدليات منافذ لبيع أدوية محظورة، ما رصدته تحريات الإدارة العامة لمكافحة المخدرات، والتي حصلت “اندبندنت عربية” على نسخة من محضرها، حول تورط صيدليين اثنين في الاتجار بالعقاقير المخدرة والمؤثرة في الحال النفسية والعصبية.

ووفقاً للتحريات فقد استخدم الصيدليان إحدى الصيدليات وملحقاتها لترويج تجارتهما غير المشروعة، كما عثر على عقاقير خاصة بالمستشفيات غير مصرح بتداولها تستخدم في الإجهاض، إضافة إلى قِرَب لنقل الدم غير مصرح بها، وعقاقير غير مسجلة بوزارة الصحة.

وتتعدد الطرق غير المشروعة والشائعة المستخدمة من بعض الصيادلة، وفق الصيدلي علي عمر الذي كشف لـ “اندبندنت عربية” عن ممارسات تلاعب تحدث في بعض الصيدليات، حيث تُباع الأدوية المخزنة بأسعار قديمة تحت التسعيرة الجديدة، مؤكداً أن “غرامات المخالفات المقررة ضعيفة ولا تشكل رادعاً فعالاً للمخالفين، مما يسهم في استمرار هذه الممارسات”.

ومن أجل السيطرة على سوق الدواء ومنع تلك الممارسات فقد شدد عمر على ضرورة أن توفر الشركات الأدوية بكميات تلبي حاجات السوق، مشيراً إلى أن الأدوية المستوردة تعد من أكثر الأصناف التي يُتلاعب بها، حيث تُباع بعض “أدوية الجدول” في صيدليات من دون ضوابط.

وضرب عمر مثالاً على فوضى التسعير بدواء الـ “أوغمنتين” الذي طُرح في السوق بثلاثة أسعار مختلفة وهي 89 جنيهاً و129 جنيهاً و210 جنيهات  (1.79 و2.60 و4.23 دولار أميركي) خلال فترات زمنية قصيرة، مما فتح المجال أمام التلاعب بالأسعار، موضحاً أن الفجوة الحالية في سوق الأدوية بدأت منذ عامين، إذ “لا تستطيع الالتزام بالأسعار القديمة في ظل هذه الظروف فتضطر إلى البيع بالسعر الجديد”.

وأشار الصيدلاني المصري إلى وجود قصور واضح في التفتيش على الصيدليات، “على سبيل المثال في مركز المدينة التابع لي لا يتجاوز عدد المفتشين ثلاثة أشخاص على 120 صيدلية، وهذا غير كاف لمراقبة الصيدليات بصورة فعالة ومنع التلاعب”.

تخزين الأدوية

ويقول مدير المركز المصري للحق في الدواء محمود فؤاد إن “في مصر نحو 88 ألف صيدلية مما يصعب مهمة مراقبتها بصورة فعالة، إضافة إلى أنه منذ مطلع العام الماضي تعاني البلاد نقصاً حاداً في الأدوية مما دفع بعض الصيدليات إلى تخزين الأدوية تحسباً لزيادة الأسعار”.

ويرجع فؤاد تفاقم أزمة الدواء إلى أن “شركات ذات نفوذ استطاعت رفع أسعار الأدوية ثلاث مرات خلال ستة أشهر مما أدى إلى وجود الصنف الدوائي نفسه بثلاثة أسعار مختلفة داخل الصيدليات، ومن ثم حدثت فوضى خلقت بيئة خصبة لبعض الصيادلة للتلاعب وبيع الأدوية بأسعار جديدة بعيداً من التسعيرات الرسمية”.

 

ويؤكد مدير المركز المصري للحق في الدواء أن الرقابة على الأدوية في مصر “ليست في أفضل حالاتها، وعلى رغم استحالة حدوث تلاعب أو غش في مرحلة تصنيع الأدوية في مصر، فإن المشكلة الرئيسة تكمن في مراحل البيع، إذ إن هيئة الدواء بعد إنشائها اعتمدت على عدد محدود من الموظفين من وزارة الصحة، مما جعلها غير قادرة على السيطرة على الصيدليات المنتشرة في أنحاء البلاد”.

واعتبر رئيس شعبة الأدوية باتحاد الغرف التجارية في مصر علي عوف أن “العقوبات المفروضة على مخالفات تسعير الأدوية رادعة وتشمل غرامات مالية أو السجن في بعض الحالات”، موضحاً أن أي صيدلي يخزن الأدوية أو يخفيها يحال مباشرة إلى النيابة العامة، ومضيفاً أن أسعار الأدوية ارتفعت بنسبة 30 في المئة منذ يونيو الماضي وحتى نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري.

أدوية جدول

ولا ينكر نقيب صيادلة القاهرة وعضو مجلس الشيوخ محمد الشيخ أن الإدارة السابقة لهيئة الدواء “كانت تعاني نقصاً كبيراً في عدد المفتشين، إذ كان العدد لا يتجاوز 640 مفتشاً”، مؤكداً أنه جرت مضاعفة العدد هذا العام لتحسين الوضع الرقابي، لكن بعض المحافظات كانت تفتقر إلى مقار للتفتيش مما أثر في فاعلية الرقابة.

وأوضح الشيخ لـ “اندبندنت عربية” أن العقوبات المفروضة على المخالفات في الصيدليات تصل إلى 3 آلاف جنيه (60.48 دولار أميركي)، وتُضاعف في حال تكرار المخالفة، وإذا تكررت المخالفة ثلاث مرات خلال العام فيحال الصيدلي إلى النيابة العامة مباشرة، مشيراً إلى أن من أبرز المخالفات التي تحدث حالياً هي صرف “أدوية الجدول” من دون ضوابط قانونية.

 

بدوره قال الصيدلي طارق محمد إن المشكلة الحالية في الصيدليات تتعلق بتغير أسعار الأدوية بصورة مستمرة، إذ يتغير السعر تقريباً كل شهرين مما يخلق حالاً من الارتباك بين العملاء، مشيراً إلى أن هناك عبوات من الدواء نفسه تتوافر بأسعار مختلفة نتيجة للتغيرات المتكررة في التسعيرة، ولافتاً إلى أن “المشكلة تكمن في أن السعر القديم يُشطب من العبوة ويباع الدواء بالسعر الجديد من دون رقابة فعالة، مما يفتح باب التلاعب”، واستشهد الصيدلي بأنه حينما طلب منه أحد الزبائن حقنة تساعد في الإنجاب كان سعرها 305 جنيهات (6.15 دولار أميركي)، لكن الزبون أخبره بأنه اشتراها من صيدلية أخرى بسعر 750 جنيهاً (15.12 دولار أميركي).

وفيما يتعلق بالرقابة أشار طارق إلى أن عدد المفتشين غير كاف لمتابعة الصيدليات بصورة دقيقة، مضيفاً أنه خلال فترة قصيرة جرى ضبط ثلاثة صيادلة يبيعون (أدوية جدول) من دون الالتزام بالضوابط القانونية.

نقلاً عن : اندبندنت عربية