لم يتحقق النصر الذي أشاد به رئيس أوكرانيا فلاديمير زيلينسكي باعتباره “إحدى أكبر هزائم موسكو” في ساحة المعركة، فخلال هذا الأسبوع أغلقت أوكرانيا آخر طريق يسمح لروسيا ببيع الغاز إلى أوروبا عبر أراضيها.
مع انتهاء صلاحية صفقة استخدام خط أنابيب “يورنغوي-بوماري-أوزهورود” للعبور، تعرضت آلة الحرب التابعة لفلاديمير بوتين لضربة ستكلف مليارات اليوروات سنوياً، لكن هذا يخلق أيضاً صداعاً جديداً في الإمدادات لعدد من الدول الأوروبية التي لا تزال تعتمد على الكرملين، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الغاز في جميع أنحاء القارة، بما في ذلك داخل بريطانيا.
والخميس الماضي، حام سعر الغاز الأوروبي القياسي حول 50 يورو (51.5 دولار) لكل ميغاوات في الساعة، وهو أعلى مستوى منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023.
ويقول محلل سوق الغاز في معهد “أكسفورد” لدراسات الطاقة جاك شاربلز لصحيفة “التلغراف”، “كان هناك عدد غير قليل من الأشخاص في السوق الذين ما زالوا يعتقدون أن الصفقة ستبرم في اللحظة الأخيرة”.
وكان ذلك على رغم التحذيرات المتكررة من أوكرانيا بأنها غير راغبة في تجديد أية صفقة من شأنها أن تعزز خزائن موسكو، وكان يعتقد أن المبيعات عبر خط أنابيب “يورنغوي-بوماري-أوزهورود”، تصل قيمتها إلى 5.3 مليار جنيه استرليني (6.5 مليار دولار) سنوياً لشركة “غازبروم”، الشركة الحكومية الروسية.
ويعتقد أن أوكرانيا نفسها تجني نحو مليار دولار من رسوم العبور، في حين حققت سلوفاكيا نقطة الوصول لخط الأنابيب الأوكراني مبالغ نقدية كبيرة من شحن الغاز إلى جيرانها.
وخلال الأشهر الأخيرة، دفع احتمال انهيار الصفقة سلوفاكيا والمجر إلى جولة محمومة من الدبلوماسية لمنع إغلاقها.
والخميس الماضي، طالب رئيس وزراء سلوفاكيا روبرت فيكو كييف بالتعويض، وحذر من أنه قد يرد بقطع صادرات الكهرباء إلى أوكرانيا.
ويقول المتخصص في الشؤون الروسية والزميل المشارك في “تشاتام هاوس” جون لوف إن أوكرانيا “أجرت حساباً واضحاً هنا، مفاده أنها في حاجة إلى إلحاق أكبر قدر ممكن من الألم بالروس”، بغض النظر عن أي رد فعل عنيف. ويضيف “كان الأوكرانيون واضحين في أنهم سيفعلون هذا، وأعتقد أنه كان من المفهوم أنهم أرادوا إيقاف تشغيل هذا المصدر الإضافي للإيرادات”.
لم يخلق إغلاق خط الأنابيب خلال الأول من يناير (كانون الثاني) الجاري، في الواقع أزمة إمداد فورية بفضل مستويات التخزين المرتفعة.
لكن شاربلز من “أكسفورد” يقول إن ذلك أدى إلى خفض تدفقات خط الأنابيب المتبقية من روسيا إلى أوروبا إلى النصف، مما أجبر البلدان التي ظلت من عملائها على البحث عن إمدادات بديلة في الأمد المتوسط والطويل، وسيخلف هذا النقص في الإمدادات ضغوطاً على الأسعار.
فطام أوروبا عن إمدادات موسكو
بعد إغلاق خطي أنابيب “نورد ستريم” و”يامال” خلال وقت سابق، فإن الطريقة الوحيدة التي تستطيع بها “غازبروم” الآن نقل الغاز إلى أوروبا هي عبر تركيا، باستخدام خطي أنابيب “تورك ستريم” و”بلو ستريم” تحت البحر الأسود.
ويقول شاربلز “نحن في اللعبة النهائية إنها حقاً عملية تفكيك للواردات الأوروبية من الغاز عبر خط الأنابيب من روسيا”.
وتعد النمسا وسلوفاكيا ومولدوفا الدول الأكثر تضرراً من إغلاق خط الأنابيب، فضلاً عن منطقة ترانسنيستريا المولدوفية المنفصلة.
وباستثناء موجة البرد الشديدة الممتدة، من المتوقع أن تتمكن النمسا وسلوفاكيا من تحمل الشتاء باستخدام مرافق تخزين الغاز الخاصة بهما، وقالتا إنهما مستعدتان لإعادة تنظيم الإمدادات ويمكنهما التجارة مع جيرانهما بما في ذلك بولندا وجمهورية التشيك وألمانيا وإيطاليا لسد أية فجوات.
ورداً على الإغلاق، أعلنت حكومة ترانسنيستريا حال الطوارئ واضطرت إلى قطع الكهرباء موقتاً.
هذا يعني أن التأثير الرئيس لإغلاق خط الأنابيب في أوكرانيا من المرجح أن يكون تشديد سوق الغاز الأوروبية، وليس ضربة كارثية.
ويعكس ذلك الانخفاض الكبير في نفوذ روسيا على إمدادات الغاز الأوروبية، وسط الجهود المبذولة لفطام القارة عن إمدادات موسكو في أعقاب الحرب داخل أوكرانيا.
وقبل الحرب عام 2021، كانت أوروبا لا تزال تستورد نحو 140 مليار متر مكعب من الغاز من روسيا عبر خط الأنابيب، وهو رقم يعتقد أنه انخفض إلى نحو 30 مليار متر مكعب عام 2024، ومن المتوقع الآن أن ينخفض هذا الرقم أكثر إلى نحو 15 مليار متر مكعب.
ويضيف شاربلز “في الواقع، حدث الأسوأ بالفعل، وهذه صدمة ارتدادية”.
ويترك هذا الوضع أوروبا أكثر اعتماداً على الإمدادات الباهظة الثمن من الغاز الطبيعي المسال التي اضطرت الدول إلى شرائها بكميات ضخمة من الموردين، مثل الولايات المتحدة وقطر.
امتلاء مرافق التخزين الأوروبية
وسيعتمد مدى شدة أية ارتفاعات مستقبلية في الأسعار على عدد من العوامل، ليس أقلها مدى امتلاء مرافق التخزين الأوروبية بحلول نهاية هذا الشتاء، إذ بلغ التخزين في جميع أنحاء الكتلة 72 في المئة الخميس الماضي، وفقاً لبيانات الشفافية.
لكن إذا استمر الطقس البارد الحالي، فقد ينتهي بهم الأمر إلى أن يكونوا أكثر فراغاً مما كان متوقعاً، وهذا يعني أن هناك مزيداً من المنافسة على إعادة التعبئة خلال صيف عام 2025، إذ يتعين على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي الوصول إلى 90 في المئة بحلول الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام.
ويقول شاربلز “بالنسبة إلى بقية فترة الشتاء، فإنهم بخير… تمتلك سلوفاكيا مرافق تخزين غاز تحت الأرض كبيرة جداً بالنسبة إلى حجم سوقها المحلية، وأعتقد أن هناك بالتأكيد احتمالاً بأن تستورد أوروبا مزيداً من الغاز الطبيعي المسال خلال عام 2025 للتعويض عن ذلك، من ثم فإن السؤال هو من أين يأتي هذا العرض، قد يأتي بعضه من قطر، وبعضه من الولايات المتحدة”.
ويقول لوف من “تشاتام هاوس” إن هناك عواقب سياسية قد تترتب على أوكرانيا أيضاً.
وظل رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان شوكة في خاصرة كييف داخل الاتحاد الأوروبي، مما أحبط جهودها للانضمام إلى الكتلة وهدد بنسف حزم المساعدات المالية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتقرب أوربان من بوتين ووسع اعتماد المجر على النفط والغاز الروسيين، ولديه علاقة وثيقة مع دونالد ترمب الذي سيعود كرئيس للولايات المتحدة خلال وقت لاحق من الشهر الجاري، وهذا أمر قد يعمل ضد زيلينسكي وهو يسعى إلى التنقل في علاقة صعبة مع الرئيس ترمب، الذي قال إنه يريد التوصل إلى اتفاق سلام بين روسيا وأوكرانيا خلال أقرب وقت ممكن، ربما بشروط غير مواتية لكييف.
ويقول لوف “يمكن أن تتسبب المجر وسلوفاكيا في مشكلات كبيرة لأوكرانيا، لكن إلى حد ما كان هذا الوضع موجوداً بالفعل… أوربان لديه علاقة جيدة مع ترمب، وأنا متأكد من أن إحدى النقاط المدرجة على جدول أعماله ستكون حول مدى سوء تصرف الأوكرانيين”.
الطاقة مصدر المنافسة الجيوسياسية
واقترح بعض المحللين أن روسيا قد تهاجم البنية التحتية لشبكة الغاز داخل أوكرانيا في أعقاب قرار كييف بوقف إمدادات خطوط الأنابيب الروسية، ومع ذلك يشكك لوف في هذا ويجادل بأن روسيا لا تزال ترى هذه البنية التحتية مفيدة لقواتها الخاصة إذا تقدمت بمطالبات إقليمية أخرى في أوكرانيا، قائلاً “يمكنك أيضاً أن تسأل، لماذا لم يهاجموا حتى الآن نظام السكك الحديد أيضاً… هناك سيناريو إذ يمكنك القول إنهم لديهم الآن ما يخسرونه أقل بكثير، لكنني أظن أنهم يريدون بالفعل الحفاظ على هذه البنية الأساس في البلاد”.
وتابع لوف “لكن مع إغلاق هذا الخط، فقد قُضي على جزء كبير من هذا النفوذ، وبات من الواضح الآن أن أوروبا على مسار طويل لتقليل اعتمادها على الغاز الروسي”. ويوضح لوف أن هذا القرار يعكس تحولاً مهماً في السياسة الأوروبية، إذ أصبحت القارة أكثر عزماً على التخلص من هيمنة موسكو في هذا القطاع الحيوي. وأوضح أن هذه الخطوة قد تؤدي إلى تغييرات طويلة الأمد في العلاقات بين روسيا وأوروبا، إذ تصبح الطاقة مصدراً للمنافسة الجيوسياسية، وستسعى الدول الأوروبية إلى تقوية تعاونها مع شركاء آخرين مثل الولايات المتحدة وقطر، لتلبية حاجاتها من الطاقة.
وبالنسبة إلى بولندا، فإنها ترى هذا الإغلاق نقطة تحول أخرى في محاولات الاتحاد الأوروبي للحد من التأثير الروسي، وهو شيء يؤكد أيضاً أهمية التنوع في مصادر الطاقة لضمان الاستقرار المستقبلي.
نقلاً عن : اندبندنت عربية