مع بداية كل عام، تتجه الأنظار نحو توقعات السنة الجديدة وتأتي التوقعات من كل حدب وصوب لتسيطر على الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي، فإذا بها تحقق أعلى نسبة مشاهدات على رغم الانتقادات الكثيرة للمنجمين والتشكيك في صدقية أقوالهم التي تربط مصير ملايين المشاهدين والمتابعين بحركة الكواكب، وكأن هذه المرحلة تشكل مناسبة ذهبية لإطلاق العنان لكل ما يمكن توقعه في شأن المستقبل المجهول للناس، سواء في ما يتعلق بتلك الشخصية أو بتلك التي ترتبط بالوضع العام من النواحي كافة.
هكذا يتحول منجمون يعرّفون عن أنفسهم بأنهم علماء فلك إلى نجوم الشاشات في هذه الفترة من السنة وقد لا تتمكن شخصيات كثيرة من منافستهم في ذلك، وتحقق توقعاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي ملايين المشاهدات. فإذا كان كثيرون يشككون في مصداقية هذه التوقعات، فما سر هذا الرواج الذي تحققه في هذه الفترة من السنة، وأي سبب وراء ارتفاع الأرقام المرتبطة بمعدلات متابعتها؟.
اهتمام رغم التشكيك
خلال الأيام الأخيرة من عام ينطوي ومع حلول عام جديد، تركز وسائل الإعلام كافة ومنصات التواصل الاجتماعي على توقعات المنجمين وعلى مقتطفات من تلك السابقة بصورة تؤكد مصداقيتها في مراحل معينة من السنة. وثمة استراتيجية تسويق واضحة تلجأ إليها هذه المنصات لجذب مزيد من المهتمين بهذا المجال، إلا أن استراتيجياتهم التسويقية هذه ما كانت لتنجح لو لم يكُن هناك إقبال متزايد من قبل الناس على هذه التوقعات التي يمكن أن تكشف لهم عن حقائق لا يعرفونها حول الأيام المقبلة في عام جديد يحيط به الغموض، حتى إن كثيرين يخططون للأيام المقبلة وللمستقبل بناء على هذه التوقعات، مما تعول عليه المنصات بالفعل معتمدة على جانب لا حد له في ما يمكن أن يكشفه من أسرار عن المستقبل المجهول على الصعيدين الشخصي والعام.
قبل سنوات، كان الانتشار الذي يحققه المنجمون يقتصر على وسائل الإعلام إلى أن أتت وسائل التواصل الاجتماعي لتسهم في الترويج لهم بين مختلف الفئات العمرية. فهم يخاطبون متابعيهم بطرق تلامسهم عن قرب وتركز على اهتماماتهم الأساسية وتخاطب مشاعرهم. لذا بات المنجمون يؤثرون في الناس بمعدلات أكبر، على رغم كثرة منتقديهم والمشككين في صحة أقوالهم، علماً أن مراقبة الفلك والتنجيم من الظواهر الموجودة من قديم الأزمنة وليست مستجدة، فالتاريخ يحدثنا عن “عرافة دلفي” وهي الوسيط الروحي وكاهنة الإله أبولو التي عاشت في القرن الثامن قبل الميلاد، بالتالي فحب الناس للكشف عن المجهول ومعرفة ما يخبئه المستقبل من الظواهر المعروفة من قرون مضت لأن طبيعة الإنسان تجعله يميل إلى الكشف عن المجهول وتصديق كل ما يتعلق به. لكن آلية التنبؤ وأساليبه والمواضيع التي يركز عليها اختلفت اليوم لتواكب متطلبات العصر. فهناك تركيز اليوم على تلك التي تتعلق بالسياسة والظواهر الطبيعية والأحداث الفنية في ظل التقلبات التي تحصل في هذه المجالات حول العالم وفي منطقتنا خصوصاً.
قلق من المجهول
في هذا الإطار، تشير الاختصاصية في المعالجة النفسية كارول سعادة إلى أن كثيرين يترقبون توقعات الأبراج وتلك التي تحكي الطالع وتتحدث عن الوضع العام في مختلف الأوقات، خصوصاً مع بداية كل عام جديد، وتكون الحشرية من الأسباب الأساسية وراء ذلك. لكن ثمة دوافع أخرى وأسباباً تتخطى الحشرية وترتبط بالشخصية بالدرجة الأولى وبالحاجة إلى الاطمئنان والشعور بالأمان من جهة ثانية، مما يفسر الإقبال الكثيف للناس مع بداية العام على متابعة هذه التوقعات. فهذه الفترة من السنة تحمل معها شيئاً من الغموض والمجهول، ويشعر كثيرون بالراحة والأمان للكشف عن شيء من هذا المجهول، وتوقع ما يمكن أن يحصل خلال العام الجديد من بدايته، سواء كان ما يكشفون عنه إيجابياً أو سلبياً بالنسبة إليهم. وهم يتقبلون أي نوع من الأخبار ما دام أنها تكشف أمراً ما عن المستقبل، فتشعرهم بشيء من الأمان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتضيف أن “القلق الوجودي لدى الإنسان والقلق حيال المجهول والمستقبل يعتبران حالاً طبيعية موجودة لدى الناس، فعند الكشف عما يتعلق بالمستقبل يشعر الإنسان بالسيطرة على الأمور التي قد يصادفها. في الوقت نفسه فإن من يعاني قلقاً زائداً قد يكون الأكثر تأثراً بالتوقعات فيركز عليها ويتابعها علّه يجد بذلك الشعور بالأمان والاطمئنان الذي يبحث عنه. لكن أيضاً هناك شخصية معينة هي الشخصية الفصامية التي تعتبر أكثر ميلاً لتصديق أفكار قد تكون بعيدة من الواقع أو يمكن أن تكون خرافية. وتعتمد هذه الشخصية على الإحساس أكثر من اتكالها على المنطق، فتكون أكثر عرضة لترقب التوقعات، وتتحول إلى هاجس لأنها تعني لها كثيراً وترتبط حياتها بها. هؤلاء هم من يترقبون توقعات الأبراج يومياً وترتبط حياتهم بها وتتأثر تحركاتهم وأنشطتهم ولو كان ذلك بعيداً من المنطق”.
تجارب سابقة
صحيح أن الحشرية تقوم بدور وكذلك الرغبة في معرفة المجهول لتأمين الشعور بالأمان مما يسهم في تعزيز الرغبة في متابعة التوقعات، لكن يبدو أن تجارب سابقة للإنسان لم تكُن لها حلول وتعرض فيها لصدمات يمكن أن تقوم بدور في ذلك أيضاً، فتقوده إلى استباق قلق للمستقبل. وهذا القلق الزائد الذي يعانيه الشخص يدفعه إلى البحث عما يكشف له تفاصيل عن المستقبل بصورة مسبقة ليشعر بالاطمئنان، ويتعلق بالتوقعات ليعرف ما سيحصل له، خصوصاً تلك التي قد تكون سلبية لأنه يعتبر أنه قد يتمكن من التدخل بطريقة من الطرق لمعالجتها على نحو استباقي إذا كان يعرفها، وعندها يشعر بأن الأمور تحت السيطرة.
من جهة أخرى، تشير سعادة إلى أن الخطر يزيد هنا على الإنسان حين يتعلق بصورة زائدة بالتوقعات وبأسلوب يجعلها تسيطر عليه وعلى حياته وكأنها تتملكه، ففي هذه الحالات تزيد التداعيات السلبية على حياته المهنية والعائلية وإنتاجيته وروتين حياته. ومن يعيشون هذه الحال قد يكونون أكثر عرضة للقلق والاكتئاب لأن حياتهم ترتبط بالتوقعات.
مما لا شك فيه أن المنجمين وأيضاً وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي تعوّل على الأشخاص الذين يتطلعون إلى متابعة التوقعات ويترقبونها بفارغ الصبر. وهؤلاء هم الأشخاص الذي يصدقون ما يقال لهم أكثر من غيرهم ومن بينهم الشخصية الهستيرية، بحسب سعادة، إذ ينجذبون أكثر إلى التوقعات ويُدخلونها في حياتهم الشخصية وتؤثر فيهم بصورة خاصة. ومن شدة التأثر بالأبراج، قد يعيش كثيرون حال قلق من المستقبل، ويغرقون في إدمان الأفكار الخيالية. وهؤلاء يصبحون خاضعين للمستقبل ويتعلقون بأسراره وبمن يكشفها لهم. وهنا تكمن الخطورة إذ تتحول الرغبة في الكشف عن المستقبل إلى هاجس. وعندها تخرج متابعة التوقعات والأبراج عن الإطار الطبيعي وتبتعد إلى حد كبير من جانب التسلية والمرح الذي قد يجده بعضهم فيها، مما ينمي حس الخضوع لأحداث قد لا تحصل، ويزيد القلق على المستقبل عندما يصبح مصير الحياة مرتبطاً بهذه التوقعات.
نقلاً عن : اندبندنت عربية