في نيو أورلينز، دهس شمس الدين جبار بشاحنته حشداً من المحتفلين برأس السنة عند الفجر، فقتل 14 منهم وقتل هو الآخر في تبادل لإطلاق النار مع الشرطة. كما زرع أجهزة متفجرة منزلية الصنع حول الحي الفرنسي، لكنها لم تنفجر. وفي وقت لاحق من ذلك النهار، قاد ماثيو ليفلسبيرغر شاحنة “تيسلا سايبرترك” محملة بالمتفجرات وركنها خرج فندق ترمب في لاس فيغاس، ثم أطلق النار على نفسه قبل لحظات من انفجار الشاحنة.
خدم الرجلان في الجيش الأميركي، وفيما أنهى جبار خدمته في عام 2020، ظل ليفلسبيرغر في الخدمة الفعلية في كولورادو بعد مسيرة مهنية تقلد خلالها أوسمة في وحدات القوات الخاصة لسلاح المشاة المسماة القبعات الخضراء.
واعتنق الرجلان آراء متطرفة، إذ بايع جبار الجماعة الإرهابية “داعش”، وأمل ليفلسبيرغر في أن يؤثر هجومه في المواطنين الأميركيين “كي يصحوا” ويدركوا أن قادتهم “ضعفاء يعملون على إثراء أنفسهم فحسب”.
قاتل الرجلان في أفغانستان. حتى إنهما خدما في القاعدة نفسها في كارولاينا الشمالية.
ومن ثم يطرح هجوما الشاحنتين تساؤلاً: هل يعاني الجيش [الأميركي] من مشكلة تطرف، وإن كانت الحال كذلك، فما العمل من أجل وضع حد لها؟
من ناحية أخرى، لا يبدو الأشخاص الذين يملكون خلفية عسكرية أكثر عرضة لاعتناق آراء متطرفة من باقي مواطني البلاد.
وهذا وفقاً للباحث في معهد “راند” راين آندرو براون الذي أعد تقريراً عن المعتقدات المتطرفة في أوساط قدامى المحاربين شمل عينات تمثل كل الأطياف في البلاد.
وقد طرح على المشاركين أسئلة تتعلق بتأييدهم مجموعة من العقائد، من قضايا اليمين مثل “كيو آنون” ونظرية الاستبدال الكبير العنصرية، إلى قضايا اليسار مثل أنتيفا والقومية السوداء. وقال لـ”اندبندنت”، “وجدنا أن مستوى التأييد لهذه العقائد أو الجماعات إما يضاهي أو يقل عن المستوى المسجل بالنسبة لسكان الولايات المتحدة بشكل عام، في إشارة إلى أن قدامى المحاربين ليسوا معرضين بشكل خاص للتطرف أو التجنيد على أساس العقيدة أو الانتماء إلى هذه الجماعات”.
لكن المحاربين السابقين الذين يحملون بالفعل فكراً متطرفاً أكثر عرضة [أكثر ميلاً] للتصرف وفقاً لهذا الفكر.
وجدت دراسة أعدها الاتحاد الوطني لدراسة قضايا الإرهاب والاستجابة للإرهاب أنه بين 1990 و2022، خطط 170 فرداً لديهم خلفية عسكرية في الولايات المتحدة لشن 144 هجوماً إرهابياً هدفها إيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا، ويمثل هؤلاء ربع العدد الإجمالي للأفراد الذين خططوا لهجمات مماثلة خلال الفترة نفسها. وتفوق تلك النسبة معدل قدامى العسكريين مقارنة بالعدد الإجمالي من السكان بثلاث مرات.
كما وجدت الدراسة أن ثلاثة أرباع هؤلاء الجناة حركتهم جماعات وحركات يمينية متطرفة.
وقالت ويندي فيا الرئيسة التنفيذية وإحدى مؤسسي المشروع العالمي لمناهضة الكراهية والتطرف، “لا يعني ذلك وجود عدد أكبر من المتطرفين في صفوف الجيش”.
لكن المشكلة هي التصرف الذي يقدم عليه هذا العدد القليل من الأفراد عندما يتجهون نحو التطرف. فالأشخاص الذين يختارهم الجيش بالطبع هم الذين يبدون استعداداً للالتزام بمهمتهم ويقبلون التعامل مع الأخطار. والجنود السابقون المتطرفون يأخذون هذه المزايا ويضيفون إليها تدريبهم على القتال ويستخدمونها في تنفيذ غايات إرهابية.
أضافت فيا، “يملكون هذه الخبرة وهذا ما رأيتموه في الحادثتين. رأيتم ذلك من خلال عملية الرصد. ومن خلال التخطيط. والتسجيل. والتدريب على استخدام السلاح. وأجهزة التفجير المنزلية الصنع. وكل ذلك من بنات التدريب العسكري”.
إن هذه المزايا، إضافة إلى إجلال أميركا للجيش، هي سبب سعي جماعات وميليشيات اليمين المتطرف أمثال “حراس القسم” (Oath Keepers) إلى تجنيد جنود يعملون في الخدمة الفعلية وجنود سابقين، وغالباً ما تكون النتيجة مخيفة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وشارك عدد من المحاربين السابقين في اقتحام مبنى “الكابيتول” الأميركي في عام 2021 إلى جانب تنظيمات من اليمين المتطرف مثل “الفتيان الفخورون” (Proud Boys) و”حراس القسم”، وحينها أصبح الأفراد المدربون على حماية أميركا جزءاً من حشد الغوغاء الذي حاول التمرد على نتيجة الانتخابات.
وتظهر ظروف هجومي فيغاس ونيو أورلينز مدى جسامة هذا الخطر وتعقيده. فرغم اعتناق الرجلين آراء متباينة للغاية واختلاف ظروفهما الشخصية أيما اختلاف، وصلا إلى خلاصة متشابهة من حيث العنف.
وقال أحد أفراد عائلة ليفلسبيرغر لـ”اندبندنت”، إن الرجل كان وطنياً إلى أبعد الدرجات “وأحب ترمب”.
وقال دين ليفلسبيرغر، عم منفذ الهجوم “كان يضع منشورات وطنية كثيرة على فيسبوك وكان محباً للبلاد 100 في المئة. أحب ترمب وكان دائماً جندياً وطنياً وأميركياً وطنياً إلى أبعد الدرجات. هذا أحد أسباب التحاقه بالقوات الخاصة سنوات طويلة. لم تقتصر خدمته على جولة واحدة في الجيش”.
وأشارت تقارير إلى أن ليفلسبيرغر انفصل عن زوجته قبيل تنفيذه الهجوم، وأنه أرسل بريداً إلكترونياً يطرح نظريات مؤامرة إلى مقدم مدونة صوتية معروف، زعم فيه أن المسيرات التي حلقت فوق نيو جيرسي أخيراً وأثارت الرعب ليست إلا دليلاً على امتلاك الصين تكنولوجيا “التلاعب بالجاذبية” gravitic propulsion. وبدا أن ليفلسبيرغر الذي عمل في وقت ما على تنظيم السلع وتوزيعها على الأطفال في أفغانستان، يعاني من صراع أخلاقي بعد الحياة التي قضاها في الخدمة القتالية. وقد دون على هاتفه أنه يريد “تطهير” ذهنه “من الإخوة الذين فقدتهم وتحرير نفسي من عبء الأرواح التي أزهقتها”.
وفي المقابل، عانى جبار أيضاً من مشاكل شخصية مع أن أفراد أسرته لا يزالون غير قادرين على فهم توجهه نحو التطرف.
فقد مر الرجل، وهو مواطن من تكساس، بثلاث تجارب طلاق قبل شن الهجوم، بينما بلغت ديونه وخسائر أعماله التجارية مئات آلاف الدولارات. وقال أفراد العائلة، إن جبار اعتنق الإسلام “معظم حياته” لكن تحوله إلى العنف غير مرتبط بإيمانه.
وذكر أخوه غير الشقيق عبدالجبار لـ”نيويورك تايمز” أن “ما فعله لا يمثل الإسلام. فهذا فعل أقرب إلى نوع من التطرف وليس إلى الدين”.
واتخذ الجيش خطوات مشجعة للحيلولة دون وقوع أعمال عنف في المستقبل، مثل دراسات التطرف التي أطلقتها إدارة بايدن في الجيش ووزارة الأمن القومي، واعتماد قوات البحرية، المارينز، كما الجيش، قواعد جديدة لتقديم التقارير وتدريب أفراد القوات على النشاطات المتشددة المحظورة.
لكن وفقاً لفيا، يمكن بذل جهود أكبر لكن يبدو أن الجمهوريين أتباع حركة “ماغا” [جعل أميركا عظيمة مجدداً] يعقدون العزم على إلغاء قسم كبير من التقدم الجزئي الذي تحقق إلى الآن.
وأشارت فيا إلى فريق عمل مختص بشؤون مكافحة التطرف داخل وزارة الدفاع خسر تمويله بشكل منتظم حتى فقده نهائياً في قانون مخصصات الدفاع الوطني لهذا العام. وجاءت عمليات الاقتطاع من الميزانية بسبب اليمين الذي دفع نحو إلغاء أي نوع من التركيز على الهوية أو السياسة داخل الجيش تبذريعة القضاء على توجه القوات المسلحة المزعوم نحو تيار “اليقظة الاجتماعية” برأي فيا.
وقالت، “هذه نتيجة التزام الجمهوريين أتباع ’ماغا’ بالكامل إلغاء الاتجاه نحو التنوع والمساواة والإدماج واليقظة مع أن تيار اليقظة ليست توجهاً حقيقياً. بل هي مجرد عبارة يستخدمونها للتخويف. وهذا ليس سوى مصطلح استخدم بنجاح للإشارة إلى مشكلة غير حقيقية”.
وفي الواقع، يشهد تاريخ الجيش الطويل بريادته لقضايا التقدم الاجتماعي، إذ بدأ بتنفيذ الدمج العرقي في أربعينيات القرن الماضي قبل عقدين من التقدم القانوني التاريخي الذي حققته حركة الحقوق المدنية. وهو أكثر تنوعاً في الوقت الراهن من مواطني الولايات المتحدة أنفسهم، وقد يسهم هذا التفاعل الإيجابي بين أشخاص من مختلف الخلفيات في نزع فتيل التطرف من أشخاص كثر بالفعل، وفقاً لبراون، خبير مؤسسة “راند”.
وفي الوقت عينه، أفاد أكثر من ثلث عناصر القوات العاملة في الخدمة الفعلية وأكثر من نصف أفراد الأقليات في الخدمة العسكرية في استطلاع للرأي أجرته المجلة الإلكترونية للشؤون العسكرية “MilitaryTimes” في 2020، أنهم شهدوا شخصياً مظاهر قومية العرق الأبيض أو غيرها من أشكال العنصرية القائمة على أساس عقائدي في صفوف الجيش.
وعلى رغم هذه الحقيقة المعقدة، لا يبدو من المرجح أن تواصل إدارة ترمب القادمة إجراء الأبحاث وتقديم التمويل الذي يقول الخبراء إنه مهم من أجل التصدي للتطرف، إذ تقلل من شأن طبيعة التهديد أحياناً وتقدم وصفاً مسيساً جداً يفتقر إلى الدقة عنه أحياناً أخرى.
وبعد هجوم نيو أورلينز، سارع ترمب فوراً إلى ربط عملية القتل بالمهاجرين الذين يعبرون الحدود الأميركية المكسيكية، مع أنه تبين لاحقاً أن المهاجم جندي سابق ومواطن أميركي.
وقبل المجزرة، تعهد ترمب تأسيس قوة “مناهضة لليقظة” لمراقبة الجنرالات الأميركيين فيما يتهم مرشح إدارة ترمب لمنصب وزير الدفاع بيت هيغسيث، بأنه صاح “اقتلوا كل المسلمين” وهو ثمل وكان عندها رئيس مجموعة من قدامى محاربي الجيش، وقد رفض التعليق على هذه المزاعم.
في عام 2021، منع هيغسيث الجندي السابق في الحرس الوطني، من المشاركة في تنصيب الرئيس بايدن لأن أحد ضباط الجيش راوده قلق من نقش هيغسيث وشوماً للصليب التي رفعته الحملات الصليبية ولشعار “هذه إرادة الرب” الذي ينتشر بين ميليشيات اليمين المتطرف. وقال براون، باحث مؤسسة “راند”، إنه يرى غياباً مقلقاً للمراجعة الذاتية عند الساسة والمعلقين السياسيين في موضوع تطرف قدامى المحاربين، إذ يبدو أن بعضهم لا يعترفون بوجود هذا التطرف سوى عندما يبدر عن شخص لديه هوية أو عقيدة مختلفة عن الطرف السياسي الذي يؤيدونه. وأضاف، “إنه أمر مؤسف حقاً. فالجميع يترقب الكشف عن عرق المهاجم وهويته ويأمل ألا يكون من الطرف الذي يؤيده. وإن كان ‘من طرفه’ فلا بد أنه هجوم بهدف تلفيق التهمة عليهم”.
فيما قد لا يبدي المسؤولون استعداداً لمواجهة المشكلة مباشرة، لا بد أنها مسألة وقت ليس إلا قبل بدء المخطط [وقوع الحدث] التالي.
نقلاً عن : اندبندنت عربية