تتسم قصص محمد عبدالجليل بالانتقالات المكانية مما يوسع دائرة السرد ويعمل على تشعبه. فبعد أن يصف المكان في قصة “الحافلة” وصفاً عاماً بعيداً من التحديد، ينتقل إلى تحديد هذا المكان: “مؤخرة حافلة ضخمة تسير بسرعة لم يرَ لها مثيلاً من قبل”. هذه الحافلة التي كان من المفترض أن تنقل السارد إلى هدفه أصبحت رمزاً للمتاهة، فلا يعرف الركاب موضعاً لانطلاقها ولا هدفاً لسيرها المتواصل. ويشعر الجميع أنهم “سجناء” تلك الحافلة التي تتخذ أبعاداً رمزية كثيرة. فالسارد يعرف أنه “محبوس” من تلقاء نفسه، لا يحتاج إلى إشارة أو أي أحد يؤكد له هذا الأمر أو ينفيه، حدسه يؤكد له هذا. ووسط هذه المتاهة التي طالت ولا يعرف أحد لها نهاية تتغير ملامح الشخصية الرئيسة، فلم يعد يشبه أولئك الذين يعيشون في العالم الخارجي ولم يعودوا يشبهونه: “صار شخصاً غريباً عنهم، وأصبحت له هيئة مختلفة، صورة شبح مرعوب يخشى حتى ظله”. وهكذا تتحول الحافلة والركاب إلى أشياء غامضة لا يجد لها السارد تفسيراً. فهل يمكن أن نقول إنها رحلة الحياة التي أجبر الإنسان على اجتيازها من دون أن يعرف طبيعة نهايتها أو متى تنتهي؟ هذا أحد التأويلات الواردة.
أبعاد فانتازية
تقترب هذه القصة من مسرحية “مسافر ليل” لصلاح عبدالصبور، فالحافلة – في القصة – توازي القطار في المسرحية، ويتخذ “الكمساري” طبيعة الشخصية المستبدة نفسها، بل إن الكاتب يقدمه بصورة مرعبة تقترب من الفانتازيا، فهو “طويل لا يكاد يرى وجهه خلال الظلام الذي تغوص فيه الحافلة، لكنه يلمح المسدس الذي يحمله في جانبه، ويعرف أنه جاهز لرميه بالرصاص، إذا ما أتى فعلاً غير محمود”. وتظهر هذه الفانتازيا على مستويات عديدة، فالمكان يتسع وينكمش هكذا من تلقاء نفسه، كما تبدو في رسم شخصية تلك “المرأة البدينة” التي تجاور السارد في تلك الرحلة الغامضة، “حينما يباغتها الجوع لم تكن مثل أي شخص آخر تطلب شيئاً لتأكله، وإنما كانت تمد يداً لتنزع أحد أصابعي لتأكله”. وتستمر هذه المرأة على تلك الصورة حتى تسقط ميتة في أرض الحافلة، ساعتها يقتل السارد خوفه من “الموت والمجهول والحافلة”. تتضح في هذه القصة وغيرها تقنية الانتقال من ضمير الغائب إلى المتكلم والعكس، مما أكسب السرد حيوية لافتة.
وفي كثير من القصص يوظف الكاتب تقنية الاسترجاع، ومنها قصة “الفانوس” حين يبدأ السرد من اللحظة الحاضرة، لكنه سرعان ما يرتد إلى الماضي، لمرحلة الطفولة، فيتذكر السارد أمه التي اشترت له فانوساً قائلة له “إنه أغلى فانوس في القرية كلها، لا تفرط فيه أبداً”. والغريب أنه بمجرد سرقة هذا الفانوس ترتبك حياة السارد وتسوء حاله، بينما يكون سبب صعود ابن خالته – الذي سرقه – إلى درجة أن يصبح وزيراً. وفي القصة نفسها نجد توظيفات لتقنية “الحلم” و”الثغرة الزمنية” التي تمر على أحداث كثيرة من دون تفصيلها أو ذكرها أصلاً.
القرية الملعونة
في قصة “لا أحد يضحك، لا أحد يبكي”، يشعر أهل إحدى القرى أنهم منساقون إلى منحدر ينتهي بهم إلى هاوية سحيقة، وأن كل يوم يأتي هو أسوأ مما مضى، وأنهم أصبحوا لا يقدرون على الضحك أو البكاء، ولا يجدون تفسيراً لذلك سوى أنها “لعنة من الله أو ربما الشيطان نفسه”. وأخيراً يستعينون بإحدى العرافات التي تخبرهم بأنه يجب عليهم أن ينتظروا مولوداً جديداً، “بقدومه سينحل هذا الوضع المعقد”. لكن المولود يأتي ميتاً، ولا تملك العرافة إلا أن تطلب منهم مغادرة القرية لأنها “أصبحت معطوبة”. واللافت أن السارد تعاوده رغبة قتل الأم ربما بوصفها رمزاً للماضي الذي يود الخلاص منه بعد أن أفضى بهم إلى ذلك المصير. يقول: “لدى عودتي وجدت حال أمي تسوء – كان يبدو أنها أصيبت بمرض قاتل غير الذي أصبنا به جميعاً – فعاودت فكرة قتلها تلح على رأسي مجدداً”.
لقد أصبحت الطبيعة بديلاً للأم، أصبحت هي الأم الحانية التي يود السارد التماهي معها. كما يبدو في قوله “فتحت النافذة ووجدت القمر طالعاً، فتذكرت الصغير، وفكرت: ما أجمل أن يكون المرء قمراً”. وفي قصة “رصاصة بين عيني الكاذب وابن الحرام”، تصادفنا فكرة العراف الكاذب الذي يدعي اطلاعه على بعض الغيب، فيخبره السارد أنه يفكر في ترك وظيفته وينصحه بعدم فعل ذلك، ويشير إلى رجل ويقول إنه سيذهب غداً إلى السوق لشراء بقرة وستُسرق أمواله ويتسبب ذلك في طلاق امرأته. وتظل عبارة “رصاصة بين عيني الكاذب وابن الحرام” لازمة له، وكان من المتوقع – نتيجة كذبه الذي يصادف الواقع أحياناً – أن يموت بطلقة بين عينيه، ويكتشف الجميع أنه كان يتلصص على أخبار أهل القرية ليلاً ثم يذيعها نهاراً. كما يكتشف السارد أن كل “هذا الفشل الذي أحاط بحياته يرجع إلى أنه بناها على نبوءة رجل مهرج”. لكننا نجد الفانتازيا في أعلى درجاتها حين يتحول رأس الموظف المثالي المطيع إلى رأس دجاجة، ولا يملك إلا أن يداريه عن الآخرين بإدخاله في تجويف صندوق، حتى يكتشف أمره ويصبح حديث الإعلام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إننا أمام عملية مسخ لم يستطع هذا الموظف الإفلات منه. لكن لماذا اختار السارد رأس الدجاجة تحديداً؟ أظن أن ذلك راجع إلى أنه طائر مدجن لا يستطيع التحليق بعيداً، وهو – في ذلك – شبيه بحياة ذلك الموظف الذي يصفه السارد بقوله إنه “قد أدرك الآن أن سر لعنته – هو في الواقع كان سر تفوقه كموظف – أنه كان شديد الانضباط، لا يعرف سوى الطاعة مهما كان الأمر… وأنه عرف أن الإنسان أحياناً يحتاج إلى أن يقول لا، أن يخرج على المألوف ولو قليلاً، كي يكون إنساناً بحق”. وبعد انكشاف أمره يختفي من المؤسسة. ويقول أحد الموظفين: “لعله طار”، ويرد آخر: “مستحيل”. لكن الحقيقة التي أكدها الموظف الأول هي أن “الدجاج أيضاً بإمكانه الطيران إذا أراد”. فالأمر كله مرهون بالإرادة، إرادة التحرر من القمع حتى وإن اتخذ اسم “الطاعة”.
الحي الميت
تقدم قصة “إعدام الممثل الشاب” تيمة غريبة وإن لم تكن جديدة، وهي فكرة “الحي/ الميت”. الحي الذي يتحرك ويأكل بينما لا يشعر بنبض الحياة ويحس – في أعماقه – أنه ميت. يقول السارد مقدماً هذه الشخصية: “إنه لا يتنفس، يحاول أن يجس نبضه في يده اليسرى، لكنه يعرف أنه لا نبض هناك، فقط يسمع الصمت المريع”. وهو أمر أصابه بالرعب، إذ كيف لا يتنفس ولا يشعر بالنبض، والأمر الأكثر رعباً هو شعوره بأنه قد أصبح كائناً غير مرئي. وعندما تسوقه الأقدار إلى العمل ممثلاً في إحدى الفرق المسرحية يختارون له دور الثعلب الشرير الذي سيعدم لأنه أزعج الخنازير. مرة أخرى يجيد الكاتب اختيار رموزه، فمثلما اختار “الدجاج”، يختار – هنا – رمز الثعلب الذي لا يقدر على مواجهة هذه الخنازير فيكتفي بإزعاجها. فهل يكون هذا الثعلب رمزاً لمن يجيدون “التحايل” للتغلب على عجزهم بينما تكون الخنازير رمزاً للمستغلين القادرين على قهر الآخرين؟ وفي قصة “مأساة رجل عادي” يصبح التمثيل هرباً من الواقع لا تحايلاً عليه.
بطل هذه القصة شبيه بالبطل السابق، “لا يأبه لوجوده أحد”، فيشعر أن كل الناس حاضرون بينما هو الغائب الوحيد. وينتقل هذا الإحساس بالغياب معه من موقف لآخر إلى أن يرى عجوزاً تركض خلف أتوبيس فيحاول مساعدتها بناءً على نصيحة معالجه النفسي الذي أمره أن يكون إيجابياً. وبعد أن تستقر السيدة داخل الأتوبيس يكتشف أن كل هذا كان مشهداً سينمائياً، فيحمد الله أن كل ما مر به “لم يكن حقيقياً”. وفي قصة “هكذا يظن نادر”، يوظف الكاتب تيمة “النهاية المفتوحة”، إذ لا يدري “نادر”- في نهاية القصة – إن كان صوت مزلاج الباب الخارجي يدل على حضور الفتاة التي أتت لتحرره من سجن غرفته، أم صوت رجال الشرطة جاؤوا للقبض عليه.
نقلاً عن : اندبندنت عربية