يجلس علاء عمران وهو محاط باهتمام كبير في مقر الشرطة في حمص، في مكتب كان حتى الأسبوع الماضي يديره جهاز الاستخبارات المرعب التابع لبشار الأسد.
بعد أن كان قائداً سابقاً في شرطة النظام، تحول إلى قائد للمتمردين الإسلاميين، وتنتظره مهمة معقدة لا يحسد عليها تتمثل في إدارة عملية انتقالية محفوفة بالأخطار قوامها خمسة عقود من الحكم الوحشي لعائلة الأسد. فقد خلفت الهزيمة التي منُي بها ذلك النظام على يد خليط من المتمردين بقيادة “هيئة تحرير الشام” التي كانت في السابق متحالفة مع تنظيم “القاعدة” – فراغاً أمنياً يجب ملؤه بسرعة قياسية. بيد أن المأزق الذي يواجه كل مدينة في جميع أنحاء سوريا يتمثل في سؤال بسيط: من سيحكم وكيف؟.
يُطلق على حمص، ثالث أكبر مدينة سورية لقب “مهد الثورة”. وهي التي شهدت بعض أعنف المعارك خلال 13 عاماً من الحرب الأهلية والتي لا تزال ندوبها محفورة في كثير من الأحياء. أما المجتمع الحمصي فهو متنوع ويتألف من المسلمين السنة والمسيحيين والأقلية العلوية التي تنتمي إليها عائلة الأسد. وتم تجنيد عمران من قبل “هيئة تحرير الشام” التي قضت أعواماً في النأي بنفسها عن ماضيها الجهادي – لقيادة قوة الشرطة التابعة لها في مدينة [إدلب] الواقعة شمال غربي البلاد قبل سقوط الأسد. حتى هو نفسه يشعر بالدهشة نوعاً ما من الهدوء الذي يسود هنا، على رغم أن الأجواء لا تزال متوترة.
وفي هذا الصدد، يعلن من مكتبه الجديد أنه “بسبب التنوع الكبير للديانات الموجودة في حمص، اعتقدنا بأنه سيكون من الصعب السيطرة عليها”، قال ذلك وهو جالس على مكتبه الجديد، بينما يتعامل أفراد شرطته – مزيج من المقاتلين المتمردين السابقين وسكان حمص النازحين سابقاً – في الطابق السفلي مع عدد لا يحصى من الشكاوى من المواطنين القلقين المتجمهرين في الخارج. ويقول: “ولكن الآن أصبح كل شيء تحت السيطرة. خلال الأسبوع الماضي، لم تسجل أي محاولات بالقتل”.
وفي سياق متصل، لا يعزو عمران نجاح الهجوم الاستثنائي ضد قوات الأسد إلى التكتيكات العسكرية والمعدات العسكرية التي تم تطويرها حديثاً فحسب – في وقت يكثر الحديث عن طائرات مسيّرة من طراز “شاهين” أو “الصقر” – بل أيضاً إلى أعوام من التخطيط لـ”اليوم التالي”.
وتضمّن التخطيط جدولاً زمنياً للانتقال كان من المفترض – وفقاً لـ”هيئة تحرير الشام” – أن يرى الجناح العسكري للجماعات المتمردة ينسحب من المدن لمصلحة قوة شرطة “مدنية” عاملة. ويزعم عمران أنهم أداروا على مدى أعوام برامج تدريبية في محافظة إدلب شمال غربي البلاد لبناء قوة شرطة قادرة على تسيير دوريات في الشوارع وإدارة مراكز يمكن فيها لأولئك الذين يرغبون في التخلي عن أسلحتهم القيام بذلك، فضلاً عن التواصل مع الأقليات والحفاظ على السلام.
ويضيف عمران: “وُضعت الخطة لتشمل جميع الدوائر الحكومية، سواء كانت خدمات صحية أو شرطة. وقمنا ببناء وحدات جاهزة للسيطرة على الأمور ولتولي الإدارة”. وعمران الذي تُعدّ مدينة حمص مسقط رأسه انشق عن نظام الأسد عام 2012 وانضم إلى جماعة “أنصار الشام” الإسلامية المسلحة. ثم عينته “هيئة تحرير الشام” في وقت لاحق لإدارة الشرطة في مدينة حارم بريف إدلب. ويؤكد عمران أنه لم يعُد ينتمي إلى القوات المسلحة ويستقبلنا مرتدياً ملابس مدنية.
يبدو أنه الاتجاه السائد اليوم: فزعيم “هيئة تحرير الشام” أبو محمد الجولاني، وهو اسمه العسكري، بات يفضل أن يعرف باسمه الحقيقي أحمد الشرع والتقى المبعوث الخاص للأمم المتحدة في دمشق مرتدياً اللباس المدني.
يتحدث عمران عن تطوير قوة الشرطة باعتباره جزءاً أساسياً من عملية الانتقال إلى الدولة المدنية السورية الجديدة.
ويقول في هذا الإطار: “تتألف غالبية هذه الوحدات من أشخاص من المدينة ممن سيتولون النظام فيها الآن والذين نزحوا قسراً إلى إدلب بسبب الحرب. أنا من حمص… أرسلوني إلى هنا لأكون القائد لأنني أعرف كثيراً من الناس، مما يجعل المرحلة التالية أسهل بكثير”. وتابع: “أصدرنا إعلان عفو عام وأنشأنا مراكز لجنود النظام لتسليم أسلحتهم ومعاملتهم كمدنيين. يحضر كثير من الأشخاص إلى هذه المراكز يومياً. بيد أن العفو لا يشمل المجرمين لأن الذين ارتكبوا الجرائم سيحاسبون ويساقون للعدالة”.
وفي هذا الإطار، يتحدث الشيخ شريح الحمصي وهو أيضاً من حمص وأحد كبار المسؤولين في “هيئة تحرير الشام” ويؤكد أن الهيئة تنسحب بالفعل من المدن لمصلحة قوات الشرطة. ويضيف أن إحدى المهمات الرئيسة ستتمثل في محاولة تحديد هوية المسؤولين عن الاعتقال التعسفي والتعذيب والقتل الميداني للمواطنين السوريين. وقال: “لقد قمنا ببناء قاعدة معلومات مرتبطة بأولئك الذين ارتكبوا الجرائم”.
ويضيف: “سيتم التعامل مع هذه المسألة أمام النظام القضائي وليس بطريقة انتقامية. لن ندع المشاعر تقودنا وتؤثر في قراراتنا لأن المحاسبة قد لا تكون دقيقة جراء ذلك”.
ليست مهمة بسط الأمن في المدن السورية والحفاظ على السلام مهمة سهلة، بل تحتاج إلى جهود جبارة. ففي الخارج، يتجمع سكان حمص عند أبواب مقر الشرطة، في انتظار المساعدة بترقب وقلق. وقالت إحدى السيدات إنها تتلقى تهديدات من شخص مجهول، فيما أبلغت اثنتان أخريان بأن سيارتيهما سُرقتا خلال الفوضى التي أعقبت انهيار النظام عندما كانت عمليات السرقة والنهب منتشرة على نطاق واسع. ويضيف شخص رابع أن ابنه اختفى في اليوم الذي سقط فيه النظام – وهو مجند سابق يحمل وشماً لوجه الأسد على رقبته – وقد شوهد آخر مرة في مستشفى محلي وهو ينقل شخصاً مصاباً.
فضلاً عن ذلك، يسود القلق أحياء العلويين، نظراً إلى أن الأقلية العلوية غالباً ما ترتبط بالنظام باعتبارها الطائفة التي تنتمي إليها عائلة الأسد. وتعج هذه الشوارع التي نجت من كثير من الدمار الذي خلفته الحرب، بمتاجر الملابس والمطاعم. هنا يشعر الناس بالقلق بصورة خاصة من التداعيات الفوضوية التي قد تترتب على سقوط النظام وإقدام المواطنين العاديين على تولي زمام الأمور بأيديهم. ويقولون إن “هيئة تحرير الشام” أو قوة الشرطة التابعة لها، إذ إن السكان غير متأكدين تماماً من ذلك، تمركزت في نقاط مختلفة في المدينة، لكنها “لا تتعاطى مع أحد”. وتنتشر سياراتهم، المغطاة بالرمال من ساحة المعركة، على طول الطرق.
وفي هذا السياق، يقول ونوس، 48 سنة: “تكمن المشكلة الأكبر في أننا لا نعرف شكل القانون الجديد. نخشى من ارتكاب الأخطاء. سمعنا أنهم سيمنعون تدخين النرجيلة واحتساء الكحول. خلال الفوضى، أقدم أحدهم على تدمير متجر للكحول. لا نعرف شيئاً بعد ونريد الحصول على صورة أكثر وضوحاً”.
كما تنتشر مخاوف في مختلف أنحاء البلاد من أن تنعكس الأيديولوجيا الإسلامية المتشددة لـ”هيئة تحرير الشام” في فرض قيود على النساء، مما كانت القيادة حريصة على دحضه. الوقت كفيل بإثبات ذلك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعيش السكان ارتباكات كبيرة. وفي هذا الإطار، يقول عمار، 40 سنة، وهو مواطن سني يعيش في حي ذات الغالبية العلوية إنه خسر متجرين لأن المالكين الأساسيين عادوا للمطالبة بهما الأسبوع الماضي. وكان سبق لعمار أن اشترى المتجرين من النظام السابق من دون أن يدرك بأنه تمت مصادرتهما من سكان انضموا إلى المتمردين وفروا. وقال: “تقدمت ببلاغ لدى الشرطة الجديدة، ولكنني لا أعرف ما العمل”.
وروى سكان علويون آخرون معاناتهم في ظل النظام وأملوا في أن يتفهم المواطنون العائدون للمدينة ذلك. فمجرد انتمائهم إلى الطائفة التي ينتمي إليها الرئيس السابق لا يعني أنهم كانوا من الداعمين له.
“في ظل نظام الأسد، عملت كسائق توصيل على رغم أنني حائز شهادة ماجستير وأتحدث اللغة الإنجليزية بطلاقة لأن فرص العثور على وظيفة كانت معدومة”، يقول علي الذي تحدث معنا بلغة إنجليزية ممتازة. ويضيف: “لم يكن هنالك من مستقبل آنذاك. أتمنى أن تتحسن الأمور اليوم لأنه يستحيل أن يكون هناك أسوأ مما حدث في السابق”.
ويقول قائد الشرطة الجديد إنه يتم التواصل مع تلك المجتمعات ويزعم أنه وظف أشخاصاً يتحدرون من أقليات متنوعة للعمل ضمن قوات شرطته. وشدد على بذل جهود متضافرة للتصدي لأي هجمات انتقامية أو أعمال عنف، مما يشكل مهمة صعبة، خصوصاً مع ارتفاع منسوب العواطف والمشاعر في الأحياء المدمرة على غرار الخالدية وبابا عمرو حيث اندلعت معارك مرعبة في بداية الحرب الأهلية.
رافقنا أبو بلال، 33 سنة، وهو مقاتل في “هيئة تحرير الشام”، في طريق عودته لمنزله المدمر في الخالدية للمرة الأولى بعد 15 عاماً من فراق عائلته. فهو كان قد فر من الخدمة العسكرية الإلزامية ومن ثم عُذّب وسجن عام 2012 لينضم بعدها إلى “جبهة النصرة “التي يصنفها الغرب منظمة إرهابية والتي سبق أن اعتبرت واحدة من أقوى الجماعات المعارضة المسلحة في ذلك الوقت. وفي ما بعد، أصبحت وحدته جزئاً من “هيئة تحرير الشام” المصنفة هي أيضاً منظمة إرهابية من قبل الدول الغربية، على رغم أنها تعمل لإسقاط ذلك اللقب عن المجموعة. عاش أبو بلال لأعوام طويلة عند الخطوط الأمامية للمعارك. واليوم يعود للديار. تنقّل بين أنقاض منزله المدمر والدموع تنهمر من عينيه ثم وجد صوراً من طفولته في مطعم بمدينة طرطوس الساحلية، وصوراً له وهو ممدد على الشاطئ “لإثارة إعجاب الفتيات”، كما يقول. “كنت شاباً”، أضاف مبتسماً.
كان موجوداً للمرة الأخيرة في هذا المبنى عام 2009 قبل أن يتم سوقه للتجنيد العسكري – يُظهر لنا أداة تمرين السحب التي كان يستعملها في شبابه والتي أصبحت محترقة، ولكنها لا تزال مثبتة على الحائط. وأخبرنا كيف كان شقيقه يأخذ الهاتف الأرضي إلى غرفة نومه ويتصل بخطيبته سراً. عائلته اليوم لاجئة في لبنان.
وأضاف: “عندما أتيت إلى هنا للمرة الأولى، وقفت ولم أتمكن من دخول المنزل. كان الموقف لا يحتمل. قُتل كثير من الجيران – قُتلوا أو فُقدوا”.
في منطقة بابا عمرو المجاورة، ما زال يحيى طعمي، 55 سنة، يعيش في الحي المدمر بعد أن أمضى ستة أعوام داخل سجون النظام في أوائل الحرب وكاد يموت أثناء نقل الصحافيين الغربيين إلى داخل وخارج هذه المناطق المتمردة على متن دراجات نارية. قبل ساعات من لقائنا به، وصله خبر بأن ابنه المفقود الذي تم توقيفه عام 2012 بتهم الإرهاب ومساعدة الناس في الانضمام إلى الفصائل المتمردة، أُعدم عام 2015 في سجن صيدنايا السيئ السمعة الذي يُعرف باسم “المسلخ البشري” في سوريا.
أمضت العائلة ما يقارب عقداً من الزمن في البحث عن ابنها. ولكن أحد المحامين تمكن من دخول السجن ووجد اسمه ورقمه في قائمة الإعدام.
يقول طعمي وخلفه منزله المدمر: “حاولنا على مدى عقد من الزمن البحث عنه. كنا متمسكين بالأمل. لا يسعنا سوى أن نتمنى مستقبلاً أفضل لسائر شبابنا”.
بالعودة لمركز الشرطة، يؤكد عمران أن الهدف يقوم على تحقيق ذلك المستقبل الأفضل ويضيف أنهم سيقومون بمضاعفة عديد قوات الشرطة في وقت قصير كقاعدة للشروع في بناء دولة جديدة. وفي غضون ذلك، يطلبون الصبر من الأشخاص اليائسين والتواقين إلى الحصول على إجابات عن أحبائهم المفقودين، أو الانتهاكات التي ارتكبها النظام. ويقول عمران: “الأولوية الآن هي بسط الأمن في المدن والمناطق. وتتمثل المهمة الأكثر إلحاحاً في إعادة تأهيل صورة الشرطة التي فقدت ثقة الشعب بها لعقود طويلة. سنبني الثقة مجدداً وبعد ذلك يمكننا التحقيق في الجرائم”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية