عاد غضب المزارعين إلى الواجهة في فرنسا بدعوة من النقابات إلى التظاهر بدأت في الـ18 من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، مما يعيد إلى الأذهان ما شهدته البلاد قبل 10 أشهر من احتجاجات تخللتها أعمال عنف، وانتهت بحزمة وعود أطلقتها الحكومة السابقة برئاسة غبريال آتال عبر رصد 400 مليون دولار لهذا القطاع ضمن حزمة تدابير أخرى، لكن التنفيذ تأجل بسبب حل البرلمان، ولا تزال بعض الإجراءات عالقة في أدراج الوزارات.
الشعار الرئيس للاحتجاجات هذه المرة جاء تحت معارضة توقيع اتفاق التجارة الحرة مع دول أميركا الجنوبية، أو ما يعرف باتفاق (مركوسور)، الذي يضم كلاً من الأرجنتين والبرازيل وأوروغواي وباراغواي وبوليفيا، والذي تدور المشاورات حوله مع الاتحاد الأوروبي منذ 20 عاماً. اتفاق من المزمع التوقيع عليه نهاية يناير (كانون الثاني) 2025 بعد تعثر مناقشاته في عام 2019 قبل استئنافها منذ أشهر.
التظاهرات تزامنت مع انعقاد قمة الـ20 في البرازيل، إذ تم التطرق إلى هذا الاتفاق، وأعلن الاتحاد الوطني لنقابات المزارعين في فرنسا، أن الاحتجاجات ستستمر بصورة لا تؤثر في حياة الفرنسيين. ولم يستبعد رئيس الاتحاد أرنو روسو، أن تتطور في الأيام والأشهر المقبلة بصورة أعنف.
وإن كانت مطالب المزارعين في الأشهر الماضية تمحورت حول أحوالهم المادية والأجور الضعيفة التي يتقاضونها تحت ضغوط التجمعات العملاقة التي تشتري محاصيلهم والحليب بأقل الأسعار، فإن تبعات التغيرات المناخية من فيضانات وجفاف ألقت بظلالها عليهم من دون أن يكون بوسعهم توقع واستباق هذه العوامل.
الحكومة السابقة برئاسة غبريال آتال وعدت بالاستجابة لمطالبهم عبر 70 التزاماً بعضها موضع نقاش في البرلمان ضمن إطار مشروع الموازنة، كما أقر الرئيس إيمانويل ماكرون لمناسبة معرض الزراعة الدولي السابق سلسلة تدابير تتعلق بتحديد حد أدنى للأسعار لا يمكن النزول تحته لكل قطاع، لكن النقابات عدت أن الأسباب الجذرية للأزمة لم تجد حلاً، بل إن الأمور ازدادت سوءاً بخاصة أن الشركة العملاقة “لاكتاليس” التي تشتري الحليب من المزارعين ألغت عديداً من العقود، بحسب تصريح الناطقة باسم الاتحاد الوطني لنقابات المزارعين (أف أن أس أو أي) لورانس ماراندولا.
يذكر أن الحرب الأوكرانية ألقت بثقلها على المزارعين الفرنسيين في ظل استيراد لحوم الدجاج والحبوب بأسعار مخفضة من كييف مما شكل منافسة غير متكافئة، فالمنتجات الأوكرانية لا تخضع للشروط المفروضة نفسها على أصحاب المزارع الأوروبية.
تجدر الإشارة إلى أن العام الحالي شهد سلسلة من الأزمات المناخية من فيضانات في بعض المناطق وجفاف في مناطق أخرى تركت آثارها على المحاصيل، هذا إلى جانب عودة بعض الأمراض بين الدواجن والطيور والقطعان، ولمساعدة المزارعين على تخطي هذه الأزمة وعدت الحكومة الفرنسية بداية من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي برصد قروض ميسرة مضمونة بقيمة 75 مليون دولار للمزارعين المتضررين.
ولم يسلم مزارعو الحبوب من الأزمة بدورهم فأثرت التغيرات المناخية في المحاصيل. وقالت مصادر نقابية إن من 40 إلى 45 في المئة من المزارعين يواجهون أوضاعاً صعبة. وزادت حدة الغضب مع الإعلان عن إمكانية توقيع اتفاق التجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي ودول أميركا الجنوبية ليزيد الطين بلة.
ويرى الباحث كزافيه هولندتس، وهو أستاذ إدارة المؤسسات واستراتيجية المبادرة في معهد كيدج، “أن المطالبة بالحصول على أجور لائقة باتت من دون جدوى، لأن الحكومة استجابت لمطالب المزارعين، وأصبح من الأفضل الحديث عن أزمة زراعية هيكلية مستمرة منذ عقود، فمعضلة أجور المزارعين تعود إلى ما قبل 20 عاماً”.
ما تبعات الاتفاق المنتظر؟
المستجد في المشهد هذه المرة هو أن الطبقة السياسية في فرنسا من اليمين إلى اليسار عبرت عن تضامنها مع المزارعين، وأعلن رئيس الوزراء ميشال بارنيه الذي سبق أن تولى وزارة الزراعة، كما كان مفوضاً في المفوضية الأوروبية وتابع المحادثات في شأن الاتفاق، أنه يعارض النسخة الحالية منه.
وقال بارنيه في تصريحات إذاعية، “لن نفتح الأسواق الأوروبية أمام الدجاج الذي حُقن بالمضادات الحيوية، والعجول التي ترعى على حساب قطع الأشجار والذرة المعالج بالأترازين”. كذلك أعلن رئيس نقابة التنسيق الريفي باتريك لوغرا، أن اتفاق مركوسور، هو نقطة الماء التي أفاضت الكأس. وطالب ماكرون بإعلان موقفه حياله بصورة واضحة، فما كان من الرئيس الفرنسي إلا الإعلان من الأرجنتين أثناء توجهه إلى البرازيل عن عدم توقيعه على الاتفاق بصيغته الحالية.
تجدر الإشارة إلى أن الاتفاق يسمح لدول مركوسور بالوصول إلى السوق الأوروبية وتصدير 99 ألف طن من اللحوم بتعرفة جمركية مخفضة تبلغ 7.5 في المئة، في حين تسعى الدول الأوروبية إلى سوق أميركا الجنوبية لصادراتها الصناعية وتتمسك فرنسا بنموذجها الزراعي المتنوع الذي لا يعتمد كلياً على مزارع عملاقة، ويولي أهمية للمزارع الريفية المتوسطة الحجم والمحلية، لكن باريس تجد نفسها شبه وحيدة في معارضة الاتفاق.
ويشير الباحث وأستاذ الإدارة، كزافيه هولندتس، إلى “أن التضامن الذي يحظى به المزارعون من قبل كل فئات المجتمع الفرنسي، هو ما يفسر وقوف السياسيين إلى جانبهم”.
ليس هذا فحسب، بل إن 200 نائب وقعوا عريضة على صفحات صحيفة “لوفيغارو” عبروا فيها عن معارضتهم الاتفاق، تلاها توقيع ما يزيد على 600 نائب وسيناتور على رسالة وجهت إلى رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، قبل 10 أيام على صفحات صحيفة “لوموند” طالبوا فيها بالتخلي عن المفاوضات حول الاتفاق واحترام مبادئ الديمقراطية على أساس معارضة معظم النواب الفرنسيين لهذا الاتفاق، لكنها رسالة بقيت من دون رد.
موقف الدول الأوروبية الأخرى
النمسا كان لها موقف معارض من اتفاق مركوسور، لكنه تبدل بعد وصول اليمين المتطرف إلى الحكم، أما إيرلندا فكانت معارضة وغيرت موقفها.
ولمعارضة التوقيع تحتاج فرنسا إلى كتلة من أربع دول يمثلون 35 في المئة من سكان الاتحاد الأوروبي، لكن إيطاليا التي تضم 59 مليون نسمة، عارض وزير زراعتها فرنشيسكو لولوبريجيدا الاتفاق وطالب بأن يخضع المزارعون في أميركا الجنوبية إلى الشروط المفروضة نفسها على مزارعي الاتحاد الأوروبي، لكن موقفه لم يلق تجاوباً من حكومته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بولندا كذلك التي تضم 36 مليون نسمة لديها قطاع زراعي مهم وتعاني الضغط بسبب الأزمة الأوكرانية ووصول المنتجات الزراعية الأوكرانية بأسعار أقل، قد تبدي بعض التحفظات على بعض البنود لكنها في الآن معاً مهتمة بإيجاد أسواق لمنتجاتها الصناعية بخاصة قطاع السيارات.
إسبانيا من جهتها، وعلى رغم تحفظ القطاع الزراعي داخلها فإنها لا تعارض الاتفاق، وأعلن رئيس الوزراء بيدرو سانشيز تأييده له، وكذلك الحال بالنسبة إلى ألمانيا التي يعاني اقتصادها أزمة حادة وتتطلع إلى تصدير صناعاتها.
إسبانيا وألمانيا
يعد كزافيه هولندتس من معهد كيدج أن التباين في المواقف بين فرنسا وإسبانيا يعود إلى سبب بسيط، أن قانون “إيغاليم”، الذي يمنع بيع المنتجات الزراعية بأقل من كلفة، إنتاجها كان يفترض به أن يحل مشكلة المردود المادي للمزارع، إذ يضمن للمزارع السعر الأدنى الذي لا يقل عن سعر الكلفة، لكن المجموعات العملاقة استفادت من بعض نقاط الضعف في القانون والتفت شركات التوزيع عليه، في المقابل استطاعت إسبانيا تطبيقه بصورة فعلية وتمكنت من إيجاد أسعار موحدة للقطاعات وفرض عقوبات في حال خرقه.
لكن فرنسا لم تتمكن من تحديد سعر كلفة الإنتاج في القطاعات المختلفة، وتعذر تحديد كلفة إنتاج كلغ من الطماطم، أو أي منتج آخر لاختلاف كلف الإنتاج من منطقة إلى أخرى، فإنتاج كلغ من الطماطم في السهل أقل كلفة من إنتاجه في المناطق الجبلية.
والعامل الآخر يكمن في تنافسية القطاع الزراعي في ألمانيا من جهة كلفة الإنتاج، لأنه إنتاج صناعي، يعتمد على يد عاملة أقل كلفة مما يفسر عدم حساسيتهم من الاتفاق مع دول أميركا الجنوبية. “فألمانيا تعتمد على اليد العاملة من أوروبا الشرقية، كما أنها وبخاصة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعانيها منذ أكثر من عامين تتطلع إلى أسواق جديدة لمنتجاتها الصناعية”.
كذلك بالنسبة إلى القطاع الزراعي في إسبانيا الذي يعد أكثر تنافسية كون المنتجات الزراعية الفرنسية تقدم على أنها أفضل نوعية وأغلى، “لذا فرنسا تجد نفسها في وضع صعب أمام دول لديها منتجات بكلفة إنتاج أقل ما عدا ما يتعلق بالمنتجات الفخمة”.
ومن جهة كلفة اليد العاملة، تستعين فرنسا أيضاً بها كما هي الحال مع العمال الموسميين، لكن كلفة اليد لا تتلخص بالأجور فقط فهناك كلف إضافية تتعلق بالأمور الإدارية والمعايير البيئية أو التقنية التي تفرض رسوماً إضافية على المنتجات الزراعية، وكل هذه العناصر تزيد من كلفة الإنتاج، بحسب هولندتس.
وتبدو فرنسا أنها المعارض الوحيد لهذا الاتفاق، علماً أن المحادثات استمرت 20 عاماً، فكيف يمكن تفسير هذا التباين في المواقف بينها وبين معظم الدول الأوروبية؟ السبب بحسب كزافيه هولندتس مرده إلى أن القطاع الزراعي في فرنسا لا يزال متنوعاً، فهناك مزارعون بأحجام مختلفة منها الضخمة أو المتوسطة أو الصغيرة المحلية، في حين أن ألمانيا وشمال أوروبا وجنوبها اعتمدت على مؤسسات زراعية عملاقة فهذه البلدان اختارت نموذجاً زراعياً صناعياً أكثر تنافسية.
ورأى الباحث نفسه أن مجموعات التوزيع العملاقة جزء من المشكلة لكونها أسست كل استراتيجيتها على تأمين منتجات بأرخص الأسعار، والسؤال المطروح اليوم هو أي نهج ستختاره هذه الشركات؟ فهل ستتوجه لشراء المنتجات الزراعية من أميركا الجنوبية على حساب المنتجات الأوروبية أم إنها ستستورد مواد زراعية لتحويلها إلى أعلاف ومواد محولة، مما سيمثل بالتالي تحدياً اجتماعياً واقتصادياً هائلاً فالمستهلك سيجد نفسه أمام منتجات أقل كلفة بخاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة لكن بنوعية أقل. في النهاية يعني ذلك أن الأوروبيين أمام خيارات غير عادلة وسيتمكن المستهلك الميسور من شراء منتجات ذات نوعية ليست بمتناول الأقل حظاً مادياً.
واعتبر أن السؤال الأهم الآن يتمثل في معرفة كيف سيتم تأمين الغذاء لـ9 مليارات نسمة بحلول عام 2050 بخاصة في ظل ظروف مناخية متفاقمة مع التصحر والجفاف وزيادة حموضة الأراضي الزراعية وارتفاع منسوب المياه، وهو موضوع شائك ومعقد. والحل يتطلب تغيير تقاليد الاستهلاك ومعرفة أن المنتج الأقل نوعية ليس الخيار الأمثل.
الهموم المناخية
من جهتها، رأت الأستاذة الباحثة في معهد كيدج وأستاذة محاضرة في جامعة السوربون 1، ميريام بن سعد، أن موقف رئيس الحكومة ميشال بارنييه، المعارض للصيغة الحالية للاتفاق على رغم أنه كان مواكباً للمحادثات على مدى أعوام مضت قضاها مفوضاً في المفوضية الأوروبية، يعود إلى سبب بسيط وهو أن الخطاب البيئي والهموم المناخية لم يكونا حاضرين بهذه القوة قبل 20 عاماً، والمجتمعات لم تكن تعير كل هذه الأهمية لتحديات المناخ والمسؤولية الاجتماعية.
وأكدت أن “ما كان مقبولاً في نهاية القرن الـ20 مع بداية المناقشات بات اليوم محط تساؤل، بخاصة في ما يتعلق بالمناخ والاستدامة والعدالة التجارية والتصحر، وهذه النقطة الأخيرة تتعلق بالبرازيل التي تملك مساحات واسعة من غابات الأمازون، إضافة إلى مسألة الأمن الغذائي والسيادة وهذه مسائل تحتل حيزاً مهماً في الفضاء العام وستستمر على هذا المنوال، إلى جانب ذلك تزامن إعلان قرب التوقيع على الاتفاق مع انعقاد قمتي (كوب 29) ومجموعة الـ20 مما سلط الأضواء على هذه المسائل”.
وفي رأي مريام بن سعد، فإن استيراد منتجات خرجت إلى النور على حساب قطع الغابات في الأمازون، يبدو غير مقبول، ويتعارض تماماً مع التزامات قمة المناخ واتفاق باريس 2015.
وتحت وطأة التغيرات المناخية التي شهدها العالم في الأعوام الأخيرة بات المزارعون في أوروبا أكثر تفهماً لقضايا المناخ والتحرر المناخي، مما يفسر تنامي الحذر بين المزارعين في أوروبا حيال اتفاق مركوسور، وهو ما يعكس أيضاً تبدل الأولويات.
وعللت عدم معارضة إسبانيا وألمانيا الاتفاق إلى العوامل التاريخية والثقافية التي تربط مدريد بأميركا اللاتينية، إذ ترى أن التبادل التجاري يعتمد على عوامل عديدة من بينها اللغة والثقافة والتاريخ المشترك.
أما ألمانيا فتقول بن سعد، “لديها سلة صادرات صناعية معقدة كالسيارات والآلات، وهذه صادرات ذات قيمة ربحية عالية كذلك المنتجات المحولة، وهي من مصلحتها أن تصدر منتجاتها لمواجهة هيمنة الصين والولايات المتحدة، كما هناك حاجة وطلب كبير في أميركا الجنوبية، إذاً، هناك مصلحة مشتركة”.
كما أن ألمانيا لا تعتمد على الزراعة وتلعب دوراً استراتيجياً أقل من فرنسا في القطاع الزراعي، فهذا القطاع يمثل في ألمانيا واحداً في المئة من الناتج المحلي الخام، إذاً هذا قطاع غير أساس بالنسبة إليها وما يهمها هو عدم إزعاجها في تصدير صناعاتها.
وحول قيمة هذا الاتفاق الذي سيحرر التجارة بين دول أميركا اللاتينية والاتحاد الأوروبي، تقول ميريام بن سعد، إنه يصعب تحديد الأرقام في ما يتعلق بحجم فرص العمل التي سيولدها، مشيرة إلى أن هذه السوق ستحقق ناتجاً محلياً خاماً بنحو ما يقارب الـ20 تريليون دولار، ما يعادل 16.5 للاتحاد الأوروبي و2.5 تريليون لاتفاق مركوسور، وستوفر المبادلات التجارية بين الكتلتين 90 مليار يورو (94 مليار دولار)، وذلك بفضل خفض الضرائب الجمركية على الصادرات الصناعية والزراعية.
وتعد الباحثة في معهد كيدج أن الموقف الفرنسي الرافض للصيغة الحالية للاتفاق عبارة عن “استراتيجية سياسية مدروسة”، فباريس تشتهر بحركاتها الاحتجاجية الاجتماعية، مما سيساعدها على أن تكون قوة ضاغطة تزن في المرحلة النهائية من المحادثات وتعزز قيادتها داخل الاتحاد الأوروبي.
وتتموضع فرنسا كمدافع عن مصالح المزارعين والبيئة في الاتحاد الأوروبي، مستندة إلى قرارات اتفاقات باريس 2015، المتعلقة بالمناخ، فأوروبا صارمة في كل ما يتعلق بأمن معاير الصحة والبيئية ومراعاة ومراقبة هذه المعايير محدودة في أميركا الجنوبية، لذلك ستسعى أوروبا إلى تعزيز مراقبة سلسلة المراقبة والمتابعة في سلاسل الإمداد لتأمين تطابق المعايير، أو التوصل مع الوقت إلى معايير مشتركة، وباريس تسعى إلى أن تلمع صورتها في هذا الدور أوروبياً.
هذا الاتفاق يعيد إلى الأذهان ما شهدناه في أوروبا من معارضة للمنتجات المعدلة جينياً القادمة من الولايات المتحدة نهاية الألفية الثانية، إذ كانت الخشية من المنتجات المعدلة جينياً وأثرها في الصحة. أما اليوم فالخشية ترتبط صحياً بالمنتجات القادمة من أميركا اللاتينية وعدم انسجامها مع معايير أمن الغذاء والبيئة كاستخدام الهرمونات والمضادات الحيوية، وبيئياً بالقضاء على مساحات شاسعة من غابات الأمازون لأغراض الزراعة وتصدير الأخشاب مما يتعارض مع مقررات قمة باريس 2015.
الحواجز الجمركية
ويساعد توقيع الاتفاق أوروبا على مواجهة الصين والولايات المتحدة، فألمانيا التي يعاني اقتصادها التراجع للعام التالي تؤيد الاتفاق لحاجتها إلى الحديد والمعادن النادرة وتنويع أسواقها وإيجاد منافذ لصادراتها الصناعية، كما ستستفيد فرنسا من هذا الاتفاق على الصعيد الصناعي، بخاصة في ما يتعلق بقطاع الدفاع.
وتعد المفوضية الأوروبية أن الاتفاق يأتي في أوانه، في وقت يعاني فيه اقتصاد الاتحاد الأوروبي الركود، وإعلان الرئيس المنتخب الأميركي دونالد ترمب الذي وعد بإعادة الحرب التجارية حتى على أوروبا عبر رفع الضرائب الجمركية يثير المخاوف والشكوك.
انتخابات غرف الزراعة
وعلى الصعيد الفرنسي يرى المحللون أن حركة الغضب التي انطلقت في الـ18 من نوفمبر الجاري تحت شعار معارضة توقيع الاتفاق مع بلدان أميركا الجنوبية، تعكس بالطبع مخاوف المزارعين من أوضاعهم التي تزداد صعوبة، بخاصة بعد أشهر من الاحتجاجات على رغم أن الحكومة رصدت 400 مليون يورو (417.5 مليون دولار) للمزارعين بعد احتجاجات عنيفة شهدتها فرنسا قبل 10 أشهر، لكن حركة الغضب هذه المرة تخضع لاعتبارات أخرى، سياسية أكثر مما هي اقتصادية، تتمثل بالانتخابات في غرف الزراعة المتوقعة في أواخر يناير 2025، التي تجري كل ستة أعوام.
انتخابات تعدها المحللة الاقتصادية آنياس لوران حاسمة وأساساً للتوازن في القطاع الزراعي، إذ تسعى الغرف الزراعية إلى التأكيد لقواعدها الشعبية أنها تصغي لهمومهم ولو أدى ذلك إلى خطر المزايدة، بخاصة أن الاتحاد الوطني للغرف الزراعية، القريب من هموم المزارعين مع 55 في المئة من الأصوات في 2019 يتعرض لمنافسة متصاعدة من قبل رابطة تنسيق المناطق الريفية، التي حصلت على 22 في المئة من الأصوات في الانتخابات السابقة، وهذه الرابطة التي تعد ذات توجه يميني ازدادت أصواتها بـ10 نقاط.
نقلاً عن : اندبندنت عربية