لعل أول الهواجس أننا نشاهد مسلسلاً مقتبساً عن الرواية وليس فيلماً، وثانيها أن الإنتاج ليس هوليودياً، وبالتالي لن نشاهد آل بوينديا يرطنون بالإنجليزية، وقد تم تشييد “ماكوندو” أو موقع التصوير على مقربة من مدينة “إيباغيه”، في سلسلة الجبال الوسطى من جبال الإنديز، ومجمل طاقم العمل والتمثيل من الكولومبيين واللاتينيين.
الهواجس السالفة الذكر وغيرها كثير، سكنت ماركيز على الدوام بما يشمل كل رواياته، هو الذي لا تقل ثقافته السينمائية عن الأدبية، ولعل حواره مع أكيرا كوروساو الذي امتد لست ساعات، وسؤاله الأول له يضيء على ذلك، إذ سأله: “أريد قبل كل شيء أن أعرف كيف تكتب أفلامك، أولاً لأنني أنا نفسي سيناريست، وثانياً لأنك أبدعت في تحويل أعمال أدبية رائعة إلى سيناريوهات سينمائية جبارة، في وقت تنتابني فيه شكوك كثيرة حيال السيناريوهات التي اقتبست أو قد تقتبس عن أعمالي الأدبية”، بما يقودني أيضاً للتأكيد على انغماسه الكبير في كتابة السيناريو وورشه في كوبا والمكسيك، وإعجابه الشديد بالواقعية الإيطالية الجديدة وسيناريوهات سيزار زافاتيني الاستثنائية، فماركيز حين شاهد فيلم فيتوري دي سيكا “معجزة في ميلانو” (1951) قال “إن بمقدور السينما تغيير العالم”، وكم في “ماكوندو” من اليوتوبيا التي أنشأها توتو على أطراف ميلانو!
يذكر أن ماركيز، وعلى خلاف ما تقدم، وافق على إنتاج هوليوودي لروايته “الحب في زمن الكوليرا”، واشترت حقوقها حينها شركة “نيو لاين” بعدما أمضى المنتج سكوت شتايندروف ثلاث سنوات في إقناع ماركيز بتحويلها إلى فيلم، مشبهاً عناد ماركيز بعناد فلورنتيو، وليعرض الفيلم عام 2007، وهو من إخراج مايك نويل وسيناريو رونالد هارولد، وبطولة خافيير بارديم و جيوفانا ميزوجورنو، وكان ناطقاً بالإنجليزية، مع بعض الإسبانية على ألسنة “الكومبارس” أو الشخصيات الثانوية.
تجربة سابقة
يصلح فيلم “الحب في زمن الكوليرا” كمثال مهم جداً للإضاءة على الفوارق ما بين الوسيط الأدبي والوسيط السينمائي، فقيمة الرواية أدبياً كبيرة، لكن حين عولجت سينمائياً بدت قصة ميلودرامية عادية أشبه بمسلسل مكسيكي من تلك المسلسلات التي كانت تدبلج إلى العربية، فالخط الرئيس للحبكة وهو أن رجلاً أحب امرأة فأمضى جل حياتها وهو ينتقل من حب امرأة إلى أخرى محاولاً عبثاً نسيانها، فإذا بهما يستعيدان حبهما في أواخر عمريهما، لكن اللغة في الرواية ستكون مفصلية في جماليتها وشعريتها، التأليف الأدبي، التدفق، بينما في الفيلم فإن مفتتح الرواية البديع “لا مناص فرائحة اللوز المر كانت تذكره دائماً بمواعيد غرامياته غير المواتية”، لا يجد معادلاً بصرياً له في أي فيلم.
ثمة كثير لأورده بخصوص ما تقدم، لكنني أكتفي بذلك للقول إنني كنت على الدوام أجد “مائة عام من العزلة” على العكس من “الحب في زمن الكوليرا” تحتكم على إمكانية سينمائية هائلة، فهي رواية بصرية بامتياز، وحركيتها مدهشة في تنقلاتها وأزمنتها وأجيالها، ومع تقديمها كمسلسل من موسمين في 16 حلقة (يعرض حالياً الموسم الأول فقط)، فإن المساحة البصرية والدرامية وسيعة لتقديم عوالم الرواية، ولنكون حيال مسلسل جميل، صالح لتجسيد بصري متأن لعوالم الرواية، له أن تكون متعة بصرية لمن قرأها أو لم يقرأها، ومعبراً للحنين لقارئ مثلي قرأها في أواخر التسعينيات بترجمة سامي الجندي عن الفرنسية، ثم بترجمة صالح علماني عن الإسبانية (دار التنوير، صاحبة حقوق الترجمة العربية).
الرواية والمسلسل
في الموسم الأول من “مائة عام من العزلة” تنجو أورسولا من مخاوفها المتصلة بإنجاب عظاءات إغوانا أو أولاد لهم أذناب خنزير، ولن ينتقل ذلك إلى سلالتها، بل سيتركنا المسلسل في الحلقة الثامنة والأخيرة من هذا الموسم أمام نهاية مفتوحة، مع الكولونيل أوريليانو بوينديا (كلاوديو كاتانو) وهو يتقدم قواته نحو “ماكوندو”.
يبدأ المسلسل من مشهد وجيز لبيت عائلة بوينديا، مهجوراً، وكل شيء مغمور بالغبار، كما لو أننا بصدد نهاية الرواية حين يهم أوريليانو الثاني بتسمير النوافذ والأبواب لئلا يدع لأي إغراء أن يشوش عليه وهو يفك رموز مخطوط ميلكيادس. ومن ثم يطالعنا الكولونيل أوريليانو (كلاوديو كاتانو)، وهو أمام فصيل الإعدام وصوت الرواي يقول مفتتح الرواية الشهير: “سيتذكر الكولونيل أوريليانو بوينديا، بعد سنوات طويلة، وهو أمام فصيل الإعدام، ذلك المساء البعيد الذي أخذه فيه أبوه ليتعرف على الجليد”.
الراوي مهم جداً في السرد، كما أن المسلسل، الذي تناوب على إخراج حلقاته كل من المخرجة الكولومبية لورا مورا والأرجنتيني أليكس غارسيا لوبيز، سيجد منطلقه مما يسبق “ماكوندو” وقيامها، من حب خوسيه أركاديو بوينديا (دييغو فاسكيز) وأورسولا إيغوارين (جاكي كوينونيس)، وزواجهما، وهاجس أورسولا وخوفها مما حصل مع إحدى عماتها حين تزوجت عم لخوسيه فأنجبا ابنا بذيل غضروفي على شكل لولب، ينتهي بخصلة شعر، “إنه ذنب خنزير”، وليصل الخوف بأورسولا إلى حد امتناعها من “تحقيق فعل الزواج (…) وصارت ترتدي بنطالاً بدائياً صنعته لها أمها من قماش سميك، وعززته بجهاز من الأحزمة والسيور المتقاطعة، يغلق من أمام، بإبزيم حديدي سميك”. وهكذا بقيت أورسولا عذراء بعد سنة على زواجها، وانتشرت إشاعة مفادها بأنها بقيت كذلك “لأن زوجها عنين، وكان خوسيه أركاديو بوينديا هو آخر من علم بالإشاعة”.
وجراء ذلك نصل إلى يوم الأحد الدامي، الذي كسب فيه ديك خوسيه على ديك بردينثيو أغيلار، إذ يقول له الأخير “أهنئك، ولنر إذا ما كان الديك سيقدم خدماته لزوجتك”، فإذا بخوسيه يرديه بضربة رمح قذفه بقوة ثور ليستقر في حنجرة بردينثيو، وحينها فقط ستخلع أورسولا “بنطال عفتها” بعد أن يقول لها خوسيه “إن كنت ستلدين إغوانات فسنربي إغوانات، لكن لن يكون هناك موتى آخرون بسببك في القرية”.
يعاود بردينثيو المقتول الظهور، “شاحباً، وبملامح شديدة الحزن، وهو يحاول أن أن يسد، بسدادة من أوراق الحلفاء، الثقب الذي في حنجرته”، وجراء حصار بردينثيو المقتول لخوسيه فإنه سيقرر الرحيل إلى البحر الماثل خلف الجبال المترامية، وليرافقه شباب مثله مدفوعين بحب المغامرة، وبعد ما يقارب السنتين من المسير سيحلم خوسيه بأن مدينة صاخبة تنتصب في ذلك المكان، جدرانها من المرايا، وحين يسأل عن اسمها فإذا هو “ماكوندو”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يضيء ما تقدم على نصف الحلقة الأولى أو أقل، وحرصت على تقديمها مستعيناً بالرواية، لأقول إن السيناريو في هذا السياق ينظم أحداث الرواية، بأن تكون البداية من الفصل الثاني ومن ثم يظهر ميلكيادس ومغناطيسه، ونحو ذلك من أحداث تبدأ من “ماكوندو” في الرواية، ومن ثم تعود لحكاية نشأتها.
أختم بحقيقة مفادها بأن أغلب روايات ماركيز لم تكن تولد من فكرة أو مفهوم، بل كان ينطلق في تأليفها من “صورة بصرية”، كما أخبر الصحافي بيلينيو مندوزا في حواراته المطولة معه، فهو حين هم في تأليف “مائة عام من العزلة” رأى طفلاً يرافق عجوزاً ليريه الجليد كأعجوبة من الأعاجيب، فجاء مفتتح الرواية، الذي بدوره سيكون مفتتح المسلسل وقد جسد شخصية الكولونيل أوريليانو الممثل الكولومبي كلاوديو كاتانو.
فحين كان ماركيز صبياً أخذه جده إلى السيرك ليرى “الجمل العربي وحيد السنام”، وفي اليوم التالي قال لجده إنه لم ير الجليد رأي العيان، فأخذه إلى مستعمرة شركة الموز وطلب منهم أن يفتحوا صندوق سمك البوري المجمد وجعله يضع يده في الصندوق، ومن هذه الصورة بدأ بكتابة “مائة عام من العزلة”، وعليه ستتوالى الصور حين تتجسد على الشاشة، من إصابة “ماكوندو” بداء الأرق، مروراً بموت خوسيه أركاديو وخيط الدم الذي يسيل ويسيل متجهاً نحو أمه أورسولا ليخبرها بأنه مات، وصولاً إلى الورود الصفراء التي تنهمر من السماء حين يموت خوسيه أركاديو بوينديا الأب.
نقلاً عن : اندبندنت عربية