من الشمال إلى أقصى الجنوب تزخر مصر بقصور مهيبة ذات معمار فريد، بعضها مسجل كأثر مما يوفر لها الحماية والصيانة الدورية، وتكون تبعيتها بالكامل لوزارة الآثار المصرية، وهناك قطاع آخر من القصور مسجل كمبنى ذي تراث معماري متميز في الجهاز القومي للتنسيق الحضاري ويوفر له هذا الحماية من الهدم.
بعيداً من صيانة وزارة الآثار أو حماية أي جهاز قومي، هناك عدد كبير من القصور الفريدة منتشرة في كامل أنحاء مصر، يعود بعضها إلى عصر أسرة محمد علي أو إلى أعيان النصف الأول من القرن الـ20 الذي شهد طفرة معمارية كبرى، ومع الزمن أصبحت هذه القصور لا تخضع لأي جهة وأحياناً تكون مهجورة أو مملوكة لشخص أو جهة وفي غالب الأحوال لا تحظى بالاهتمام وتسوء حالتها مع الزمن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ربما يعتقد بعض الناس أن القصور الفاخرة في مصر تتركز في القاهرة أو في المدن الكبرى لكنها تنتشر في كامل أنحاء البلاد، فغالب المحافظات المصرية تضم قصوراً ذات قيمة معمارية وتاريخية فريدة لكن معظمها يحتاج إلى عناية وحماية من أي أخطار، فبالفعل هناك عديد من القصور فقدت نتيجة للإهمال أو لرغبة أصحابها في التخلص منها لاستغلال الأرض في ما يدر الربح.
من الإسكندرية إلى الصعيد
على رغم انتشار القصور في جميع أنحاء البلاد فإن هناك محافظات بعينها تضم مجموعات شديدة التميز، وعلى رأسها مدينة الإسكندرية، حيث أقامت فيها جاليات مختلفة من جنسيات متعددة مما أدى إلى وجود كثير من القصور الفخمة المبنية على أنماط أوروبية، هذا إلى جانب أنها كانت مقراً صيفياً للحكم إبان فترة أسرة محمد علي، لذلك توفرت فيها قصور ملكية أصبحت حالياً رئاسية مثل قصري رأس التين والمتنزه، إضافة إلى عديد من القصور والمباني ذات المعمار المتميز في جميع أنحاء المدينة.
المشهد الشهير الذي صوره الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة منذ 37 عاماً في المسلسل الشهير “الراية البيضا” عندما هدمت فضة المعداوي التي جسدتها الراحلة سناء جميل الفيلا ذات التاريخ العريق، أصبح واقعاً ملموساً في الإسكندرية خلال العقدين الأخيرين، حيث هدمت بالفعل كثير من المباني التراثية ذات القيمة الفريدة والتاريخ الطويل ومن بينها فيلا شيكوريل التي أممت في الخمسينيات وتحولت إلى مقر تابع للرئاسة قبل أن تباع، وفيلا أجيون التي صممها المعماري الفرنسي أوجوست بيريه، وفيلا أمبرون التي عاش فيها لفترة الروائي البريطاني لورانس جورج داريل وكانت مسجلة ضمن مجلد الحفاظ على التراث ونجح ملاكها في الحصول على حكم قضائي بإخراجها منه ومن ثم أصبح يحق لهم هدمها.
من بين القصور التي هدمت أيضاً في الإسكندرية قصر سليم وبشارة تقلا مؤسسي صحيفة “الأهرام”، وكان هذا القصر مستخدماً لفترة كمقر للحزب الوطني وكان مسجلاً كتراث مميز وبعد ثورة عام 2011 تسلمه ورثة آل تقلا الذين باعوه قبل أن يتعرض للهدم.
وفي سياق مختلف فإن واحداً من أجمل قصور الإسكندرية وهو قصر عزيزة فهمي بمنطقة جليم قد عادت له الحياة بعد مشروع متكامل لترميمه بعدما ظل مهملاً لمدة 56 عاماً بسبب نزاع قضائي، وفي منطقة الزمالك بالقاهرة يقع قصر شقيقتها عائشة فهمي الذي تستخدمه وزارة الثقافة كمركز ثقافي في واحدة من أنجح تجارب استغلال القصور التاريخية.
ويزخر صعيد مصر أيضاً بقصور تعكس روعة المعمار، وبعض منها كان شاهداً على أحداث تاريخية لكن بعضها تعرض للهدم، ففي الأقصر جنوباً هدم قصر أندراوس باشا عام 2021 وكان يقع بجوار معبد الأقصر، بدعوى تعرضه للتصدع وأنه آيل للسقوط بعد تنقيب أشخاص عن الآثار والحفر بجوار أساساته.
وهدم أيضاً قصر حياة النفوس وهي أميرة من الأسرة العلوية وكان يقع في مدينة ملوي بمحافظة المنيا ويعود لأوائل القرن الـ20، وكان مبنياً على الطراز الأندلسي، وبعد وفاتها، تعرض للإهمال حتى اشتراه أحد المقاولين، واستغل الفراغ الأمني في البلاد عام 2013 ليهدمه على رغم أنه كان مسجلاً كتراث معماري متميز.
من بين القصور التاريخية التي يضمها الصعيد أيضاً قصر مكرم عبيد باشا في محافظة قنا وهو حالياً بحال سيئة وتعرض لانهيارات جزئية، وقصر فاضل باشا الذي كان حاكم قنا في عهد الخديوي إسماعيل وهو مهجور تماماً وتعرض لحرائق عدة.
تراث معماري مميز
عدد ليس بالقليل من البنايات في مصر سواء كانت قصوراً أو عمارات ذات طراز معماري فريد مسجلة بالفعل في جهاز التنسيق الحضاري كتراث معماري متميز، لكن يحدث تحايل في بعض الحالات، لهدمها واستغلال الأرض.
أستاذ العمارة والتخطيط العمراني سهير حواس تقول “المبنى المسجل كتراث معماري متميز يختلف عن الأثر، فالآثار لا بد من أن يتخطى عمرها 100 سنة وأن تسجل كأثر، ولا يشترط طبيعتها، فقد تكون مبنى أو قطعة أثاث أو وثيقة وغير ذلك، أما في حال المباني التي تسجل كتراث معماري مميز فهي لا يشترط أن يكون مر عليها 100 عام لكن يكون له قيمة معمارية أو تاريخية متميزة أو يكون شهد أحداثاً تاريخية مهمة أو صممه معماري من الرواد بنمط فريد، فهناك معايير عدة أساسها القيمة وليس الزمن، وإذا سُجل المبنى كتراث معماري فريد يمنع هدمه أو تغيير واجهاته كذلك ينبغي الحفاظ على السمات الفريدة التي تميزه من الداخل”.
وتوضح “تخضع هذه المباني للقانون 144 لسنة 2006 وهو لا يمنع من امتلاكها أو السكن فيها أو حتى تأجيرها، فهي في النهاية مبانٍ عادية ملك لأصحابها، قد تكون عمارات أو قصوراً أو غير ذلك، وهناك كثير جداً من الأماكن في مصر تنتشر بجميع المحافظات لا تزال تحتاج إلى التوثيق وإلى إدراجها كتراث معماري متميز، ففي دول أوروبا على سبيل المثال تعتمد عليها السياحة بصورة كبيرة”.
وعن كيفية خروج بعض القصور من قائمة التراث المعماري المتميز ومن ثم فقدان كثير منها بالهدم، تقول حواس “يحدث ذلك لأسباب عدة من بينها أن يؤول المبنى لورثة ليس لديهم الوعي بقيمة التراث فيلجأون للقضاء مدعين أنه ليس له قيمة، ويطلب القضاء مهندساً أو خبيراً لإبداء الرأي وقد يكون غير متخصص أو ليس على دراية بأهمية المكان، وينجح المالك في الحصول على حكم قضائي بأن المبنى لا قيمة خاصة له، ومن ثم يقوم بهدمه واستخدام الأرض في أغراض تدر عليه عائداً”.
وتستكمل “هناك نقطة أخرى تتمثل في أن مالك المبنى سواء كان عمارة أو قصراً يحتاج إلى إجراء صيانة دورية لتبقي على حالته، مما يتطلب مبالغ كبيرة قد لا تكون بحوزته ومن ثم لا بد من العمل على إيجاد مصادر تمويل لصيانة هذه المباني، حتى لا يشعر المالك بأن المكان أصبح عبئاً فيسعى إلى الخلاص منه بطرق مختلفة”.
قصور وسط البلد
في الآونة الأخيرة ومع اتجاه الدولة لنقل المؤسسات الحكومية من قلب القاهرة، أزيلت صفة النفع العام عن كثير من القصور التاريخية التي كانت تشغلها مقار حكومية ونقل ملكيتها إلى صندوق مصر السيادي مما أثار كثيراً من التساؤلات عن مصير هذه القصور وكيف سيعاد استغلالها بخاصة مع تداول أنباء في الفترة الأخيرة عن وجود نية لمشروع تطوير للقاهرة الخديوية ومنطقة وسط البلد.
من بين هذه القصور قصر الأميرة فائقة هانم ابنة الخديوي إسماعيل بالتبني، وكان مقراً لوزارة التربية والتعليم، وقصر علي حيدر باشا أميرالاي أسوان في عهد الوالي سعيد باشا الذي كانت تشغله وزارة الصحة، في الوقت ذاته تضم منطقة وسط القاهرة كثيراً من القصور المغلقة وغير المستغلة التي تتعرض لإهمال شديد، من بينها قصر سعيد حليم باشا الواقع بشارع شامبليون، فهذا المبنى مسجل كأثر إلا أنه مهجور ولا يوجد أي استغلال له على رغم روعته وجمال معماره.
من بين المباني التي يطاولها إهمال كبير فيلا حافظ بك المنشاوي في شارع الشيخ ريحان بوسط القاهرة، حيث تحول المبني إلى مقر حكومي ثم إلى مدرسة، ومنذ أعوام وهو في حال من الإهمال الشديد فساءت حالته وهو حتى غير مسجل على قوائم التراث المعماري المتميز، على رغم روعة معماره، وفي الشارع نفسه يقع مبنى آخر على طراز فريد وهو فيلا فيضي باشا، ومنذ أعوام طويلة اشترتها الجامعة الأميركية بالقاهرة التي كان مقرها القديم قريباً من الفيلا من أحفاد الباشا واستخدمتها فترة كقاعات إضافية للدراسة، ثم انتفي هذا الغرض وتحول القصر إلى مخزن للأثاث غير المستعمل والزائد على حاجة الجامعة، بخاصة مع نقل مقرها إلى منطقة التجمع الخامس (شرق القاهرة) وعدم وجود دراسة بالمقر القديم.
منطقة وسط البلد المعروفة بالقاهرة الخديوية تضم عشرات من المباني التراثية ذات المعمار الفريد، منذ أن بُدئ في إنشائها بعصر الخديوي إسماعيل الذي نقل الحكم من قلعة صلاح الدين إلى سراي عابدين الواقعة بوسط القاهرة حالياً، وعلى أثر ذلك امتد العمران واتجه الأمراء وعلية القوم آنذاك إلى بناء القصور في هذه المنطقة ليكونوا قرب مقر الحكم الجديد.
يوضح أستاذ العمارة والآثار بجامعة القاهرة محمد حمزة أن “هناك قصوراً في مصر من عصور مختلفة لكن العدد الأكبر يعود لعهد أسرة محمد علي، سواء لأفراد الأسرة ذاتهم أو لآخرين عاشوا في هذا الزمن، إضافة إلى الاستراحات الملكية التي كانت منتشرة في جميع أنحاء البلاد، بعد ثورة يوليو (تموز) 1952 صُودر غالب هذه القصور وتحولت إلى مقار للحزب الاشتراكي أو لوزارات ومؤسسات حكومية، وبعضها حُول إلى مدارس ولم يكن هذا هو الاستغلال الأمثل لها، فكثير منها ساءت حاله ولم يعد له الرونق نفسه، أخيراً انتقلت معظم المؤسسات التي كانت تشغل هذه القصور إلى العاصمة الإدارية، ولا أحد يعرف إلى ماذا سيؤول مصيرها بخاصة مع تداول أنباء غامضة عن مشروع لتطوير وسط البلد”.
ويضيف “أي استغلال للعمارة التراثية ومن بينها القصور لا بد من أن يطرح للحوار المجتمعي ويعرض على الرأي العام ويؤخذ رأي المتخصصين في الآثار حتى تتحقق الفائدة ويُحافظ على المبنى، في الوقت نفسه لا بد من تعديل قانون المنفعة العامة الصادر عام 90، فعندما تتعارض المنفعة العامة مع موقع أثري أو تراثي أو مبنى ذي قيمة معمارية لا بد أن تكون الأولوية للحفاظ على التراث”.
وتابع “في جميع المحافظات هناك قصور تحتاج إلى حصرها وتسجيلها سواء كأثر أو كتراث معماري متميز، فمثلاً مدينة رشيد بها 22 منزلاً من أروع المباني تعود للعصر العثماني وأوائل عصر محمد علي، وهناك قصور في جميع محافظات الدلتا ترتبط بأحداث تاريخية من بينها القصر الذي سجن فيه لويس التاسع، وفي جهة مدن القناة نجد قصوراً على طراز المستعمرات البريطانية”.
إعادة الاستغلال هي الحل الأمثل
على رغم وجود عشرات ومئات القصور والمباني التاريخية المهملة، فإن الأمر لا يخلو من بعض نقاط مضيئة مثلت تجارب ناجحة يمكن الاقتداء بها والبناء عليها في ما يتعلق بالاستغلال الأمثل للقصور، فعلى سبيل المثال قصر الأميرة سميحة كامل الذي يضم حالياً مكتبة القاهرة الكبرى بمنطقة الزمالك هو واحد من أفضل النماذج، إذ يشهد القصر نشاطاً مجتمعياً ويتعرف رواده إلى جزء من التاريخ وفي الوقت نفسه يحتفظ القصر برونقه وبريقه، مثال آخر هو قصر الأمير عمرو إبراهيم الذي يضم حالياً متحف الخزف الإسلامي وهو مبني مسجل كتراث معماري متميز، فالتجربة ناجحة لكنها تحتاج إلى التعميم وتشجيع المبادرات لإحياء هذه القصور وإعادتها إلى رونقها القديم.
المعماري يحيى الزيني عضو لجنة التراث بنقابة المهندسين المصرية يقول إن “الصيغة المثلى للحفاظ على هذه القصور هو إعادة استغلالها وفق ضوابط ومعايير، وهناك نماذج ناجحة بالفعل، ففي البداية يجب عمل حصر شامل لكل هذه القصور في جميع أنحاء الجمهورية، ومن ثم تتبنى الدولة مشروعاً لإعادة استغلالها وأفضل استغلال لها هو ما يخلق علاقة بينها وبين الناس، فيمكن أن تتحول بعض القصور إلى مكتبة أو مركز ثقافي وهناك بالفعل أمثلة ناجحة، وهناك قصور ذات أهمية كبرى وهنا الحل الأمثل أن تؤول ملكيتها للدولة وتعويض أصحابها بقيمتها العادلة ويمكن أن تتحول إلى متاحف”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية