(للنشر ظهر الخميس)يعالج الكاتب الفلسطيني طارق عسراوي في روايته الصغيرة (نوفيلا) وعنوانها “اللعب بالجنود” (منشورات تكوين -الكويت 2024) مسألة اللعب الذي يصير جداً في إطار زمني محدد من عمر الفتيان الثلاثة زياد وتميم وجميل، وهو زمن الانتفاضة الأولى في الضفة الغربية بدءاً من الثامن من ديسمبر (كانون الأول) عام 1987، أما الإطار المكاني لأحداث الرواية فهو في بلدة جنين ومخيمها اللذين يشكلان إلى حينه حقلاً خصباً لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
طارق عسراوي: “اللعب بالجنود”
ومفاد الحكاية أن أحد الفتية في أحد أحياء جنين ويُدعى زياد عنّ له أن يخترع لاقطاً لتلفزيون المنزل يستطيع أن يعاين به عدداً من المحطات التلفزيونية يطل بها على عالم المرأة، “ولا يمكن لأي من القنوات أن تبث ما يشد انتباه فتية يهجسون بأسئلة سكت عنها مجتمع يسكنه الخوف الأمني منذ أعوام طويلة، أسئلة من قبيل ما المرأة؟” (ص:13)
وتتلاحق الأحداث ويتفق زياد وتميم على اللقاء في موضع ما من الحي، ويصادف أن يطل مساء على شباك امرأة تدعى ابتهال مقيمة حديثاً هي وأولادها، ويحدث أن يريا شيئاً خاطفاً من تبديل المرأة ثيابها فيستفظعان ذلك، وصودف أن جميلاً، أحد الثلاثة كان مارا من ذلك المكان، فشهد على المشاهدة وخشي الآخران ذيوع الخبر، ولا سيما أن الأخير كان ابناً لمفيد، وهو الفلسطيني العميل للإسرائيلي، ومنذئذ تروح التوقعات تتوالى ويتصاعد التوتر من انكشاف السر وافتضاح أمر معاينة الفتيان مشهداً غير واضح المعالم، وينتقل التوتر إلى والديْ الفتيين زياد وجميل، ويتبدى أن الرجلين خصمان لدودان، فالأول قضى أعواماً طويلة في الأسر عقاباً على أعمال المقاومة، في حين كان الثاني يزداد حظوة لدى سلطات المحتل. وفي ذروة التوتر يلقي الفتيان زياد وتميم قنبلة مولوتوف على مقربة من دار البلدية حيث كان يجتمع مفيد مع ضابط المخابرات الإسرائيلي أسد ولا تحدث أي ضرر، ويتبين من سياق الأحداث أن ابتهال كانت زوجة مفيد وجميل ابنها، وقد تطلقت منه لما عرفت بتآمره وانحيازه إلى العدو ومضت تقيم في رعاية أبي تميم.
ولا تنتهي الأحداث بمواجهة كلامية بين أبي زياد وأبي جميل، وإنما بعد 15 عاماً من تلك الأحداث وعودة زياد متفقداً الحارة وقد قتل مفيد العميل وخرج المحتلون من جنين، واتضح أن شلة الفتيان إنما كانت تجتمع لحراسة منزل ابتهال، زوجة الفدائي الذي صار ضابطاً كبيراً في الشرطة الفلسطينية.
لا تنطوي الـ “نوفيلا” المذكورة أعلاه على ملامح مكانية كثيرة ولا يغامر الكاتب في الخوض بتحليلات نفسانية طويلة لشخصيات سرده، وإنما هي سردية المقاومة ومرادفاتها مع ما يلازمها من قيم البطولة والمغامرة والوفاء والوطنية التي تسود الرواية، على رغم ما يشيعه الكاتب من أجواء اللعب الذي ينصرف إليه الفتيان في الفصول الستة الأولى، وما يشغل نفوسهم من نزوع نحو التحرر من سلطة الآباء والتعرف إلى الأنثى جسداً وروحاً، ومشاغلة المحتل بألعاب يخترعونها وتزيده توجساً.
ولئن يشكل متن الرواية سرداً أولياً لسيناريو فيلم عن حياة الفتيان خلال ثمانينيات القرن الـ 20 في مدينة جنين، زمن الانتفاضة الأولى، فإن ما ورد فيه يسقط نمذجة الشخصيات التي تتطلب قدراً أكبر من التعمق والتفريع وبناء عالم متكامل، وهذا مما يتاح بمزيد من الكتابة والاطلاع. أما الهنة الأكثر بروزا في نوفيلا “اللعب بالجنود” والتي من شأنها أن تسيء إلى الخط الواقعي والتسجيلي الذي ينتمي إليه السرد الآنف، فهي الإيحاء في مطلع الرواية بانشغال الفتيان بموضوع “المرأة” (الأنثى) والتعرف إليها على نحو ما تستدعيه حاجات الفتيان الطبيعية في هذا العمر، ومن ثم استجلاب المناخ السياسي الضاغط، طبعاً المعادي للاحتلال، لتغليب وجهة النظر الراشدة وإغفال الحديث عن تجارب الفتيان المراهقين مع الفتيات.
علي الموسوي: “ملاك الكتب”
في المقابل تنهض باكورة علي الموسوي، الكاتب العراقي الشاب (1992) على ثيمة وحيدة هي لزوم إنقاذ عالم الكتب وتوفر شخصية بطلة متخيلة هي “ملاك الكتب” لتحقيق هذه المهمة، في الرواية الصادرة حديثاً عن “دار شركة المطبوعات 2024 – بيروت”.
وعلى رغم أن حبكة هذه الرواية تكاد تكون بسيطة، كما أشرنا، ومفادها أن شخصية من المرجح أن يكون فتى يُدعى إلياس صودف مروره بأحد شوارع الرصافة، وهي الجانب الشرقي من نهر دجلة وأحد اتجاهي بغداد، حيث تزدحم المكتبات، وانتقاؤه الكتب القديمة منها، وقع نظره على كتاب “السحر الأسود”، ولما كان تعب المسير بحثاً عن الكتب قد أضناه طلب الجلوس وأخذ يتفحص الكتاب فقرأ هذه الكلمات “أنتَ… أنتَ ولا أحد غيرك… إلياس ملاك الكتب وحارسها وفارسها العظيم في العالم كله” (ص:13)
ومن تلك اللحظة يصير إلياس ذلك البطل الذي يتحرك بقوى خارقة تدخلت في تكوينه حتى صار قادراً على الطيران ومجابهة القوى الشريرة، وتجاوز الحدود والدول من أجل إفشال كل المؤامرات التي كانت تُحاك على الكتاب والأدب في العالم الحديث، ولا يقتصر الفعل السحري على إلياس وزينة التي يصير بمقدورها الطيران إلى جدتها أم جمال في أستراليا، “لتقرأ لها رواية الحفيدة الأميركية لكاتبتها إنعام كجه جي” (ص:91) بل سيتشارك إلياس مع كل من الصديقين أفاق وعبدالرحمن في تصديهم لكل المؤامرات التي كانت تستهدف المدينة حيناً على يد “العفاريت الدخانية التي سبق أن هاجمت قدس الأقداس، والعفاريت الزرق الخاطفة، والعفاريت ذات المعاول، والعفاريت القزمة والعملاقة” (ص:169) وحيناً آخر “برج غلاطة في إسطنبول” وأحياء أخرى مدينة ليوناردو بورخيس وغيرها، ولما استوثقت هذه العفاريت من قوة إلياس أو سوبرمان الكتب قوته وسحره العصيين على القهر، عمدت إلى أسره في مثلث برمودا، وعندئذ تتدخل الملائكة بعد إرسال قطعة أثرية من مدينة بابل إلى الملائكة للقول لهم إن عدم مساعدتهم له سيهدد مدينة بابل الأثرية لكونها من صنيعهم، وأن ذلك سيهدد وجود البشر برمته، وبالفعل لبّى الملائكة النداء وهجموا على مكان اعتقال الياس في مثلث برمودا وأمكنهم أن يحرروه ويقضوا على مملكة العفاريت، ويزيلوا تهديدهم لعالم الكتاب والأدب والبشر على حد سواء.
مما لا شك فيه أن رواية علي الموسوي “ملاك الكتب” أظهرت مقدرة صاحبها على استحضار المشاهد المدينية، بغداد و وإسطنبول ومثلث برمودا، وخلط الواقع الحقيقي بالمخيلة وبالأفعال السحرية متابعاً بذلك بسط أسطورته حول سوبرمان الكتب ودفاعه المطرد مكاناً وزماناً عنها، ولكن خير ما في عمل الموسوي هو موسوعية ثقافية لا لبس فيها على رغم حداثة سنه، وهي أحد الشروط غير المكتوبة لصوغ شبه عالم روائي والتوسع في بنيان الرواية، إذ لم يبق كاتب حديث أجنبي وعربي ممن له صلة بالكتابة القصصية في العالم إلا وأدرجه الكاتب باعتباره أحد مواطني مدينة الكتُب الفاضلة.
ومع ذلك تعتري الرواية هنة لا تغطيها بنية واضحة المعالم في ثلاثة أقسام غير متساوية، وهي عدم قدرة الكاتب على جعل خط السرد مقروءاً، إذ لا يقوى المتابع وسط غابة الإشارات وثراء الأمكنة الموصوفة والمتخيلة على اللحاق بحركة البطل سوبرمان الكتب، ولا تلم بطيرانه المفاجئ وغير المنظور من الوجهة السردية، ولكن هذه الهنة لا تقلل من مكانة العمل وإنما يمكن تجاوزها من خلال مزيد من ضبط السرد وتحيين حركة الفاعلين، وتقطيعها على نحو ظاهر للعيان وقابل للمتابعة.
عزة طويل: “لا شيء أسود بالكامل”
وفي مقابل الكاتبين المذكورين أعلاه تتقدم الكاتبة اللبنانية عزة طويل (1982) بسرديتها النسوية اللافتة من خلال حكايات أجيال من النساء متعاقبة ومستلة حكاياتهن من سيرة الكاتبة الجزئية، ومن سير النساء بنماذجهن التي باتت معروفة في التراث السردي العربي الحديث والمعاصر، فلا حبكة بارزة المعالم لهذه الـ “نوفيلا” ما دامت الأحداث فيها ارتجاعية في غالبيتها، أي هي مقاطع سردية غير متسقة ولا خطية، بمعنى ألا وجود لحدث مركزي رئيس يربط السابق باللاحق ويسوغ الشروع في توسعة المتن وإطالة السرد، على رغم محدودية شبه العالم، المكان والزمان والشخصيات، التي تميز الـ “نوفيلا” عن الرواية.
وأياً يكن الأمر فإن الرواية بأسرها هي سجل حافل للشكوى تنطق بها الراوية بلسانها عنها وعن غيرها من النساء اللواتي سبقنها إلى معاناة كونهن أمهات وواقعات في أسر الرجل والمجتمع الذكوري، وتحت وطأة الحروب الأهلية وما كانت تفرزه هذه الأخيرة من مظالم انعكست شراً عليهن وعلى الرجال أيضاً. تبدأ الرواية بمقطع استهلالي يوحي بأن كاتبته واقعة تحت تأثير عوامل خارجية ضاغطة لا تقوى تحملها، تتمثل في “الطنين” الذي تكرره مرتين وكأن هذه الأنثى (المرأة) التي تتولى الراوية العليمة استنطاقها قاب قوسين أو أدنى من الاستجابة لطلب الطبيب النفسي بأن تسرد تجربتها على سجيتها بغية التحرر من ثقلها، على ما توجبه جلسة المعالجة النفسية بحسب فرويد.
ولو نظرنا إلى الـ “نوفيلا” من هذه الزاوية لاعتبرنا كامل السرد كناية عن سجل سردي كامل لراوية تحررت للتو من ثقل تجربتها وتجارب نساء تمتُ لهن بصلة قرابة، الطفلة التي كانت والأم والحماة، باعتبارهن ضحايا ظلم الرجال والمجتمع الذكوري أولاً، والحروب الأهلية المتواترة بين لبنان وسوريا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مما لا شك فيه أن الكاتبة عزة طويل تملك من الكفايات السردية ما يخولها التقدم في كتابة القصة والـ “نوفيلا” والرواية، ولا سيما قدرتها على تكوين مناخ سردي يليق بالثيمة المعالجة، على أن تكون المادة المطروحة أقرب ما تكون نفسانية، ولا ضير في هذا فثمة كثير من كتاب الرواية العرب يستعينون بما أتاحه علم النفس من وجهات تحليل للشخصيات ودرس أزماتها، كما لدى الطيب صالح وإبراهيم الكوني ومحمد حسن علوان وغيرهم، ولكن الإشكال قائم في ملاءمة السجل النفساني مع مقتضيات السرد الروائي أو القصصي، أي إدماجه في حراك وصراع ظاهر لعيان القراء بين الشخصيات النموذجية المعنية، ثم إن وقائع السير ذاتية المستعادة من الذاكرة لا تنهض بمادتها الخام، سرداً قصصياً ذا إيقاع ورموز ودلالات تتخطى مرجعيتها الأولى، وأيا يكن فإن للتجربة الروائية الأولى أفقاً ينفتح على آفاق واحتمالات مقبلة.
نقلاً عن : اندبندنت عربية