بينما يترنح العالم تحت وطأة الأسابيع الثلاثة الأولى من دبلوماسية الابتزاز التي ينتهجها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ينقسم المراقبون بين من يذهلهم هذا الاستعراض السافر للهيمنة الاقتصادية الأميركية، ومن يخشون أن يكون الرئيس الأميركي، وهو يسيء قراءة التحولات العالمية منذ ولايته الأولى، يمهد لمشكلات ستضعف مكانة الولايات المتحدة كقوة اقتصادية وأخلاقية خلال الأعوام الأربعة المقبلة.

وتقول صحيفة “الغارديان” عبر مقال بعنوان “في عصر ترمب الذي يعتمد على الدبلوماسية الابتزازية… كل شيء له ثمن”، فعلى مستوى معين، تبدو تصرفات ترمب مألوفة ومكررة، فقد أعلن سابقاً عن نهاية النظام العالمي الليبرالي الممتد لـ70 عاماً، عندما وصل إلى السلطة عام 2017، قبل أن يعاد إحياؤه لفترة وجيزة في عهد جو بايدن. وأضافت كانت قد أثيرت المخاوف الدبلوماسية عندما هدد ترمب خلال ولايته الأولى بالانسحاب من “ناتو” وأطلق حرباً تجارية مع الصين، وفرض حظر سفر استهدف دولاً ذات غالبية مسلمة، وانسحب من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ التي كان باراك أوباما من أبرز داعميها.

وأشارت إلى إسقاط ترمب خلال عام 2019 تهديده بفرض رسوم جمركية خمسة في المئة على المكسيك مقابل إرسالها 6 آلاف عنصر من الشرطة العسكرية إلى الحدود الجنوبية، قائلة إن “المظالم والمساومات كثيراً ما كانت المحرك الأساس لتفكير ترمب”. وأضافت، لكن ولاية ترمب تحمل عناصر جديدة، ففي ولايته الأولى استخدم التهديد بفرض الرسوم الجمركية وفرضها بالفعل لاستخلاص تنازلات تجارية من الصين والاتحاد الأوروبي، لكنه لم يعتمد عليها كأداة أولى وشاملة لتعزيز جميع تعاملاته الدبلوماسية.

وحتى الآن، واجهت كل من كندا والمكسيك وكولومبيا والصين وربما الاتحاد الأوروبي والدنمارك، تهديدات بفرض رسوم جمركية أو تطبيقها فعلياً، وتلقت بنما تحذيراً من غزو أميركي، فيما حذرت كندا من احتمال ضمها، أما بريطانيا فتقف متوجسة بصمت في الظل آملة ألا تلفت انتباه الرئيس.

وتقول الصحيفة سيردد أنصار ترمب أن تهديداته الجمركية الأسبوع الماضي أسفرت عن انتصارات سريعة، فقد رضخت كولومبيا في شأن المهاجرين ووافقت بنما على عدم تجديد مشاركتها في مبادرة “الحزام والطريق” مع الصين، فيما قدمت كندا والمكسيك تنازلات لتأمين تأجيل فرض رسوم جمركية 25 في المئة حتى إجراء مزيد من المحادثات المقررة قبل الرابع من مارس (آذار) المقبل.

وفي هذه الأثناء، ستعزز المكسيك حدودها بـ10 آلاف جندي إضافي، وستؤسس مجموعتي عمل في شأن المخدرات والحدود، فمن جهتها ستعين كندا “قيصر الفنتانيل” وتلتزم بتخصيص 200 مليون دولار كندي (140 مليون دولار أميركي) لجمع معلومات استخباراتية جديدة حول أنشطة العصابات.

وتابعت، في غضون ذلك يشكر الأمين العام لـ”ناتو” مارك روته، ترمب على تسليط الضوء على أهمية الأمن داخل غرينلاند والتهديد الذي تشكله روسيا في القطب الشمالي.

وخلال الوقت نفسه، قد تكون الصين تجري محادثات قبل يوم الإثنين المقبل يمكن أن تؤدي إلى التنازل عن السيطرة على منصة “تيك توك”، شبكتها الاجتماعية الشهيرة في الولايات المتحدة والغرب، أما أوكرانيا فعرضت على واشنطن معادن نادرة مقابل استمرار المساعدات الأميركية، ويبدو أن لكل شيء في الدبلوماسية ثمناً.

واستطردت الصحيفة “لكن هل تعد دبلوماسية الابتزاز الطريقة الأمثل لضمان المصالح الوطنية للولايات المتحدة؟ أم أن بإمكان ترمب تحقيق أهدافه من دون دفع العالم للعيش بصورة دائمة على حافة الأزمة؟”. وأشارت إلى أن الرئيسة المكسيكية كلوديا شينباوم تبنت بالفعل سياسة أكثر صرامة ضد عصابات المخدرات، غير أن ادعاء ترمب بأنها متواطئة مع زعماء هذه العصابات يجعل تحقيق التعاون ما بين البلدين أكثر صعوبة.

ممارسة الضغط الاقتصادي طويل الأمد

وأضافت، كثيراً ما هدد الرؤساء الأميركيون القوى الأخرى بأسلوب فج مستخدمين النفوذ الاقتصادي لتحقيق ذلك، قائلة إن الهيكل الحديث للعقوبات ونفوذ الدولار أصبحا وسيلة مؤسسية لممارسة الضغط الاقتصادي طويل الأمد بهدف تغيير سلوك الآخرين. وأشارت إلى أن أولى العقوبات الصادمة ضد روسيا بعد غزوها لشبه جزيرة القرم عام 2013 كانت تهدف، وفقاً للبيت الأبيض، إلى زعزعة استقرار الروبل (العملة الروسية)، لكنها فشلت في نهاية المطاف. وقالت الصحيفة على رغم أن العقوبات هي حرب استنزاف، فإن دبلوماسية “الابتزاز” التي يتبعها ترمب تزدهر في المواجهات رفيعة المستوى التي تنتهي بفوز طرف على حساب الآخر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويتضمن نهج ترمب رفضاً ضمنياً لفكرة التحالفات نفسها، أو أن للولايات المتحدة أهدافاً أيديولوجية مشتركة مع دول أخرى. فقد كتب هنري كيسنغر قبل عقد من الزمن أن “الرؤساء الأميركيين كثيراً ما أوحوا بأنه بينما تمتلك الدول الأخرى مصالح أنانية، فإن أميركا لديها مبادئ “.

فمن روزفلت وويلسون إلى كينيدي تبنت الولايات المتحدة دور الضمير العالمي ثم دور شرطي العالم، بينما على النقيض لا يتظاهر ترمب في خطابه بأن الولايات المتحدة تعمل من أجل الصالح العام للعالم.

وأضافت الصحيفة “عند التلويح بفرض الرسوم الجمركية، لا يوجد حتى دفاع عن النظام التجاري العالمي أو عن مبادئ السوق الحرة، لقد جُرد كل هذا البناء الأيديولوجي ليبقى الأمر مجرد استغلال للقوة الاقتصادية لتحقيق المصالح الأميركية، سواء تعلق الأمر بخفض الهجرة أو وقف تدفق المخدرات أو تعزيز الوظائف والمصانع الأميركية، وتطرح بعض الحجج الداعمة مثل عدم عدالة الممارسات التجارية الصينية أو سرقة براءات الاختراع الأميركية، لكن هذه القضايا تُترك للولايات المتحدة لتعلنها وتتصرف بناءً عليها بصورة أحادية، من دون الرجوع إلى أية هيئة تحكيم مستقلة”.

ترمب وثلاثة أخطار

وبالنسبة إلى ترمب يكمن الخطر في ثلاثة أوجه، أولاً الاعتداء على الأطراف الأضعف مثل المكسيك وهو أمر لا يثير الإعجاب، لكن مواجهة الصين أو الاتحاد الأوروبي أمر مختلف، وعلينا أن ننظر بعمق إلى ما قاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “إذا تعرضت مصالحنا التجارية للهجوم، فإن أوروبا بوصفها قوة حقيقية ستجعل نفسها موضع احترام، وسترد وفقاً لذلك”، ولا يرى معظم الاقتصاديين أن هناك فائزين في الحروب التجارية بين القوى العظمى، إذ تميل هذه المواجهات إلى الإضرار بكلا الجانبين وتعطيل سلاسل التوريد العالمية.

ثانياً، مع نمو قوة الاقتصادات المتوسطة الدخل قد تميل هذه الدول نحو المعسكر الصيني باعتباره المسار الأكثر أماناً واستقراراً، وكلما قلصت الولايات المتحدة من موارد قوتها الناعمة مثل مساعداتها، أصبح من المرجح أن تزداد حال العزلة، وثالثاً، إن نظرية المجنون كوسيلة لإبقاء الخصم في حال تخمين لها حدود، كما أشارت الأستاذة المساعدة في العلوم السياسية بجامعة ولاية بنسلفانيا روزان ماكمينوس، أخيراً في مجلة الشؤون الخارجية.

ولنتذكر ما قاله ريتشارد نيكسون لرئيس أركانه أتش آر هالدمان عام 1986 “أريد أن يعتقد الفيتناميون الشماليون أنني وصلت إلى النقطة التي قد أفعل فيها أي شيء لوقف الحرب”، مقترحاً أن مستشاريه يمكنهم إخبار الفيتناميين الشماليين بأننا لا نستطيع كبح جماحه عندما يكون غاضباً، وهو يضع يده على الزر النووي.

وبعد وقت قصير من توليه منصبه، حاول نيكسون وكيسنغر مستشاره للأمن القومي، القيام بذلك على وجه التحديد، وبناء على تعليمات كيسنغر أثناء زيارته موسكو أخبر مستشار البيت الأبيض ليونارد غارمنت المسؤولين السوفيات بأن نيكسون كان “شخصية مفككة بصورة كبيرة” و”قادرة على القسوة الهمجية”، و”مصاب بجنون العظمة إلى حد ما” و”غير قابل للتنبؤ بتصرفاته”، وفي النهاية اضطر كيسنغر إلى الاعتراف بأن هذه الحيلة فشلت، وأن فيتنام لن تستسلم مهما كان الثمن.

نقلاً عن : اندبندنت عربية