لم تمضِ الدقائق الأولى من مسرحية “ذاكرة صفراء” حتى استطاع مخرجها حسن العلي أن يضعنا في قلب الأحداث الإشكالية. أنسي (كميل العلي) الشاب الذي اضطرته الحروب أن يهجر بلاده ويقيم في المنفى 15 سنة غاب فيها الرسام عن أهله وحبيبته ليعيش عزلته مع لوحاته. وما هي سوى دقائق حتى تدلف شخصيات متخيلة إلى شقته الظليلة. تبدأ قصة المغترب الشاب تأخذ مسارات مختلفة. مرةً على شكل بوح ذاتي عميق، ومرات عبر حوارات مرحة مع عادل بواب العمارة (محمد المحسن)… إلى أن تطل أمل (فاطمة الجشي) جارته في السكن، والتي تتذرع بانتظارها لأخيها يوسف، وتطلب البقاء لدى الرسام العازب ريثما يتوقف هطول المطر في الخارج.

تصاعد درامي

يبدو أن نص الكاتب السعودي عباس الحايك ذهب هذه المرة إلى تشريح هادئ لواقع اللاجئين في الحروب. مكاشفات مستمرة تجعل من شخصية الرسام عقدةً لتفكيك أثر الاغتراب، وبما يحمله هذا الإبعاد القسري من ذاكرة مؤلمة عن الوطن الأم. تحضر هنا الحبيبة الخائنة، مثلما يحضر الأب الصارم (علي الجلواح) الذي كان سبباً في موت والدة بطل العرض. مكابدات متتالية يرويها الرسام عبر مونولوغه الداخلي، أو عبر التفكير بصوتٍ عالٍ أمام أشباح تدخل وتخرج من شقته الكئيبة، ذات الجدران المكتظة بلوحات فنية. أعمال كان الرسام الثلاثيني قد حققها عن المرأة التي أحبها ولم تحفظ الود. وأعمال يتداخل فيها التصوير مع لمسات تعبيرية سرعان ما تعمل الإضاءة (محمد رؤوف) على إظهارها تباعاً كتحديد لفضاء اللعب.

يأخذنا عرض “ذاكرة صفراء” (فرقة النورس) إلى مقاربة لا تخلو من نبش الماضي واستدعائه، ومن ثم يجعل كلاً من المخرج وكاتب العرض هذا الماضي حاضراً مستمراً. تذوب الفروق بين اليوم والأمس وتتراكم ذكريات تبدو وكأنها تحدث الآن، لنكتشف أن ما من وجود فعلي لشخصيات العرض، فهي من صنيعة مخيلة الرسام الشاب.

 كان الحل الإخراجي لافتاً بما يتعلق بحضور وغياب الشخصيات، فالأب يقيم داخل إطار لوحة، والفتاة التي تتذرع بتأخر أخيها تغطى بستارة. المسافة بين الواقعي والمتخيل تكاد تبدو متساوية، وهكذا يجول العرض السعودي في خفايا النفس وكوابيسها العميقة منها والبعيدة.

لعبة تستدعي صراعاتها من داخل الشخصية المحورية في العرض. مراهنة على تلك المسافة بين المرئي واللامرئي. فبين الطيف والجثة تنوس معظم الشخصيات، وتدفع الرسام إلى حواف الجنون، فتصبح صور النساء في اللوحات المعلقة على الجدران شخصيات موازية، وتصير الألوان والفرشاة والمساحة البيضاء على القماش مخازن لأصوات وأشباح تظهر وتغيب، تبعاً لاستدعاءات الرسام لها. بهذا الأسلوب تتداعى حوارات الرسام مع أبيه. الأب الذي أورث ابنه كراهيته للنساء والحقد عليهن. هو ذاته الساكن في إطار اللوحة والذي يقتحم شقة ابنه باحثاً عن آثار أحمر الشفاه على فناجين القهوة. الأب الذي يحكم حصاره النفسي على ذاكرة الرسام وحاضره ومستقبله.

خفايا الرسام

على هذا المنوال أيضاً تقتحم المرأة المكان، وتصول وتجول في خفايا ماضي الرسام وعجزه المزمن عن الحب، عن قدرته على تذوق الجمال والاحتفاء به. وهنا يترك القائمون على “ذاكرة صفراء” الباب موارباً، فالالتباس بين المرأة الأم والمرأة الحبيبة، قائم على تبادل الأدوار، وهو في العمق يستنهض عقدة أوديب القديمة، ويفسح في المجال أمام تعقيدات نفسية عميقة أبرزها الحرمان والكبت والخوف من النساء. فقد حطم الأب مثلما الحروب رغبات الفنان الشاب وشغفه بالحياة. يمكن ملاحظة هذا التصعيد للشهوة في الرسومات التي حققها أنسي لنساء عديدات، فأحال رغباته إلى أعمال فنية تصور امرأة واحدة في وضعيات مختلفة.

الشعور بالتهديد الدائم والرغبة في الهرب والعزلة التامة، يمكن أيضاً التماسهما في مختلف مجريات العرض (75 دقيقة). من المهم أيضاً التنويه بدور الموسيقى (حسين الخاتم)، والتي لم تتدخل في التعليق على أحداث العرض بقدر ما أسهمت في مساندة النقلات الزمنية. موسيقى تتسلل عبر جدران الشقة الكتيمة، وتظهر وتغيب تبعاً لتصاعد الحالة الدرامية، وتبدو وكأنها نابعة من العالم الداخلي للرسام الهارب من ماضيه وذكرياته المؤلمة، وصولاً إلى لحظة الكشف عن التشوه الذي أصاب وجهه ويديه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

صحيح أن التوجه العام للأداء أخذ منحى نمطياً في مواقع عدة من “ذاكرة صفراء”، لكن الإيقاع بقي مشدوداً ولاهثاً عبر وقائع متتالية لم تبتعد عن الصيغة الدرامية. وهذا ما يمكن حسابه أيضاً للنص، فعلى رغم أن العرض يميل إلى نوعية العروض النفسية، إلا أنه لم يهمل الجانب الدرامي في بعده التشويقي لا البوليسي، خصوصاً عندما يداهم الأب بيت ابنه على عجل، ويقوم الرسام بإخفاء المرأة خلف ستارة حمراء. هذا المشهد قام المخرج بتمديده للحظات تحبس الأنفاس.

عقدة إثر عقدة يتم حلها والانتقال بعدها إلى حبكة الحل، يندفع الرسام نحو اعترافات مؤلمة. موت الأم وعلاقته بفتاة غدرت به وذهبت الى أحضان رجلٍ آخر. ليس هذا وحسب، بل هي الحرب التي علقت صورها في الرأس، صور المهجرين والقتلى، وقذائف الموت، والجوع، بكاء الأطفال ونظرات عيونهم الغائرة. كوابيس تختلط فيها الوجوه مع الأماكن والروائح والألوان الحارة في اللوحات. مزيج من هواجس وخيالات عالقة تدفع الشخصية إلى نوبة من الفصام الحادة. ذهان عقلي وهلوسة نفسية حادة. في هذا المعنى يوقّع “ذاكرة صفراء” شهادته عن بلاد الحروب الأهلية والمجاعات والمقابر الجماعية.

على مستوى آخر حققت عناصر العرض توازناً معقولاً، فالضوء وقطع الديكور البسيطة من كراس وأريكة وطاولة وإطارات لوحات معلّقة، عملت جميعها على إتاحة المساحة المثلى لعمل الممثل، من دون أن تنزع إلى واقعية صرفة. كل شيء في الفضاء تم توظيفه، حتى الرفوف العالية التي يظهر عليها الأب جالساً بصمته ونظراته الحادة. الأبواب التي لا نتوقف عن سماع صفقاتها. المصابيح المعلقة. كل هذه العناصر يمكن التقاطها في خطة إخراجية اعتمدت تقريباً أسلوب المساحة الفارغة، وأزاحت كل ما هو فائض عن حاجة الممثل وحركته على الخشبة.

نقلاً عن : اندبندنت عربية