استضافت العاصمة الإثيوبية أديس أبابا مؤتمراً لأحد أكثر التيارات السياسية الإريترية تطرفاً في معارضتها للنظام الحاكم في أسمرة، سواء من ناحية طروحاته المطالبة باقتلاع النظام من جذوره، أو في أدوات نضاله العنيفة.
مؤتمر ما يُعرف بـ”برقيد نحمدو” عقد للمرة الأولى في إثيوبيا بحضور مئات الشباب المقيمين داخل البلد الأفريقي، إضافة إلى مشاركة عشرات الناشطين من كل من أوروبا وكندا وأميركا، ويُعدّ الاجتماع الأول من نوعه لجهة عقده بصورة علنية، وبعد الحصول على تصريح من الحكومة الإثيوبية، مما يشير إلى وصول العلاقة بين أسمرة وأديس أبابا إلى مرحلة متقدمة من الخلاف.
أزمة متصاعدة
ويرى مراقبون للوضع أن سماح حكومة آبي أحمد لأحد أعنف التيارات السياسية الإريترية المعارضة بعقد مؤتمره بصورة علنية، قد ينذر بتدهور العلاقات بين البلدين وصولاً إلى مرحلة القطيعة، خصوصاً أن المؤتمر أنهى أعماله بتبني الخيار العسكري لإسقاط النظام الإريتري.
وشهدت العلاقة بين أديس أبابا وأسمرة فتوراً ملحوظاً عقب توقيع الأولى اتفاق بريتوريا للسلام مع “الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي”، من دون مشاورة حلفائها في الحرب التي استمرت لعامين كاملين (2020-2022)، وشهدت كذلك تدهوراً كبيراً بعد إعلان أديس أبابا عن رغبتها في امتلاك منافذ بحرية سيادية على البحر الأحمر.
خلافات داخلية
يشار هنا أيضاً إلى أن مجموعة “برقيد نحمدو” التي بدأت كحراك شعبي للمهاجرين الإريتريين في الدول الأوروبية، شهدت انقسامات عميقة نتيجة اختلافات أيديولوجية، إذ يعتنق عدد كبير من ناشطيها فكرة تشكيل دولة واحدة مع إقليم تيغراي الإثيوبي المتاخم لإريتريا تحت مسمى “دولة تيغراي تيغرني” وتكوين دولة القومية الواحدة، مما دعا إلى انسلاخ مجموعة من الإريتريين الذين كانوا ينشطون في هذا الحراك.
وعلى رغم أن المجموعة اصطفت إلى جانب طروحات “الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي” في حربها ضد الجيشين الإثيوبي والإريتري، فإن تفكك التحالف بين أسمرة وأديس أبابا أدى إلى تبني حكومة أبي أحمد لهذه المجموعة والسماح لها بعقد مؤتمرها على الأراضي الإثيوبية على رغم أن عدداً من ناشطيها يواجه أحكاماً قاسية في الدول الأوروبية نتيجة مشاركته في أعمال العنف التي استهدفت المهرجانات الفنية التي تقيمها السفارات الإريترية في الخارج، مما أدى إلى وقوع ضحايا من الطرفين وإتلاف الممتلكات، إضافة إلى استهداف عناصر من الشرطة في بعض الدول من بينها ألمانيا وهولندا وكندا .
وكانت مجلة شباب العالم الألمانية كشفت في تحقيق صحافي نشرته عام 2023 عن أن غالبية ناشطي هذه المجموعة ينتمون إلى إقليم تيغراي الإثيوبي وأنهم حصلوا على وثائق الحماية الأوروبية بادعاء أنهم لاجئون إريتريون. كما أصدرت وزارة الداخلية الألمانية تقريراً يتحدث عن أن معظم المشاركين في أعمال العنف هم إثيوبيون من إقليم تيغراي، حصلوا على وثائق اللجوء بادعاء أنهم إريتريون.
نذر حرب
ورأى الباحث المتخصص في شؤون منطقة القرن الأفريقي عبدالرحمن سيد أن قرار أديس أبابا باستضافة المجموعة الإريترية المعارضة على أراضيها، تُعدّ خطوة متقدمة في الخلاف بين الحكومتين الإثيوبية والإريترية، وستؤدي إلى تدهور سريع وغير محسوب للعلاقات.
وحذر من أن استمرار الخلافات على هذا النحو بين العاصمتين قد يُفضي في نهاية المطاف إلى حرب طاحنة، إذ إن الشواهد كثيرة والتاريخ القريب للبلدين سجل أنواعاً متعددة من الصراعات، أدت إلى حرب طاحنة استمرت عامين (1998-2000) ثم قطيعة تجاوزت عقدين من الزمن، قبل أن يوقعا اتفاقاً للسلام بعد وصول آبي أحمد إلى السلطة.
وأوضح أن المجموعة التي عقدت مؤتمرها في إثيوبيا لا تعتبر معارضة حقيقية تحمل برنامجاً سياسياً واضحاً، بل هي خليط من الناشطين من خلفيات سياسية مختلفة وأهم قادتها يُعدّون من عرابي تيار “تيغراي الكبرى” الذي يطالب بضم إريتريا إلى إقليم تيغراي الإثيوبي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقرأ عبدالرحمن سيد تحول قادة هذا الحراك من تأييد قادة تيغراي إلى الحكومة الإثيوبية التي كثيراً ما اتهموها بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية في إقليم تيغراي، بالقول إن ثمة نقاط تماس بين هذه المجموعة الإريترية المعارضة والنظام الإثيوبي الذي يعاني أزمات متعددة، من بينها الحرب الداخلية في إقليمي أمهرة وأورومو، فضلاً عن الأزمات الإقليمية بخاصة في شأن سد النهضة مع مصر، وحول المنافذ البحرية مع كل من إريتريا والصومال، ومن ثم فإن حكومة آبي أحمد تسعى إلى تصدير الأزمات بدلاً من البحث عن إصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية، فيما يسعى قادة “برقيد نحمدو” إلى إيجاد موطئ قدم لهم في إثيوبيا، متناسين الخلافات السابقة حول حرب تيغراي ومحاولين استغلال الفرصة للنيل من النظام الإريتري.
وأكد سيد أن بوادر القطيعة بين النظامين بدأت بالتبلور منذ أكثر من عام، فعُلّقت رحلات الطيران المدني بين العاصمتين وأوقفت الاتصالات السلكية، وهي مؤشرات تنذر بقيام حرب بينهما، منبهاً إلى أن الإجراءات الإثيوبية الأخيرة تزامنت مع مجموعة من التصريحات الرسمية وغير الرسمية، حول أحقية إثيوبيا التاريخية في استعادة ميناء عصب الإريتري، وهذه التصريحات إلى جانب الإجراءات الأخيرة تضع المنطقة ككل أمام نذر حرب جديدة.
الصمت الحذر
وتعليقاً على إعلان قادة “برقيد نحمدو” في ختام مؤتمرهم تبني خيار المواجهة العسكرية لإسقاط النظام الإريتري، قال عبدالرحمن سيد إن الإعلان يبدو وكأنه محاولة لتبرير أي هجوم عسكري محتمل من قبل الجيش الإثيوبي ضد أسمرة.
وأكد أنه من الصعب تصور أن هناك تياراً سياسياً إريترياً خالصاً يمكن إعلان رغبته في إسقاط النظام الإريتري منطلقاً من الأراضي الإثيوبية، خصوصاً أن النظام في أديس أبابا لم يخفِ رغبته في إعادة السيطرة على أجزاء من الأراضي السيادية الإريترية.
من جهة أخرى، رأى سيد أن الصمت الإريتري يُعدّ أمراً معتاداً في مثل هذه المواقف، إذ اعتاد الإريتريون على هذا السلوك من النظام الذي لا يصدر بيانات رسمية الطابع، بل يكتفي بالرد من خلال حسابات بعض المسؤولين الإريتريين، بخاصة وزير الإعلام يماني قبر مسقل على منصات التواصل الاجتماعي الذي يستخدم لغة ساخرة من قادة إثيوبيا من دون ذكر أسمائهم.
وعلى الجانب الميداني، توقع سيد أن يُقدِم النظام الإريتري على اتخاذ تدابير مماثلة تتعلق بدعم بعض التنظيمات الإثيوبية التي تقاتل جيش آبي أحمد وتسعى إلى إسقاطه، وبذلك تعود الأمور للمربع الأول ما قبل عام 2018، إذ سيعمل كل طرف على إسقاط الآخر من خلال دعم الحركات المسلحة في الجهة المقابلة.
استغلال الفرص
وأوضح المحلل السياسي الإريتري كبرآب يمسقن من جهته أن تبني القوى المعارضة من قبل الأنظمة الإثيوبية المتعاقبة ليس جديداً، إذ ظلت الأحزاب المعارضة تعمل من داخل إثيوبيا منذ أكثر من ربع قرن، إلا أن وصول ما يسمى “قوى التغيير” إلى سدة الحكم في أديس أبابا عام 2018 بقيادة رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد، فتح آفاقاً جديدة للتعاون بين البلدين، ومن ثم استُبعد هؤلاء المعارضون من الأراضي الإثيوبية، وبالمثل أسهم نظام أسمرة في دعم التنظيمات المسلحة الإثيوبية.
وذكر يمسقن أن ما يجعل المؤتمر الأخير لما يُعرف بـ”برقيد نحمدو” في إثيوبيا مختلفاً عن سابقيه، يمكن رؤيته من خلال ثلاثة عوامل رئيسة، أولاً أنه يمثل أول مؤتمر علني في ظل حكم آبي أحمد، أما العامل الثاني فيتمثل في أن “برقيد نحمدو” ليس حزباً سياسياً بالمعنى الحرفي، بل هو عبارة عن حراك شعبي لا يتمتع بضوابط العمل السياسي التقليدي، ولا يعتمد على أيديولوجيا محددة أو برنامج سياسي واضح، عدا سعيه إلى إسقاط النظام، أما العامل الثالث فيتمثل في أنه حراك شبابي بامتياز فمعظم منتسبيه من دفعات الخدمة الوطنية .
ونوه إلى أن هذا الحدث وضع المراقبين أمام وجهين للتحليل لجهة توافر نقاط عدة مبشرة وأخرى مقلقة يمكن اعتبارها بمثابة تحديات. وبخصوص الجوانب التي يراها بعضهم مبشرة فتتعلق بأن الحراك يعتمد على أجيال جديدة وشابة، تجاوزت إخفاقات قوى المعارضة الكلاسيكية، أما التحديات فتتعلق بأطماع النظام الإثيوبي تجاه إريتريا من جهة، ومن الجهة الأخرى سوابقه في ما يخص ارتكاب جرائم حرب في تيغراي وتجاوزاته المعروفة في ملفات حقوق الإنسان، بالتالي فإن ثمة أخطاراً ماثلة للعمل معه كحليف إستراتيجي، بخاصة أنه ظل حليفاً للنظام الإريتري في حرب تيغراي.
وأكد المحلل الإريتري أنه لا يمكن إنكار أن ثمة اختراقاً واضحاً تمكن هذا الحراك من تحقيقه في التحالف مع النظام الإثيوبي بعد سبعة أعوام من تحالف الأخير مع النظام الإريتري، بالتالي فإن استغلال الحراك للأزمة السياسية القائمة بين العاصمتين لمصلحته يظل أمراً مشروعاً.
وقال إن “برقيد نحمدو” كقوة شبابية فاعلة وكتيار شعبي عريض تمكن من كسر الجليد، وأمام القوى السياسية المنظمة فرص تاريخية لاستغلال الأمر وتأطيره لمصلحة إحداث تغيير في أسمرة، بالصورة المواتية التي تقلل من الأخطار المتعلقة بالأطماع الإثيوبية من جهة، ومن شعبوية الحراك وافتقاده إلى البرامج السياسية.
ونوه يمسقن إلى أن الأنظمة الأفريقية عموماً وفي منطقة القرن الأفريقي خصوصاً، تعاني أزمات بنيوية تتعلق أساساً بالشرعية السياسية والأزمات الاقتصادية، وتعارض إرادات شعوبها في التحرر والانعتاق مع إرادات السلطات السياسية، مما يدفع الأنظمة إلى اختلاق أزمات خارجية لتسكين الجبهة الداخلية، ولعل أبرز تلك الأمثلة تمثله العلاقات الإريترية – الإثيوبية خلال العقود الثلاثة الماضية، مشيراً إلى أن القرار الإثيوبي الأخير يُعدّ مقدمة لجملة من الأزمات المحتملة بين النظامين الإريتري والاثيوبي، بخاصة في ظل تشكل التحالفات الإقليمية الجديدة.
نقلاً عن : اندبندنت عربية