وسط مساحة واسعة من الاضطرابات التي تعم قارة أفريقيا وتحيط بمجالها الحيوي، ستعقد قمة رؤساء دول الاتحاد الأفريقي الـ38 لعام 2025 يومي الـ15 والـ16 من فبراير (شباط) الجاري في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا. وبينما تتصاعد الحرب في السودان بدأ يتبلور واقع جديد في منطقة غرب أفريقيا والساحل، بعد سلسلة انقلابات نفذها جنرالات في النيجر ومالي وبوركينافاسو، تبعها طرد القوات الفرنسية والأميركية التي ساعدت في توفير الدعم الأمني والاستخباري في المنطقة، كما انسحبت هذه الدول من الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، وستمضي حكوماتها بصحبة شركة الأمن الروسية “فيلق أفريقيا” وفق مزيج من الشراكة الأمنية – الاقتصادية، وبمواجهة الجماعات الإرهابية في المنطقة.
في وسط القارة، يدخل الصراع في الكاميرون، الذي كثيراً ما جرى تجاهله، عامه الثامن من دون التوصل إلى حل سياسي في الأفق، في حين يصبح القتال بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية أكثر خطورة، ويتفاقم الوضع في منطقة البحيرات العظمى بالدعم الذي تقدمه رواندا لمتمردي حركة الـ23 من مارس (آذار) “إم 23” الذين استولوا على غوما، أكبر مدينة في إقليم شمال كيفو في جمهورية الكونغو الديمقراطية، ويسعون إلى الاستيلاء على بوكافو عاصمة إقليم جنوب كيفو المجاور، مما يعيد للأذهان أحداث الإبادة الجماعية في رواندا خلال تسعينيات القرن الماضي. وهناك اضطرابات متفرقة متعلقة بالعنف الانتخابي مثل تلك التي أعقبت الانتخابات في موزمبيق في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، والانتخابات البرلمانية في تشاد التي فاز بها الحزب الحاكم خلال يناير (كانون الثاني) الجاري.
إقليمياً ودولياً، تسيطر الحرب في أوكرانيا وغزة على الاهتمام العالمي، بيد أن للاتحاد الأفريقي الساعي إلى أن يكون على نسق الاتحاد الأوروبي، طموحات اقتصادية بعد التوقيع على منطقة التجارة الحرة عام 2018 لتسريع تنفيذ أجندة 2063، لكن لم تتحقق نتائجها الطبيعية الأولية بسبب تحديات السلام والأمن في القارة. ويبحث الاتحاد الأفريقي عن مكانة وسط التكتلات الإقليمية، لكن هناك سلسلة من الصدامات تعوق هذه الرغبة، إضافة إلى تعثر آليات صنع السلام التقليدية، مما يستلزم منه تدخلاً دبلوماسياً حتى لا تتفاقم الصراعات وتمتد إلى ما هو أبعد من الحدود الوطنية.
أولويات القمة
أطلق الاتحاد الأفريقي المكون من 55 دولة عضو عانت في أزمان مختلفة الاستعمار، شعار قمته هذا العام “العدالة للأفارقة والأشخاص من أصل أفريقي من خلال التعويضات”. ووفق المذكرة التوضيحية، صيغ المفهوم بغرض تحقيق العدالة التعويضية والتشافي العرقي، ومعالجة الظلم التاريخي الناجم عن الاستعمار والاسترقاق عبر الأطلسي والفصل العنصري. ونوهت المذكرة إلى ضرورة الاعتراف التاريخي والتعويضات المالية وإعادة الأراضي، بخاصة في البلدان التي انتزعت فيها الأراضي من السكان الأصليين، وبذل الجهود لاستعادة وتعزيز التراث الثقافي الأفريقي الذي قمع أو دمر خلال العصر الاستعماري، وإصلاح السياسات والمساءلة الدولية، وكذلك تعزيز المساواة والاعتراف بحقوق وإسهامات الأفارقة من جميع نواحي الحياة والتصدي للتمييز الممنهج.
منذ أن تأسست منظمة الوحدة الأفريقية في الـ25 من مايو (أيار) 1963، شهدت حالات خروج دول عدة من الاستعمار، ثم بعد أن حل محلها الاتحاد الأفريقي عام 2002 وضعت أهداف تعزيز الوحدة والتضامن بين الدول الأفريقية، وتحفيز التنمية الاقتصادية، وتعزيز التعاون الدولي كأولويات لبرنامجها الأساسي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان من المقرر أن يكون الاتحاد الأفريقي في خطوة تأسيسه، وفق مقترح الزعيم الليبي معمر القذافي عام 2000، أكثر اقتصادية في طبيعته على غرار الاتحاد الأوروبي، وأن يحتوي على بنك مركزي، ومحكمة عدل أفريقية، وبرلمان أفريقي، لكن طغى ميل القذافي الشخصي للظهور الكثيف بألقابه التضخيمية على هذه الأهداف مما حد من تحقيقها. وبعد منح الاتحاد الأفريقي العضوية الدائمة في مجموعة الـ20 برئاسة دولة جنوب أفريقيا في سبتمبر (أيلول) 2023، يمكن أن تؤهله هذه الخطوة لأن يحقق وضع الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن إدراج إثيوبيا ومصر في مجموعة “بريكس”، مما يعزز موقفه من التمثيل في التكتلات الدولية.
ويغطي الشعار أحد الأولويات الملحة الثمانية المحددة للنقاش في القمة، ومنها أيضاً التركيز على أزمتي السودان والكونغو الديمقراطية، وانتخاب القيادة العليا لمفوضية الاتحاد الأفريقي، بما في ذلك رئيس المفوضية ونائبه وستة مفوضين، وقضايا التنمية الاجتماعية والاقتصادية في أفريقيا، والسلام والأمن.
سياسة الاتحاد الأفريقي
مع أن الاتحاد الأفريقي نشأ على حقيقة الخروج من حالة الاستعمار، لكن سرعان ما دخلت دوله في نزاعات وحروب أهلية، فأصبح الخطر الكامن في احتمال تصاعد أي استخدام للقوة الخارجية، وعودة الاستعمار بطريقة أخرى. لذلك نجد أن سياسة الاتحاد الأفريقي تنطلق من الخط الفاصل بين الدبلوماسية البعيدة من العنف والوساطة في النزاعات، واتهامه بالانحياز أحياناً في بعض القضايا إلى بعض الدول، أو في الأقل الكيل بميكالين في ما يتعلق بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان في أفريقيا.
تستند محاولات الاتحاد حيال لجم النزاعات في أطوارها الأولى إلى محاولة استخدام خطة أمن إقليمي أكثر مرونة وبعيدة من الاستقطاب، بيد أن الواقع الذي يتضح جراء تصديه لتصعيد النزاعات يظهر مستويات مختلفة من المعالجة كان من المفترض أن تكون وفق استراتيجية وجملة قدرات واستعداد عملياتي ومرونة تكتيكية ضرورية لضمان نجاحها مهما كان مستوى التهديد. ومن المعارك النضالية إلى محاولات كسب الشعوب المستقلة حديثاً، ومن مواجهة الحركات المتمردة للقوى شبه العسكرية إلى الحرب ذات الكثافة المنخفضة، ومن التعاون مع بعض الحركات إلى التعاون مع قوات الأمم المتحدة إلى تشكيل قوات مختلطة لحفظ الأمن والسلام في أفريقيا، ظلت فلسفة الاتحاد الأفريقي قائمة على الاختيار بين الاحتواء أو التهديدات التأديبية وصولاً إلى الطرد من العضوية.
يبدو هيكل الاتحاد الأفريقي، أحد مواضيع النقاش في هذا القمة، معقداً بداية من مهمات الرئيس، التي تركز في جوهرها على تنسيق السياسات بين الاتحاد الأفريقي والدول الأعضاء والمجتمعات الاقتصادية الإقليمية الثمانية المعترف بها رسمياً، وتبلغ مدة منصب الرئيس أربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة. أما مناصب رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي ونائبه، فضلاً عن غالب المفوضين الستة للاتحاد الأفريقي، فهي متنازع عليها. ويدور منصب الرئيس بين المناطق الأفريقية الخمس، وينتظر أن يأتي دور شرق أفريقيا، على أن تقدم شمال أفريقيا مرشحين لمنصب نائب الرئيس. وفقاً للنظام الأساس للاتحاد الأفريقي (2002)، فإن رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي هو الرئيس التنفيذي للاتحاد، وممثله القانوني، ومسؤول المحاسبة فيه.
حراك جيوسياسي
درجت إثيوبيا على استضافة عدد من القمم الأفريقية منها اجتماعات وزراء خارجية الدول الأفريقية، التي تمهد إلى اجتماعات القمم على مستوى القادة بمقر الاتحاد الأفريقي بأديس أبابا. ومع أن إثيوبيا تجاوزت وضعها السابق الذي تشكل في ذروة صراع إقليم تيغراي الذي اجتاح شمال البلاد منذ عام 2020 إلى 2022، لكنها دخلت في نزاعات داخلية أخرى بمنطقتي أوروميا وأمهرة المكتظتين بالسكان.
الاستعداد الكبير الذي تحظى به هذه القمة يأتي في إطار محاولة أديس أبابا المحافظة على الزخم المصاحب للقمة، والاستفادة من رمزية مقر الاتحاد الأفريقي الذي شيد عام 2012 بتمويل صيني. إضافة إلى المحافظة على ما تحظى به العاصمة من مكانة مميزة جغرافياً وتاريخياً، فمنذ تأسيسها عام 1886 على يد الإمبراطور الإثيوبي منليك الثاني، وإلى الآن ظلت أديس أبابا أو “الزهرة الجديدة” باللغة الأمهرية وجهة إقليمية مهمة، وفي التاريخ الحديث أصبحت مقراً لمنظمات ومؤسسات أفريقية عدة.
نظراً إلى الحراك الجيوسياسي العالمي المستمر، فإن إثيوبيا تسعى من خلال هذه القمة بخاصة إلى أهداف عدة. الأول تعزيز مكانتها الدبلوماسية والإقليمية كدولة مضيفة للمؤسسات الأفريقية الكبرى، مما يمنحها دوراً محورياً في القضايا الأفريقية، وتوفر لها فرصة للتأثير في الأجندة الأفريقية، خصوصاً القضايا التي تمس مصالحها مثل سد النهضة وعلاقاتها مع إريتريا والسودان. والثاني يعكس مستوى الاستعداد الكبير والكلفة الاقتصادية، ووضع إثيوبيا كنموذج يمكن أن تحتذيه الدول الأفريقية، لا سيما أنها تسعى إلى استعراض مشاريعها التنموية، مثل مشاريع البنية التحتية والتصنيع والطاقة.
أما الهدف الثالث، فعلى رغم الوضع الأمني باستمرار القتال في أمهرة وأوروميا، مما قد يهدد انعقاد القمة بسلاسة، بخاصة إذا تصاعدت الاشتباكات، ولكن لدى إثيوبيا فرصة للترويج لنفسها بما تحقق من انتهاء نزاع تيغراي، وكان مؤهلاً لأن يستمر لسنوات عدة، كما أنها حققت بعض التقدم في الملف الصومالي في ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
أفريقيا على وشك عصر تحولي
على رغم أن عديداً من المؤشرات تظهر أن أفريقيا على وشك عصر تحولي يمكن أن يقوده الاتحاد الأفريقي، ابتداء من هذه القمة، لكن ذلك يتوقف على أن تتم إدارته بفاعلية، ومع ذلك لا يمكن التغاضي عن التحديات الماثلة. التحدي الأول حاجة القارة السمراء إلى قوة تفاوضية ووحدة جماعية على الساحة الدولية، مما يمكن أن يعالج أزمة قصور نفوذها، ويقوي موقفها المطالب بعقد مساءلة دولية عن الأخطاء التاريخية خلال فترة الاستعمار.
الثاني ازدياد تحديات الأمن والسلام، فمع كل حرب كبيرة تلحق بها نزاعات جانبية أو في دول الجوار مما يلقي بأعباء إضافية على القيادة القادمة ويضعها في مواجهة وضع حلول مبتكرة لمعالجة ملفات عديدة، وستحتاج أفريقيا إلى الإسراع في الاستفادة من إمكاناتها الهائلة ومواردها الطبيعية لدفع النمو والابتكار، والخروج من فخ الديون وحل النزاعات والأمن، والقضاء على الفقر والبطالة وعدم المساواة، وترسيخ الديمقراطية الانتخابية في فضاء مدني يسع الجميع، وغيرها.
التحدي الثالث، مواجهة الاتحاد الأفريقي للتعددية الأفريقية بسبب دوره المنوط به في إدارة الخلافات بين الدول الأعضاء، لا سيما أن التنافس على القيادة والمناصب بين الدول أعضاء الاتحاد يمضي في اتجاه متزايد.
أما الرابع فهو التمويل غير الكافي، إذ يتأخر الأعضاء في الاتحاد الأفريقي عن تمويل العمليات التشغيلية وسداد التزاماتهم، لذلك يعتمد الاتحاد في تعويض عجز موازنته على التمويل الخارجي مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والصين والبنك الدولي، مما يطعن في استقلالية قراراته ويعوق قدرته على التدخل.
سيناريوهات محتملة رغم قدرات الاتحاد الأفريقي المنخفضة
على رغم قدرات الاتحاد الأفريقي المنخفضة، فإن التوقعات غالباً ما تكون عالية، ولكن هذه المرة، نظراً إلى أن القمة جاءت في ظل ظروف داخلية وخارجية صعبة، بما في ذلك استمرار النزاعات القديمة ونشوء صراعات وحروب جديدة والانقلابات العسكرية وتأزم الأوضاع الاقتصادية، هناك سيناريوهات محتملة، لكنها تعتمد في نجاحها على أداء القيادة الجديدة والوحدة الإقليمية، وأهمها:
الأول ستحفز الأزمات العديدة القارة السمراء إلى سلك طريق جديد نحو تكامل اقتصادي بعيداً من العون الخارجي بالاستفادة الذاتية من موارد القارة، خصوصاً بعد قرارات الرئيس الأميركي دونالد ترمب والملياردير إيلون ماسك وقف المساعدات الخارجية لأفريقيا وإغلاق الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (يو إس إيد)، ما من شأنه أن يحدث أثراً سلبياً في الرعاية الصحية والمساعدات الإنسانية والخدمات التي يعتمد عليها ملايين الأفارقة منذ ستة عقود.
الثاني قد تخلق الفجوات في قيادة الاتحاد الأفريقي فرصاً لمنظمات إقليمية أخرى لتولي دور مساند يعالج الخلل في هيكل الاتحاد وقياداته، وإن لم يستجب لهذا التعاون فربما تحل محله بالكامل مستفيدة من نقاط ضعفه.
الثالث ربما ينجح الاتحاد الأفريقي في كبح حال الانقلابات العسكرية بإقناع الدول الضالعة فيها بأن الفرصة لتفعيل مساءلة دولية عن تاريخ المظالم في عهود الاستعمار هي عدم تفتيت الجهود الرامية إلى تعزيز مكانة أفريقيا ديمقراطياً.
الرابع في هذه القمة بدأ الاتحاد الأفريقي بالاتجاه نحو تفعيل الدبلوماسية متعددة الأطراف، مما يضمن ممارسة عملية إذا نجح في أن يبذل ثقله الدبلوماسي لجهود صنع السلام، سواء في صياغة مواقف إقليمية مشتركة في شأن منطقة مضطربة، أم التنقل بين الأطراف لخلق فرص أو تولي زمام المبادرة في الوساطة.
نقلاً عن : اندبندنت عربية