مع سقوط نظام بشار الأسد، تحولت الأنظار إلى الأماكن المقدسة للطائفة الشيعية، ودارت الأحاديث والهواجس بين أبناء الطائفة حول توقعات بتخريب متعمد من قبل قوات المعارضة المسلحة لتلك المواقع مهما كانت تحمل من قدسية. ولعل أبرز هذه المواقع كان مقام السيدة زينب في ريف دمشق الشرقي، حيث ظلت المدينة السكنية المحيطة بالمرقد تحت سيطرة “حزب الله” اللبناني و”الحرس الثوري الإيراني”، وباتت منطقة نفوذ خالصة حتى الساعات الأخيرة من سقوط العاصمة السورية في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) الجاري.
وتقع منطقة السيدة زينب، التي سُميت بهذا الاسم نسبة إلى مرقد السيدة زينب، على بعد سبعة كيلومترات عن مركز العاصمة. ويروي أحد القاطنين، أثناء وصولنا إلى أطراف المدينة، عن حاجز بمسارات متعددة بدا خالياً تماماً من أية مظاهر مسلحة، حاله كحال باقي الحواجز الأمنية في البلاد. حيث فضلت القوى الأمنية من “هيئة تحرير الشام” عدم التمركز بها، بل وتركها فارغة. وهذا ما زرع الارتياح في الشارع بعدما كانت هذه الحواجز ترهق الناس.
دولة داخل دولة
وقال أحد أبناء المدينة “حاجز دخول مدينة السيدة زينب بمثابة الدخول إلى دولة داخل دولة”، وأضاف أن المدينة تخضع لسيطرة قوات تابعة لإيران و”حزب الله”، وأن الزوار يتعرضون للتفتيش والتدقيق، كما أشار إلى أن الهدوء يسيطر على أرجاء المدينة، على عكس توقعات كثر بحدوث أعمال شغب أو تصفية.
على أطراف أول مستديرة مقابل فندق يُطلق عليه “الروضة”، التقينا مع نقطة عسكرية تتبع لفصائل المعارضة، وأوضحوا أن الهدف من تمركزهم هو حفظ الأمن ونشر السلم الأهلي في المنطقة، بخاصة في ظل وجود عصابات تهدف إلى استغلال هذا الاستقرار بعد خلو المنازل، مما يجعلها هدفاً للسرقة والنهب. ولعل الأمر بدا كما حصل في العاصمة، حيث انتشرت أعمال النهب والسلب والفلتان الأمني في ذروته في الأيام الأولى بعد قراءة البيان الأول وتفكك قوى الأمن الداخلي.
في غضون ذلك تعود تدريجاً حركة الأسواق والمحال التجارية إلى العمل، ورصدنا حركة شعبية لا تقارن كسابق عهد هذه المنطقة السياحية بامتياز بحكم رحلات الحج المتواصلة من قبل الشيعة من إيران ولبنان ومن كل بقاع العالم، واعتبر رئيس بلدية السيدة زينب، غسان حاجي، لـ”اندبندنت عربية” أن الأوضاع في المدينة مستقرة حيث عملت البلدية مع القوات التي تسيطر على المكان منذ اللحظات الأولى على حفظ السلم الأهلي نتيجة تعدد الطوائف الموجودة.
وفي سرده عن الاستقرار والسلم الأهلي الذي تحقق في مدينة متعددة المكونات من السنة والشيعة، وكذلك طيف من مختلف المدن السورية قال “لقد مرت هذه الأحداث بسلاسة وحفظت كل المكونات الدينية وعلى رأسها مقام السيدة زينب بوجود الحراسة، والأمان الشخصي لكل الطوائف والمذاهب في المدينة، وكذلك على ممتلكاتهم. ومن الدقيقة الأولى، كانوا بخير. وبعد تأمين السلم الأهلي، قطعنا دابر أشخاص ضعاف النفوس هدفهم التخريب. لقد عملنا على السيطرة على هذه المواضيع منذ الساعات الأولى”.
وشرح رئيس بلدية السيدة زينب أنه بعد التأكد من تحقيق الاستقرار الأمني، بدأ العمل على تأمين الخدمات الأساسية مثل الطحين والمازوت منذ اليوم الأول، مع جولات على المحلات لافتتاحها، واستجرار سيارات كبيرة لإزالة القمامة والعمل على إصلاح الكهرباء والمياه. كما تابعت منظمة “اليونيسف” إتمام مشروع كانت تعمل عليه في المنطقة منذ فترة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بالمقابل، توزعت عناصر المعارضة في الأماكن الحساسة للحراسة والمراقبة، إضافة إلى تكثيف جهودها لضمان حالة الأمان في المدينة، ولا سيما حول المرقد.
اختفاء صور “محور الممانعة”
في الأثناء خلت الشوارع الرئيسة من صور قادة ما يعرف بـ”محور الممانعة” وأعلام “حزب الله” الصفراء، في حين وصف القائد الميداني ومنسق عمل البلدية من حكومة الإنقاذ، ذاكر بايزيد، الأوضاع قبل ذلك بـ”الفوضى المنظمة” والعارمة متهماً النظام السابق بافتعالها، وتابع “لقد أتتنا تعليمات من حكومة الإنقاذ أن أي شخص مسلح من الميليشيات الإيرانية يعتبر آمناً إذا ترك سلاحه، نحن لم نأتِ للتشفي وليس لدينا غايات شخصية بل عودة الحياة الطبيعية، ونحن بحاجة إلى تعاون المنظمات والمؤسسات للنهوض بالمجتمع كما يجب، أما سكان السيدة زينب فهم في بيوتهم ولا أحد يعترضهم”.
وكانت أصوات قد ارتفعت منذ بداية عملية “ردع العدوان” في الـ27 من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي وسقوط مدن مثل حلب وحماة وحمص وصولاً إلى دمشق تطالب بالاستعانة بقوات من “الحشد الشعبي” العراقي، الذي قابل ذلك بالرفض بذريعة عدم تدخله بالشأن السوري، بينما عبر المطالبون من الأوساط السياسية والدينية الشيعية عن مخاوف من تخريب المقامات التي تحمل رمزية دينية لدى كل المسلمين، وبخاصة الطائفة الشيعية.
“لن تسبى زينب مرتين” كانت إحدى العبارات التي أطلقها رجال الدين، وهي تعبير عن إحدى مخاوف الطائفة الشيعية. لكن ساحات القتال والميدان رجحت الكفة لمقاتلي “هيئة تحرير الشام”، مما زاد من المخاوف حيال مصير مرقد السيدة زينب. إذا ما علمنا أن تهديدات سابقة من قبل تنظيم “داعش” لم تتوقف عن التلويح بنية الوصول إلى المقام المقدس وعزمهم على هدمه.
لا مظاهر مسلحة
ومع وصول “هيئة تحرير الشام” الفصيل الذي يستقي أيديولوجيته الدينية المتشددة من تعاليم أهل السنة بطريقة صارمة، شاهد القاطنون في المدينة، الذين يخدمون ويحرسون المقام، تصرفات تعكس حرص الهيئة على المرقد وسلامته، وسلامة أبناء الطائفة الشيعية ممن لا يحملون السلاح. وتحدث أستاذ جامعة “المصطفى” العالمية، عبدالمنعم العبدالله، خلال زيارة “اندبندنت عربية” إلى المكان، وقال “الأمور في منطقة السيدة زينب بخير، فلم نجد إلا الخير، والمعاملة الطيبة على عكس ما كنا نتخوف منه من القتل، وأقول إننا أخوة بالإسلام، ولا بد من أن ندرك أن الشيعة والسنة مسلمون لا فرق بيننا. نمد لهم يد السلام كما مدوا لنا يد السلام، ونبني الوطن. وهذا المقام لكل العالمين، من الهند والصين وإيران وأميركا. ومدينة السيدة زينب عنوان السلم الأهلي في المنطقة بعد كشف زيف الطاغية”.
وفي وقت ظل فيه المرقد مشرعاً أمام زواره، وخلت المنطقة من جميع أشكال المظاهر المسلحة، عادت حركة الناس في الأسواق بشكل حذر. بينما تترقب وجوه المشاة في الطرقات والمتسوقين أي شيء، جاءت التطمينات من القيادة العسكرية والمنظمات الأهلية بإعادة الحياة بشكل أفضل.
السلاح الفردي
إزاء ذلك، طالب أحد أعضاء جمعية “علوّ” للتمكين والثقافة، رامي محمد، المجتمع الأهلي بالتعاون لتطوير المجتمع بعد استتباب الأمن “بقي أن تسحب قطع السلاح الفردي من الشبان، والأطفال المتهورين”. وقال “نعمل على إنشاء دورات في مجال التعليم وتسليط الضوء على المبدعين والفنانين في المناطق الريفية لإيصال رسالة للعالم عن وجود شباب متحمس للتعلم والثقافة”.
بالمقابل، جزم الباحث في مركز للبحوث العلمية، الذي عرف عن نفسه بـ”الدكتور كاظم” أثناء زيارة له إلى المرقد، بفشل من يحاولون صنع شرخ بين الإخوة السوريين، معتبراً أن كل من يفعل ذلك هو عدو للشعب كله. وتابع قائلاً “في وقت كان السوريون يحتفلون بنصرهم، كان الجيش الإسرائيلي يضرب المواقع في سوريا، ولم يفرق بين موال ومعارض. وأقول لمن سافر وهاجر من الشيعة: عودوا، فالمركب للجميع من كل الطوائف، ولا بد من التوحد معاً. إني لم أبرح بيتي بعد كل النداءات التي أتت إلى الأقليات، ولم يؤذني أحد. لقد بدأت الدوام في عملي، وقريباً ستعمل جميع الدوائر. ولم نتعرض لأي كلمة، وكل الإشاعات أظنها مدسوسة وهي ضد كل فئات الشعب السوري”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية