حدث ذلك في عام 1900، تحديداً خلال الدورة السابعة للمعرض الفني الذي أقامته في العاصمة النمسوية فيينا جماعة المنشقين التي كانت قد بدأت منذ أعوام تأخذ مكاناً مميزاً لها في عالم الفن التشكيلي، وقد وصلت سمعتها وتأثيرها إلى مدن أوروبية فنية عريقة. وكان غوستاف كليمت (1862 – 1918) معروفاً بكونه زعيم تلك الجماعة وواضع اسمها ومبتكر أساليبها التي جعلت من فيينا بدورها مدينة فنية تضاهي بمكانتها باريس ولو لفترة من الزمن، وهي تلك التي لقبت فيينا خلالها بمدينة “الكابوس السعيد”.

وكان من حظ فيينا في مرحلة أفول إمبراطوريتها تلك أن تتعايش مع عدد من التيارات الفنية والأدبية والعلمية، ولا سيما على خطى نهضة في عالم التحليل النفسي قادها فرويد واكتملت الصورة بها إلى حد كبير.

وعلى ضوء تلك الوضعية التي كان من الصعب على أية مدينة أخرى أن تزعم أنها تشارك فيينا بها، اندلعت فوراً، وانطلاقاً من ذلك المعرض نفسه تلك المعركة الفكرية – الفنية التي وصلت إلى أوجها يوم تداعى 87 أستاذاً جامعياً من جامعة فيينا نفسها لتوقيع عريضة فريدة من نوعها في تاريخ الفن كما في تاريخ الحياة الجامعية، يعلنون فيها رفضهم القبول بأن يواصل الفنان غوستاف كليمت مشاركته في المعرض عبر عرض لوحته المعنونة “الفلسفة” والتي كان الرسام الكبير يشارك بها بل يعتبرها، كما يعتبرها آخرون معه، تحفة فنية فريدة من نوعها.

والحال أن الرسام كان يرى أن لوحته سوف تفتح دروباً لم يحدث أن فتحت من قبل، توصل وربما توحد بين العلم والفن، بخاصة أنه كان يخطط لكي تكون أول حلقة في سلسلة ستتحدث حلقتها الثانية عن “الطب” ثم عن شؤون علمية أخرى وهكذا.

السلطات الرسمية تشارك

وهنا قبل أن نستطرد الحديث عن تلك المعركة، قد يكون من المفيد أن نذكر أن اللوحة التالية التي أراد كليمت عرضها في معرض العام التالي عن “الطب” ستثير ضجة وغضباً متزايدين، مما أفقد الرسام دعم وزارة الثقافة الذي كان قد حماه من الهزيمة في معركة العام السابق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والحال أن كليمت كان يراهن كثيراً على لوحته الضخمة “الفلسفة”، وهو الذي كان يعتقد أن الفلاسفة وكانوا كثراً وذوي أهمية عالمية كبيرة في فيينا ذلك الزمن، سوف يهللون له إذ يصل بفنه إلى عالمهم، شعر أمام موقفهم بقدر كبير من الخيبة مما جعله يمعن في المشاكسة بلوحة العام التالي، “الطب”، بحيث إن ما بدا معركة جدية بالنسبة إلى “الفلسفة” عُد نوعاً من التهريج بالنسبة إلى “الطب”. فماذا عن تلك اللوحة الأولى؟

أعلن كليمت منذ البداية أنه إنما يشارك في معرض عام 1900 بلوحة غير مكتملة تضع متابعي عمله على احتكاك أول بنظرته إلى الفكر الفلسفي “مما يفتح باباً للنقاش حول الموضوع يمكن تطوير اللوحة والنظرة معاً من خلاله”. غير أن الفلاسفة الجامعيين لم يروا ضرورة ذلك كله بأية حال من الأحوال! وذلك ناهيك بأنهم لم يروا ولو قدراً ضئيلاً من الفلسفة في شيء مما خطه كليمت بقلمه في ملحوظة تفسيرية أراد منها أن تكون نوعاً من المدخل لفهم ما يريد التعبير عنه. فهو كتب في الملحوظة قائلاً “عند الشخصيات المرسومة يسار اللوحة، استيقاظ على الحياة والخصوبة وانطلاق الحياة نفسها. وإلى اليمين نرى الكرة الأرضية، سر العالم وغموضه كما نرى شخصاً ينبثق من هالة النور ليغمر المكان. إنه المعرفة نفسها”.

تفسير بلا جدوى

الحال أن اللوحة التي سرعان ما أثارت سجالات حادة بل عنيفة، وقبل تحرك الجامعيين ضدها، في أوساط الصحافة والجمهور لم يكن من شأنها أن تثير كل ذلك الصخب لو أن الرسام اكتفى بإعلان انتساب أسلوبها الفني إلى الأنماط الكلاسيكية أو إلى الفن الباروكي أو حتى إلى نمط من الفن الرمزي، كما سيقول أحد المعلقين المبكرين حينها، لكن المشكلة كمنت في أن الرسام الذي حدد أنه إنما كان يشتغل على اللوحة، فكرياً منذ عام 1894، أراد منها أن تكون نوعاً متقدماً من استكشاف وتجديد المحتوى الفلسفي للفكر المعاصر، أي إنه لم يكن يتطلع إلى التجديد في رفد فنه بأفكار جديدة، بل على العكس، إلى رفد الفلسفة بتجديدات يضيفها الفن إليها. وكان ذلك ما استثار الفلاسفة أنفسهم، ولا سيما حين أخبرهم كليمت أنه يسعى إلى تحقيق ذلك بالاستناد إلى شوبنهاور ونيتشه اللذين كان قد اكتشفهما حديثاً وعكف على قراءتهما مدركاً كم أن في إمكان الرسم، ورسمه هو تحديداً، أن يستكمل ما أعربا عنه من “نقص في المفاهيم الفلسفية”.

 

والحقيقة أن ذلك كله قد بدا للفلاسفة، “أكثر سماجة من أن يمكن تحمله” ولا سيما أن الوسط الجامعي في فيينا كان حينها يعيش نوعاً من تفاؤل جديد وجد لدى الرسام وقد أعلن نفسه متابعاً للفيلسوفين المذكورين، تعارضاً جذرياً معه يمكن أن يفاقم منه تنطحه لإعلان نفسه فيلسوفاً، بل تعارضاً ساذجاً، بحسب تعبير واحد من أبرز أولئك الفلاسفة.

وبصورة من الصور ربما يمكن القول هنا إن “جريمة” كليمت كمنت في أنه إنما تصور نفسه معبراً في مقاربته الفلسفية عن معاناة الإنسان المعاصر وهو يبتعد مع حلول الأزمنة الحديثة عما كان سائداً من أمور تتعلق بالمعطيات الأساسية لوجوده في هذا الكون كإنسان. وكان من الواضح في هذا المضمار، ومن منظور فلاسفة جامعة فيينا في الأقل، أن الفنان يتصدى ها هنا لمشروع يكاد تحقيقه يبدو مستحيلاً. وهو بالتحديد مشروع تصوير العلاقة بين الإنسان والكون، بصرياً. ولا شك أنه قد ذهب في رغبته الكأداء تلك إلى أبعد مما تسمح به ضروب الترميز السائدة في محاولته تصوير فلسفة زمنه غير العقلانية ببساطة مزرية.

محاولة للتفسير

صحيح أن فلاسفة فيينا وقفوا يومها صفاً واحداً ضد كليمت، بيد أن الرسام لم يبق في المعركة وحيداً فقد وقف إلى جانبه يومها رفاقه الفنانون من “المنشقين”، كما سانده بخاصة واحد من نقاد الفن الكبار وهو لودفيك هيفيسي الذي كان صديقاً للمنشقين، وكانت مساندته عبارة عن مقال توضيحي نال رضا كليمت نفسه حاول فيه ليس فقط أن يفسر مدلول اللوحة بل دوافع الفنان نفسه، حتى وإن كان الناقد قد ميز موقفه عن موقف صديقه الرسام بشكل منطقي، آخذاً على الرسام وقوفه غير العقلاني على الضد من تفاؤلية فلاسفة فيينا.

غير أن الناقد حرص على أن يستطرد شارحاً، بل ربما مبرراً، كيف أن رجل الفلسفة في اللوحة يبدو خاضعاً لرحمة الكون والقوى المتهافتة من حوله من منطلق غير عقلاني، مضيفاً “… وبما أن نهر الحياة في اللوحة يجري وسط ضباب الألم، يصبح من المنطقي القول إن الموت هو المخيم على مصير ذلك الإنسان” مما يجعل المغزى الحقيقي لنظرة الرسام شاعرية لا فلسفية. وأن يكون الرسام شاعراً ليس هذا سوى حقه كإنسان حتى ولو لم يكن من حقه أن يزعم أنه فيلسوف… والمعنى التقني للكلمة هو أن كليمت قد يكون مخطئاً في مزاعمه النظرية لكنه على حق وصواب في منظوره الشعري.

نقلاً عن : اندبندنت عربية