عائشة الجموعي امرأة تبلغ من العمر 50 سنة، تظهر راحتا يديها آثار أعوام طويلة من العمل في الزراعة، أصيلة الشمال الغربي التونسي، لم تدخل المدرسة قط، بالكاد تحدثت عن حالها، خجلاً وخوفاً من رد فعل أهلها، تعمل منذ نعومة أظفارها مع والديها وأخوتها في الزراعة، تزرع الخضراوات الفصلية وتقتلعها ويبيعها والدها في السوق الأسبوعية. تعوّدت على هذا النمط لسنوات، ومنذ أن رحل والداها منذ أكثر من 20 عاماً، واصلت عائشة العمل في الفلاحة مع شقيقها الأكبر الذي بقي يتصرف في أرض والده بعدما مكّن شقيقه الأصغر من نصيبه من دون أن تحصل عائشة وشقيقتها على نصيبهما.
“عيب أن تطلب”
تقول عائشة “في تقاليدنا عيب أن تطلب البنت منابها (حصتها) من شقيقها، وعلى رغم أنه حقها شرعاً وقانوناً، فإنها تخاف أن تخسر شقيقها الذي يعيلها، فهي لم تتزوج وليس لها بيت يؤويها غير بيت شقيقها”.
حال عائشة لا تختلف عن حال عشرات المزارعات في أرياف تونس من شمالها إلى جنوبها، فهنّ يعملن في الزراعة من دون أن يتمكن من حقوقهن في الميراث الذي عادة ما يذهب إلى الذكور من إخوتهن، وبالكاد يطالبن بحقوقهن في الأرباح بعد بيع المحاصيل.
عادات وتقاليد دونية تجاه المرأة الريفية، على رغم أن تونس كانت سباقة، وسنّت مجلة الأحوال الشخصية منذ خمسينيات القرن الماضي وتعترف بحقوق المرأة في الميراث، وفق ما تنص عليه الشريعة الإسلامية.
ثقافة ذكورية
ويرى أستاذ علم الاجتماع بالعيد أولاد عبدالله أن “الثقافة السائدة في أرياف تونس لا تمت للدين بأي صلة، بل هي تعكس مجتمعاً ذكورياً متسلطاً يضع المرأة في مرتبة دونية عن الرجل”، مضيفاً أن “هذه الظاهرة ارتبطت بفهم ديني خاطئ يرى أن الإناث لا حق لهن في الميراث، وأيضاً ببُعد مالي واقتصادي مع ارتفاع ثمن الأراضي وعدم الرغبة في التفريط في الأرض للمرأة اعتقاداً من الرجل بأنها لن تحسن التصرف فيها”.
ومن أجل المحافظة على العلاقات الأسرية، تنأى المرأة الريفية بنفسها عن المطالبة بحقها في الميراث، ويقرّ المتخصص في علم الاجتماع بأنه “خلال العقود الأخيرة تغيرت هذه الثقافة، وباتت الأجيال الجديدة أكثر حرصاً على المطالبة بحقوقها وحقوق الأمهات لانتشار الثقافة الحقوقية والقانونية ولدور المجتمع المدني في توعية النساء بحقوقهن الاقتصادية”.
وتعمل منظمات مدنية على كسر الحواجز الاجتماعية التي تعرقل حصول النساء على ميراثهن في الأراضي الزراعية، وتعتبر “جمعية دعم المبادرات في القطاع الزراعي” التي تأسست عام 2016 واحدة من مكونات النسيج المدني الناشط في مجال النهوض بالقطاع الفلاحي وفق مقاربة حقوقية تضمن حقوق المرأة وتدافع عن مكاسبها.
وتشير دراسة أعدتها الجمعية إلى أن “الظاهرة لا تتعلق فقط بصعوبة نفاذ النساء إلى حقهن في الإرث من الأراضي الزراعية، بل أيضاً بحقهن في عقارات ذات قيمة مادية كبيرة التي تذهب عادة إلى الورثة من الذكور”.
وتؤكد الدراسة أيضاً أن “النساء اللواتي حصلن على منابهن من الأرض عادة ما يُمنحن أجزاء ذات خصوبة وإنتاجية محدودة، بينما يحصل الإخوة الذكور على الأراضي الخصبة، مما يدفعهن إلى تركها أو بيعها بثمن زهيد للورثة الذكور”.
وكشفت الدراسة عن أن “النساء يمثلن خمسة في المئة فقط من مجموع رؤساء المستغلات الفلاحية وأن النساء الفلاحات يملكن أقل من ثمانية في المئة من جملة الأراضي الفلاحية، بينما تبلغ نسبة النساء المقصيّات تماماً من الإرث في الأراضي الزراعية أو المتنازلات عن نصيبهن لفائدة الورثة الذكور 58 في المئة”.
الوساطة العائلية
وتلفت رئيسة “جمعية دعم المبادرات في القطاع الزراعي” سلوى كنّو إلى “أهمية الوساطة التي عملت الجمعية على تكريسها من خلال كل من يؤمن بحقوق النساء في الإرث من الرجال والنساء للحفاظ على العلاقات العائلية ولسرعة إيصال الحقوق إلى أصحابها وتفادياً لطول إجراءات التقاضي”.
وتقول في السياق إن “الجمعية نظمت دورات تكوينية لـ30 امرأة في الوساطة من أجل مساعدة النساء في الوصول إلى حقهن في الإرث أو إلى ملكية الأرض من دون اللجوء إلى التقاضي”.
وبحسب رئيسة الجمعية، مكنت الدورات التكوينية التي تم تنظيمها لتلك الوسيطات من “تشجيع النساء على المطالبة بحقوقهن في الأراضي والانتفاع بالمنح والقروض التي تتيح لهن الاستثمار في القطاع الفلاحي، بالتالي تحسين وضعهن المادي”.
وتقر كنّو بأن “الوسط الريفي في تونس يشهد صعوبات بالنسبة إلى النساء والرجال على حد سواء”، داعية إلى “تمكين المرأة اقتصادياً لتصبح مالكة للضيعات الفلاحية”، وتشير إلى أن “85 في المئة من نسبة امتلاك الأراضي في تونس تكون عبر للميراث”، متسائلة “لماذا تحرم المرأة من حقها بينما القانون والشرع ينصفانها؟”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
“للذكر مثل حظ الأنثيين”
ويستند القانون التونسي الخاص بالميراث إلى النص القرآني الذي يحدد نصيب كل فرد، ويؤكد القاضي والمتخصص في القانون فريد بن جحا أن “القانون التونسي واضح وصريح في مسألة أحكام الإرث التي تُعدّ من الأحكام المأخوذة في جلها من الأحكام الإسلامية، ولا يوجد فيها مجال كبير للاجتهاد والقاعدة هي للذكر مثل حظ الأنثيين”، مضيفاً أن “النساء اللواتي لم يتمكّن من مناباتهن في الميراث، لا يوجد ما يمنعهن من حقهن في ذلك، وما عليهن إلا التوجه إلى المحاكم، والقضاء سينصفهن”.
وفي حال تم “إجبارهن على التنازل عن مناباتهن، فإن ذلك يعتبر باطلاً في القانون ومخالفاً للإجراءات ويمكنهن إبطاله”، لافتاً إلى أن “الأعراف والتقاليد باطلة في هذا المجال”.
وبينما تتخلى بعض النساء في الأرياف عن حقوقهن في الميراث تحت وطأة التقاليد القديمة التي تعتبر المطالبة بالحق في الإرث من قبل المرأة عاراً، وتقبل المرأة الريفية بالنزر القليل، أو تحرم من الميراث بسبب تلك الثقافة، تتعالى الأصوات المطالبة بالمساواة الكاملة في الميراث.
نقلاً عن : اندبندنت عربية