نعرف من التجارب التاريخية السابقة أن الشركات المصنعة للسيارات كانت موجودة فعلاً قبل أن يبتكر هنري فورد سيارته “موديل تي” Model T [التي أحدثت تحولاً كبيراً في هذه الصناعة]. ولكن كم من عمالقة التكنولوجيا اليوم يتوقفون ليأخذوا العبرة ويستفيدوا من دروس الأمس؟

تأملوا ما حدث مع “إنفيديا” Nvidia. بدت تلك الشركة الأميركية المتخصصة بصناعة الشرائح الإلكترونية محصنة ضد أي تهديدات تواجهها وعصية على الهزيمة، واحتلت مكانة متفوقة بين الشركات العالمية في قيمتها السوقية، ثم تظهر الشركة الصينية الناشئة “ديب سيك” DeepSeek وأنباء تفيد بأنها قادرة على خفض الأسعار في سوق تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، فتنهار “إنفيديا”. الأسهم التي كانت ارتفعت بنسبة 171 في المئة في 2024 و239 في المئة في 2023 وساعدت في رفع القيمة السوقية الإجمالية للشركة إلى 3.45 تريليون دولار (ما يساوي 2.8 تريليون جنيه استرليني)، هوت على حين غرة. سجلت الأسهم انخفاضاً ضخماً غير مسبوق بلغ 17 في المئة، مبخراً 589 مليار دولار من قيمتها السوقية.

تصنع “إنفيديا” شرائح إلكترونية مصممة لمعالجة الرسومات، أو “جي بي يو” GPU اختصاراً، المستخدمة في تطوير وتشغيل البرمجيات الخاصة بنماذج الذكاء الاصطناعي من قبيل روبوت الدردشة الشهير “تشات جي بي تي” الذي ابتكرته شركة “أوبن أي آي”. وتتصدر الشركة هذه الصناعة المتنامية، حيث تعجز أي جهة منافسة عن الاقتراب منها. أو أقله، هذا ما بدت عليه الحال حتى أعلنت “ديب سيك” أنها قادرة على تقديم التقنية نفسها إنما بكلفة أقل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وإلى جانب “إنفيديا”، سجل المؤشر “ناسداك” Nasdaq الذي يضم الشركات الرائدة في قطاع التكنولوجيا تراجعاً بنسبة 3.1 في المئة، وانخفض المؤشر “ستاندرد أند بورز 500″S&P 500 بنسبة 1.5 في المئة. أما عواصم التكنولوجيا والمؤسسات المالية التي تتولى تمويل هذا القطاع، في “وادي السيليكون” و”وول ستريت”، فراحت تتخبط في دوامة من الفوضى. وفي مختلف أنحاء العالم، تملك الفزع المستثمرين العاديين، وصناديق التقاعد والمؤسسات، وتكبلت أيديهم أمام هول المفاجأة. التاريخ يعيد نفسه، ولكنهم لم يتعظوا من دروس الماضي. كانوا سابقاً يتدافعون إلى شراء أسهم “إنفيديا”، يسيرون مع التيار، ويبتلعون الطعم، وغاب عن بالهم أن الأسهم ربما تنخفض تماماً كما ارتفعت.

لقد اعتدنا على سادة العالم هؤلاء الذين يجرفون كل شيء في طريقهم. صار قادة صناعة التكنولوجيا ملوك عصرنا، تحيطهم العروض المبهرة والضخمة التي تصاحب إطلاق منتجاتهم بهالة من التقديس، ويحظون بالتبجيل لأنهم لا ينفكون يبتكرون ويجدون تقنيات ووسائل جديدة تجعل حياتنا أسهل، وتحقق لهم أرباحاً متزايدة أكبر من أي وقت مضى. وفي حفل تنصيب الرئيس الأميركي، منح نجوم التكنولوجيا مقاعد في الصف الأمامي، حتى إن أعضاء حكومة دونالد ترمب الجدد جلسوا في الخلف.

أصحاب الذاكرة الطويلة، والمتمرسون في صناعات أقل شهرة، قادرون على استحضار الحقيقة التي تقول إنه لا شيء يستمر على حاله إلى الأبد، أو أن كل شيء زائل، وأن في الحياة قوى أو قوانين، تماماً على شاكلة الجاذبية، لا يسعنا مقاومتها مهماً حاولنا. وترمب تحديداً أحد الأشخاص الذين تعلموا، ومن كيسه الخاص، هذه الحقيقة تماماً. لقد واجه نكسات كثيرة في مجال العقارات، وكان هو نفسه، بلا شك، مسؤولاً عن نشوء البعض منها. لذا من غير المستغرب أن ترمب، الذي أشاد تواً بإنجازات مليارديرات التكنولوجيا في الولايات المتحدة، قد وصف ظهور “ديب سيك” بأنه “تنبيه” للصناعة الأميركية علها تستفيق من غفلتها.

يدرك ترمب أيضاً أن في مستطاع الأشخاص والشركات التعافي والعودة إلى سابق العهد، ذلك أنه هو في نهاية المطاف دليل حي على هذه الحقيقة. لذا سرعان ما قال إن المشروع الصيني [ديب سيك] ربما “يصب في مصلحة” الولايات المتحدة. وربما كان أيضاً يتجنب الإشادة ببكين. وتوجه إلى الصحافيين على متن طائرة الرئاسة قائلاً: “إذا استطعت تقديم هذه [التكنولوجيا] بسعر أقل، وتحقيق ذلك مقابل [كلفة] أقل، والحصول على النتيجة النهائية عينها، فأعتقد أن هذه الخطوة ستكون مفيدة بالنسبة إلينا”.

كان رد الفعل هذا عفوياً وغير مدروس، ولكنه ربما كان رد الفعل الصائب، فترمب يقف في ملعبه عندما يتحدث عن مناورات وتعقيدات عالم الأعمال. وقد قال إنه غير قلق، ولديه الثقة في أن الولايات المتحدة ستظل لاعباً مهيمناً في مجال الذكاء الاصطناعي.

وكما كان متوقعاً، قال سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لـ”أوبن أي آي”، إن شركته ستتوخى السرعة في إصدار منتجاتها و”تقدم نماذج ذكية أفضل بأشواط” لمنافسة روبوت الدردشة الآلي “آر 1” R1 من “ديب سيك”. أما أسهم “إنفيديا” فاستعادت بعضاً من قيمتها، إذ ارتفعت بنسبة 3.5 في المئة. كذلك عاد المؤشران “ناسداك” و”ستاندرد أند بورز 500″ إلى تحقيق المكاسب بعد التراجع الذي شهداه.

ولكن مع ذلك يثير التقدم الذي أحرزته شركة “ديب سيك” أسئلة صارخة وتتعلق بالمستقبل البعيد في شأن إنتاج الذكاء الاصطناعي. قبل أسبوع فحسب، كشفت شركات “سوفت بانك” و”أوراكل” و”أوبن أي آي” عن مشروعها المشترك “ستارغيت” Stargate، مع إنفاق 100 مليار دولار على مركز بيانات. وفي أماكن أخرى، خصصت مبالغ ضخمة أخرى لبناء مراكز بيانات ومصانع لازمة لإنشاء منتجات الذكاء الاصطناعي. بناء عليه، فإن عدم حاجة “ديب سيك” إلى استثمار هذا القدر الكبير من رأس المال تثير الشك والتساؤل حول تلك الخطط التي خصصت أموالاً ضخمة لمشاريعها.

حالياً، يسود شعور بالارتياح لأن الانخفاض لم يستمر، علماً أنه قد يحدث مرة أخرى نظراً إلى تقلبات سوق التكنولوجيا. وكانت المؤسسات المالية في لندن، بطبيعة الحال، سريعة في رد فعلها على الانخفاض ونظرت إليه على أنه مجرد “تراجع موقت”. وجاء التصرف تجاه هذا التحول على طريقة “بع أولاً، وفكر لاحقاً” [قرر المستثمرون بيع أسهمهم فوراً من دون التفكير في العواقب]. وفي الحقيقة، لم يكن رد الفعل هذا مختلفاً عن تدافع المستثمرين سابقاً إلى شراء أسهم “إنفيديا” وغيرها من الشركات الكبيرة في مجال التكنولوجيا، فقد كان أيضاً على طريقة “اشتر أولاً وفكر لاحقاً”.

لو أنهم فقط أخذوا بنصيحة هنري فورد. وكما قال الرجل العظيم: “سأصنع سيارة للجماهير الكثيرة. ستكون واسعة بما يكفي لأفراد العائلة كلهم، ولكن صغيرة بما يكفي ليتمكن الفرد من قيادتها وصيانتها. ستكون مصنوعة من أفضل المواد، وعلى أيادي أمهر الموظفين، بناءً على أبسط التصاميم التي يمكن أن تبتكرها الهندسة الحديثة. ولكن سعرها سيكون زهيداً جداً ويسمح لأي رجل يتقاضى راتباً جيداً بامتلاك واحدة منها”.

هكذا، إذا كانت سيارة “فورد موديل تي” Ford Model T قد أحدثت ثورة في صناعة السيارات بتقديم سيارة شعبية بسعر معقول فإن النموذج الأول “آر 1” من “ديب سيك” ربما يفعل الأمر عينه في مجال الذكاء الاصطناعي عبر تقديم تكنولوجيا فاعلة بكلفة أقل.

نقلاً عن : اندبندنت عربية