رغم أوجه التباين الواضحة بين مقدمات وطبيعة تطور الحربين في سوريا وأوكرانيا، فإن هناك أوجه شبه عديدة، أبرزها كيفية تخلي قوة عظمى مثل أميركا وروسيا، يحكمها شخص مهيمن سياسياً وعسكرياً مثل ترمب وبوتين، عن قوة إقليمية متحالفة معها في حال صراع مثل سوريا وأوكرانيا، ويحكمها شخص في وضع متأزم مثل زيلينسكي والأسد. فما أوجه الشبه والاختلاف بين الصراعين، وكيف تباين سلوك ترمب مع زيلينسكي عن سلوك بوتين مع بشار الأسد؟

ضغوط إنهاء الحرب

يبدو أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب محق في محاولته إنهاء الحرب المدمرة في أوكرانيا التي أكملت عامها الثالث، من خلال البدء في إجراء محادثات مع روسيا بعدما تبين لجميع الأطراف أن هذه الحرب لا يمكن أن تنتهي إلا من خلال المفاوضات. لكن الطريقة التي يتعامل بها ترمب مع هذه المهمة تبدو متشابهة من حيث الفكرة والمبدأ مع الطريقة التي تعامل بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع رئيس النظام السوري الهارب بشار الأسد، على الأقل في الأشهر الأخيرة التي سبقت سقوطه، رغم بعض الاختلافات.

أرسل ترمب في الأيام الأخيرة مساعديه للتفاوض مع موسكو من دون مشاركة أوكرانيا أو حلفاء الـ”ناتو” الأوروبيين، واتهم كييف بأنها مسؤولة عن الحرب لأنها لم تبرم اتفاقاً منذ البداية مع روسيا، وطالب بالسيطرة على الثروة المعدنية لأوكرانيا كثمن لاستمرار الدعم الأمني أو العسكري، وأطلق على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لقب “ديكتاتور بلا انتخابات”، وهذا كله من أجل تعظيم أساليب الضغط بهدف رضوخ زيلينسكي لرغبة ترمب في إنهاء الحرب. 

وكرر ترمب خلال حملاته الانتخابية أن أوكرانيا أصبحت تشكل عبئاً لا يطاق على كاهل الولايات المتحدة بعدما أنفقت إدارة بايدن ما يقدر بنحو 185 مليار دولار على الدعم العسكري لأوكرانيا، واستنفدت مخزونات الجيش الأميركي تقريباً، من دون أن تضع استراتيجية حقيقية لإنهاء الحرب.

 

وبالمثل، مارس بوتين ضغوطاً كبيرة على بشار الأسد للدخول في مفاوضات مع تركيا، من أجل إنهاء الحرب المستمرة بلا نهاية في سوريا بشرط خروج إيران من البلاد، ورغم أن بوتين لم يستخدم لغة قاسية علناً ضد الأسد، فإن علامات الامتعاض والتحذير بدت جلية في أكثر من مناسبة بعدما صارت سوريا عبئاً على الكرملين الذي بلغت استثماراته في سوريا ما يقارب 20 مليار دولار، واضطرت موسكو بعد حرب طويلة إلى سحب غالبية طائراتها الحربية وقوات أخرى من سوريا لدعم جهود حربها ضد أوكرانيا.

تجاهل سوريا وأوكرانيا

ومثلما تم تجاهل انخراط المفاوضين الذين يمثلون النظام السوري السابق في المفاوضات الساعية لرسم خريطة لحل النزاع في سوريا، التي شاركت بها تركيا وإيران إلى جانب روسيا في كل من “أستانا” و”سوتشي”، وافق الرئيس الأميركي ترمب على بدء مناقشات إنهاء الحرب من دون وجود أوكرانيا أو أي حليف آخر على الطاولة، في تعارض مع المبدأ الأساس الذي أعلنته إدارة الرئيس السابق جو بايدن منذ بداية دعمها لأوكرانيا، وهو “لا شيء عن أوكرانيا من دون أوكرانيا”، وهو ما فسر على أنه يمثل انتصاراً للرئيس بوتين الذي يرى أن حرب أوكرانيا صراع على مناطق النفوذ بين القوى العظمى.

 

غير أن الفارق بين استراتيجية بوتين وترمب تتمثل في أن بوتين قرر في لحظة فاصلة خلال هجوم قوات المعارضة جنوباً باتجاه حلب ثم حمص ودمشق، التخلي مرة واحدة عن دعم الأسد والسماح بانهيار نظامه بسرعة مذهلة بعدما أيقنت روسيا بحسب تقارير صادرة من مراكز استراتيجية في موسكو، أن جهات خارجية (الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل) نظمت عملية عسكرية مخططة، ولهذا لم تفعل القوات الروسية في سوريا أي شيء ملموس على الأرض لمساعدة الأسد في الدفاع عن بلاده، وترك بوتين القوات الإيرانية المنهكة والضعيفة في سوريا من دون غطاء جوي مما دفع الإيرانيين إلى الانسحاب، وكان كل ذلك بمثابة ضربة قاضية أنهت الحلف الاستراتيجي بين موسكو ودمشق الذي دام 53 عاماً مع بشار ووالده حافظ الأسد.

ومع ذلك، لم تخرج روسيا من سوريا تماماً، إذ عاودت موسكو التواصل مع القيادة السورية الجديدة في دمشق من أجل التفاهم على إبقاء القواعد العسكرية الروسية في سوريا (البحرية في طرطوس، والجوية في حميميم باللاذقية)، وذلك رغم استضافة موسكو رئيس النظام الهارب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

استراتيجية أوسع

في المقابل، اتبع الرئيس الأميركي استراتيجية غير واضحة المعالم حتى الآن، لكنها بدت ضاغطة وفعالة من خلال خطوات تدريجية تستهدف إجبار زيلينسكي على قبول التنازل عن غالبية الأرض التي سيطرت عليها روسيا في أوكرانيا.

بدأت هذه الاستراتيجية من خلال مكالمة هاتفية مطولة مع بوتين، أعقبها حوار بين كبار المسؤولين في الولايات المتحدة وروسيا في السعودية، ومع ذلك، بدا أن استراتيجية ترمب لا تدور حول إنهاء الحرب في أوكرانيا فحسب، بل أيضاً حول التوصل إلى صفقة كبرى جديدة مرتبطة بمزيج من مجالات النفوذ الجيوسياسية والقضايا المتقاطعة من الوصول إلى الموارد الطبيعية في أوكرانيا إلى الحد من انتشار الأسلحة النووية في القرن الـ21، والتي لا تنطوي فقط على المخاوف النووية، ولكن أيضاً المنافسة في الفضاء والفضاء الإلكتروني.

إعادة تشكيل النظام الدولي

بعبارة أخرى، يبدو أن فريق السياسة الخارجية للرئيس الأميركي يستغل المفاوضات حول أوكرانيا كمنتدى للتفاوض على إعادة تشكيل النظام الدولي من خلال نظرية بسيطة ومغرية، وهي استخدام التقارب الأميركي الكبير مع روسيا لتقويض المحور الذي يربط موسكو بالصين وإيران وكوريا الشمالية، مع تعزيز المصالح الاقتصادية للولايات المتحدة.

ومع ذلك، يحذر البعض من تحديات يجب على ترمب معالجتها بحكمة، بصفته زعيم أقوى وأغنى ديمقراطية في العالم، من خلال الدبلوماسية حيثما أمكن، ومن خلال التطبيق الحكيم للضغوط أو حتى القوة عند الضرورة.

 

أخطار كبيرة

ولأن الأخطار الكبيرة تأتي مصحوبة بمكافآت كبيرة، يرى مراقبون مثل كبير الباحثين في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن بنيامين جينسن، أنه من الضروري الأخذ في الاعتبار الدور الذي لعبته الدبلوماسية والصفقات الكبرى المماثلة تاريخياً في نهاية الحروب الكبرى، والتي توفر قدراً أكبر للحذر من أسباب الاحتفال. هناك تاريخ طويل من الدول التي سعت إلى إبرام اتفاقات وصفقات كبرى في نهاية الحروب لإعادة ضبط النظام الدولي، وتميل هذه الجهود الدبلوماسية إلى إشراك محاور استراتيجية طويلة الأجل تؤدي إلى معاهدات شهيرة.

وتتعلق هذه الصفقات أيضاً بالمنافسة طويلة الأجل والصراعات المتكررة التي يستخدم فيها رجال الدولة الرحلات السرية والدبلوماسية عالية الأخطار لتغيير توازن القوى، كما فعلت رحلة هنري كيسنجر الشهيرة إلى الصين في عام 1971، وكما فعلت رعاية الرئيس جيمي كارتر السرية للمفاوضات المصرية الإسرائيلية في كامب ديفيد عام 1978، ورحلة نيفيل تشامبرلين المشؤومة إلى ميونيخ للقاء الزعيم النازي أدولف هتلر في عام 1938.

صراعات كامنة

وحتى حينما تنتهي الحروب ويتم تجنب الأزمات، تظل الصراعات الكامنة القائمة على القوة موجودة، حيث نادراً ما تكون القوى العظمى التي لديها مصالح على استعداد للتضحية بها حتى عندما تضعفها الصراعات. وهذا يعني أن أي صفقة كبرى مع روسيا ينبغي تقييمها من حيث فائدتها في الأمد القريب ومخاطرها في الأمد البعيد.

وإذا كان من الطبيعي أن تكتسب مطالبة أوكرانيا بالتخلي عن الأراضي تأييداً في موسكو، فإن بعض الأخطار بالنسبة للغرب تكمن في أن الاقتصاد الروسي أصبح اقتصاداً حربياً في الأساس، وهذا يعني أن نهاية الحرب ليست نهاية تجارة الحرب. وحتى لو قدمت موسكو ضمانات أمنية لأوكرانيا، والتي تدعمها قوات أوروبية، فلن يمنع ذلك بالضرورة عملاء موسكو من مواصلة الهجمات الهجينة في أوروبا، والعمليات السيبرانية العالمية التي تستهدف المصالح الأميركية، والبناء العسكري التقليدي. ولكي تنجح الصفقة الكبرى، يتعين على ترمب أن يتأكد من أن بوتين لن يعمل على تسريع إعادة التسليح ولن يشن حرباً جديدة حينما تنتهي رئاسة ترمب.

نقلاً عن : اندبندنت عربية