كان المهندس الأميركي ويليس هافيلاند كارير عام 1902 يحاول إيجاد وسيلة لحل مشكلة تتعلق بالرطوبة في مصنع للطباعة يعمل داخله في نيويورك، وبات عليه أن يجد جهازاً يمكنه التحكم في درجة الحرارة والرطوبة داخل المصنع لتحسين جودة الطباعة، وهذا الجهاز تطور سريعاً ليصبح مكيفاً أو مبرد الهواء الذي بات موجوداً في كل بيت ومؤسسة وسيارة وحتى في المركبات الفضائية.

وربما لم نكن لنتمكن من الوصول إلى الفضاء لولا هذا الجهاز بسبب ضرورته القصوى داخل الصواريخ التي تنقل رواد الفضاء وداخل المحطة المدارية حيث يمضون وقتاً طويلاً. ولذلك هو ليس مجرد رفاهية، بل ضروري لبقاء رواد الفضاء على قيد الحياة في ظروف قاسية، إذ تتجاوز درجات الحرارة في الجانب المشمس 120 درجة مئوية وتنخفض إلى 150 درجة مئوية في الظل. ويجب أن تكون درجة الحرارة الثابتة داخل المركبة الفضائية نحو 22 درجة مئوية لضمان سلامة المعدات وصحة الطاقم.

ولولا مكيف الهواء لما كان كثير من المدن الصحراوية حول العالم مزدهراً كما هو اليوم، فلولا وجود مبرد الهواء كآلة أساسية في هندستها العمرانية وفي معظم الأماكن التي يوجد فيها الناس، خصوصاً عندما ترتفع الحرارة في الخارج فوق الـ40 درجة مئوية وصعوداً، كما هي حال مدن وعواصم الخليج العربي وشمال أفريقيا وجنوب الولايات المتحدة ومناطق شاسعة من الصين وأستراليا، لكانت هذه المدن لا تزال بلدات صغيرة تعتمد التبريد البدائي، ولما تمكنت من ضم ملايين السكان والوافدين وتصبح مدناً منتجة على كل الصعد.

تثبيت تبريد الهواء

كانت المشكلة الطباعية الناتجة من التقلبات في درجة الحرارة والرطوبة في مطبعة بروكلين سبباً لإحداث تغييرات في ورق الطباعة وخلل في الحبر الملون، مما دفع مهندس المطبعة إلى إيجاد طريقة لتثبيت حرارة الجو في المطبعة. وبعد أعوام عدة من الاختبار والتحديث نال المهندس كارير براءة اختراع على جهاز سمي حينها “معالج الهواء”. ومنذ ذلك الحين تم اعتماد أربعة شروط يجب توافرها في المكيف كي يكون صالحاً للاستخدام العام، وهي التحكم بدرجة الحرارة والرطوبة ودوران الهواء والتهوية وتنقية الهواء.

 

 

وفي عام 1924، بدأ الطلب على تبريد المنازل بعد أن كان للاستخدام الصناعي فحسب، إذ لوحظ توافد الزبائن على مخزن “هدسون” المكيف بمبردات في مدينة ديترويت بولاية ميشيغان، واكتظت صالات السينما بالرواد لا سيما في مسرح ريفولي في نيويورك خلال الصيف بعد الإعلان عن توافر خدمة التبريد في الصالات. وفي مواقف طريفة عرفت عن المكيف في بداياته أن بعض الناس كانوا يحضرون بطانيات معهم لأنهم لم يعتادوا على هذا النوع من البرودة، وشعروا بأنها أبرد مما يجب. وأطلق عليه اسم “السحر العلمي” في المناطق الأميركية النائية وظن الناس هناك أن هذه الآلة “تسرق الهواء النقي” وتتسبب بأمراض خطرة.

خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الـ20، بدأت الحكومات والمباني العامة والمحاكم والبرلمانات، باستخدام التكييف مما شجع الناس على تقبل هذه التكنولوجيا الجديدة والغريبة بصورة أوسع، خصوصاً أن المسؤولين الحكوميين باتوا يعتمدون عليها. وانتشرت نكتة شعبية في الولايات المتحدة حينها بأن “السياسيين أصبحوا أكثر هدوءاً داخل الغرف المكيفة لأن حرارة النقاش أصبحت باردة”. وأدى هذا الجهاز إلى ازدهار صناعة الأفلام واللحوم والتبغ والأدوية والمنسوجات وغيرها من أنواع صناعات غذائية كثيرة.

بعد الحرب العالمية الثانية، في أوائل الخمسينيات بدأت شركات السيارات الكبرى مثل “كاديلاك” و”كرايسلر” بتطوير أنظمة تكييف لسياراتها الفاخرة، وبحلول ستينيات القرن الـ20 أصبح مكيف الهواء من الميزات الاختيارية لمشتري السيارات العادية وليس بالضرورة الفاخرة منها. وهذا أدى إلى اتساع أسواق السيارات المكيفة بصورة واسعة جداً في أنحاء العالم وجعل المركبة المبردة من أهم الأدوات المعيشية في دول كثيرة وعلى رأسها في البدايات المدن النفطية المزدهرة في الولايات الأميركية الجنوبية ودول الخليج العربي وإيران والجزائر.

 



وعدا عن تسهيلها التنقل اليومي للمواطنين والعمال فإنها ساعدت في الانتقال لمسافات طويلة داخل الدول الحارة، مما أسهم في تطوير شبكات طرق حديثة وسريعة، الذي فتح بدوره آفاقاً اجتماعية واقتصادية كبيرة في هذه الدول عبر التواصل وتبادل المعارف والبضائع في نطاق الدول الحارة والشاسعة المساحة.

سيناريو لدول الصحراء من دون مكيفات

لم تكن الحياة غير ممكنة من دون اكتشاف مبرد الهواء، فمنذ زمن قديم لجأ سكان المناطق الحارة إلى وسائل تبريد المساكن والمعابد أولاً عبر استخدام الرخام والغرانيت في البناء وهي صخور مبردة، واستخدما وغيرهما من أنواع الصخور الصلدة في عمارة الهند القديمة وفي قصور ومعابد المصريين القدماء وكذلك في روما القديمة. ففي روما كانت تمد قنوات لجر المياه عبر جدران المنازل لتبريدها.

في المناطق المأهولة من الصحراء الكبرى تم قديماً بناء المنازل من حجر رملي يحفظ البرودة في الصيف والدفء في الشتاء، وجرى توزيع النوافذ الصغيرة في أعلى الجدران على الجهات المفتوحة على تيارات الهواء. وكان تصغير حجم وعدد النوافذ يمنع دخول أشعة الشمس المباشرة والسماح بالتهوية. وفي منازل المشرق العربي في بيروت ودمشق وبغداد والقدس وفي مدن الواحات في الأحساء وفي مملكة البحرين والمدن اليمنية القديمة كان معظم البيوت التقليدية تضم فناء داخلياً مفتوحاً ومزروعاً بالزهور والنباتات ويحوي بركة مياه في الوسط، ومعظمها كان يملك بئر ماء خاصة به.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما في مدن شبه الجزيرة العربية القديمة مثل دبي والشارقة والرياض وجدة ومكة فكان يبنى من ضمن هندسة البيوت، أبراج الهواء التي تمرر الهواء داخل فراغ رطب يترك بين جدارين خارجي ثم فراغ داخلي، فيصل الهواء من البرج في رحلة بين الجدران من الأعلى إلى الأسفل حيث يصل بارداً. وفي منتصف القرن الـ18 عمدت بعض مستشفيات الهند إلى طريقة بسيطة في التبريد تقوم على دفع الهواء عبر أنابيب.

الأزقة والشوارع الضيقة بين المباني كانت توفر الظلال على مدار اليوم، مما يقلل من درجة الحرارة داخل المدينة، وساعد ارتداء الملابس البيضاء أو ذات الألوان الفاتحة والمصنوعة من القطن أو الكتان في توفير التهوية الذاتية. وكان الناس يقومون بالأعمال اليومية في الصباح الباكر أو بعد غروب الشمس، وكان النوم خلال فترة الظهيرة من روتين الحياة اليومية، لتقليل النشاط البدني في أثناء ارتفاع الحرارة خلال النهار.

وكانت الجرار الفخارية تستخدم لتبريد الماء. أما في بعض مجتمعات البدو الرحل، فكانوا ينتقلون إلى المناطق الجبلية الأكثر اعتدالاً أو للعيش بقرب الواحات خلال فصل الصيف. وفي مناطق صحراوية مختلفة حول العالم وجدت قرى مبنية تحت الأرض، وفي العالم العربي تعرف تونس والمغرب بمثل هذه المساكن المبنية في تجاويف الوديان وتحت الأرض ضمن هندسة تهوية بدائية عبقرية تعمل على تبديل الهواء في هذه المنازل، وفي تركيا وجدت مدن مبنية تحت الأرض كان أصغرها يتسع لما يزيد على 25 ألف ساكن في منطقة كابادوكيا الشهيرة.

مكيفات الهواء حول العالم

يقدر عدد مكيفات الهواء المستخدمة في العالم بنحو 1.6 مليار، ويتوقع أن يتضاعف هذا الرقم ليصل إلى 5.6 مليار بحلول عام 2050. مما جعل هذه الآلة أحد الأسباب الرئيسة لاستهلاك الكهرباء عالمياً، الذي يشكل نحو 20 في المئة من إجمالي الاستهلاك العالمي من التيار.

تحتل الصين أعلى اللائحة على أساس معدلات استخدام مكيفات الهواء والتي يبلغ عددها 569 مليون وحدة، ثم تليها الولايات المتحدة بـ374 مليون مكيف.

 

 

وجاء في إحصاءات حديثة أن الطلب على الكهرباء بسبب مكيفات الهواء سيحتاج إلى طاقة تعادل ما تنتجه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان مجتمعة بحلول عام 2050 إذا لم يتم العمل على خفض المكيفات للاستهلاك وتطويرها، مما يتسبب بضرر بيئي واسع من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، لأن آلية عمل المكيفات تقوم على طرد الحرارة الزائدة إلى الخارج عبر تبريد الداخل مما يشكل “جزيرة الحرارة الحضرية”، إذ تصبح المدن أكثر حرارة ما يزيد من الاعتماد على المكيفات واستهلاكها للطاقة مما يدخل هذه المدن في حلقة لا تنتهي من الاستهلاك والتأثير البيئي. هذا عدا عن أن بعض المكيفات تحوي مركبات الكربون الهيدروفلورية، وهي غازات دفيئة تسهم في الاحتباس الحراري في حال تسربها.

وحال الحاجة إلى مبرد الهواء من جهة وتأثيره البيئي السلبي من جهة أخرى يعبر عن التفاعل العكسي بين راحة الإنسان والتوازن المناخي، فتبريد داخل البيوت يؤدي إلى رفع حرارة كوكب الأرض.

لهذه الأسباب صمم باحثون في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية “كاوست” نظام تبريد بسيطاً لا يحتاج إلى كهرباء، بل يعتمد على الطاقة الشمسية فحسب. ويستهدف هذا النظام البلدان الفقيرة والحارة التي تفتقر إلى شبكات كهرباء، فتشتد الحاجة إلى تبريد المنتجات الزراعية والأطعمة وتكييف المنازل. واستخدم فريق البحث وسيلة بسيطة لصنع حاوية مبردة قابلة للتعديل لحفظ المنتجات، وتعتمد على تذويب نيترات الأمونيوم في الماء فتهبط درجة حرارة الوعاء إلى 3.6 درجة، وتظل دون 15 درجة مئوية أكثر من 15 ساعة. ونيترات الأمونيوم متوافر ورخيص الثمن، ونشر هذا البحث في مجلة “إنيرجي أند إنفايرونمينتل ساينس” عام 2022.

نقلاً عن : اندبندنت عربية