لطالما أبدى دونالد ترمب، الرئيس المنتخب للولايات المتحدة، استياء معلناً تجاه الاتحاد الأوروبي، كما أشار إلى العجز التجاري الكبير بين بلاده والاتحاد الأوروبي البالغ نحو 131 مليار دولار في عام 2022، و208 مليارات دولار عام 2023، كدليل على أن الأوروبيين لا يتبعون القواعد ويستغلون سذاجة الأميركيين، وفي سبيل معالجة ما وصفه بالممارسات التجارية “غير العادلة” في بقية العالم، وعد بفرض تعرفات جمركية لا تقل عن 10 في المئة على جميع الواردات، بما فيها تلك القادمة من شركاء تجاريين أوروبيين رئيسيين، وإضافة إلى ذلك تساءل ترمب عما إذا كان يتعين على الولايات المتحدة أن تستمر في ضمان أمن أوروبا من خلال حلف شمال الأطلسي، وعبّر عن استيائه بسبب المساعدات العسكرية والمالية التي قدمها الكونغرس لأوكرانيا دعماً لها في مواجهة العدوان الروسي، ويعتقد ترمب ونائبه المنتخب جي دي فانس أن على الأوروبيين أن يقدموا الحصة الأكبر من المساعدات المستقبلية لأوكرانيا كي تتمكن الولايات المتحدة من تحويل تركيزها نحو الصين ومنطقة المحيط الهادئ.
في أوروبا يدور نقاش مستمر حول أفضل السبل للتعامل مع إدارة ترمب المقبلة، فيزعم بعض أنه يجب رشوة ترمب فعلياً [أي استرضاؤه من خلال تقديم حوافز له].
لقد اقترحت رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، أن أوروبا بحاجة إلى استخدام “إستراتيجية دفتر الشيكات” وعرض “شراء أشياء معينة من الولايات المتحدة”، وأشارت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إلى أن الاتحاد الأوروبي لا يزال يحصل على نسبة كبيرة من الغاز الطبيعي المسال من روسيا، تقريباً 20 في المئة، وأنه سيكون من الأفضل شراء كمية أكبر من الولايات المتحدة، وبطريقة موازية يفكر مسؤولو الاتحاد الأوروبي في شراء مزيد من المعدات الدفاعية الأميركية لحمل ترمب على التخلي عن مطلبه الجديد بأن ينفق حلفاء “ناتو” ثلاثة أو حتى خمسة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، ولكن هناك مسؤولون آخرون في الاتحاد الأوروبي يشكون في أن ترمب سيتخلى عن التعرفات الجمركية ضد أوروبا في مقابل بضع لفتات رمزية “لشراء المنتجات الأميركية”، وهم يعتقدون أن على أوروبا الاستعداد لاتخاذ تدابير انتقامية فتهدد بفرض تعرفات جمركية مماثلة بنسبة 10 في المئة على جميع الواردات الأميركية.
لكن المشكلة في كل هذه الإستراتيجيات القصيرة الأجل هي أنها لا تعالج المشكلات البنيوية الأطول أمداً التي يواجهها الاتحاد الأوروبي، والواقع أن تغيير السياسة التجارية ليس الحل، فقد بلغ الفائض التجاري للاتحاد الأوروبي مع الولايات المتحدة 20.5 مليار دولار في أكتوبر (تشرين الأول) 2024، بعد أن كان أقل من 17.5 مليار دولار في الشهر نفسه من العام السابق، وهذا الميزان التجاري [الفرق بين قيمة الصادرات والواردات] ليس سوى جزء من فائض الحساب الجاري [لفرق بين إجمال الدخل الذي يحصل عليه بلد ما من الخارج مثل الصادرات والخدمات والتحويلات المالية، وبين إجمال المدفوعات التي يدفعها ذلك البلد إلى الخارج مثل الواردات والمساعدات الخارجية] للاتحاد الأوروبي مع بقية العالم، والذي ارتفع من 64.4 مليار دولار خلال الربع الثاني من عام 2023 إلى 134.4 مليار دولار للفترة ذاتها من عام 2024.
إن رصيد الحساب الجاري هذا هو صورة تجسد اختلال التوازن بين مدخرات الاتحاد الأوروبي المحلية واستثماراته المحلية، فالأوروبيون لا يفتقرون إلى المدخرات ولا إلى فرص الاستثمار، بل إلى القدرة على نقل الأموال بكفاءة من جزء إلى آخر ضمن الاتحاد الأوروبي، والواقع أن القوانين الوطنية المتعلقة بضريبة الدخل وصناديق التقاعد واستيعاب الأخطار وإجراءات الإفلاس تجعل المستثمرين مترددين في الاستثمار خارج حدود بلدانهم في أوروبا، ونتيجة لهذا فإن جزءاً كبيراً من مدخرات أوروبا إما يظل خاملاً في البنوك المحلية أو يحاول تحقيق عوائد أعلى في أسواق رأس المال الأكثر تطوراً والأكثر سيولة في الولايات المتحدة، وشراء مزيد من الأسلحة الأميركية أو الغاز الطبيعي المسال لن يحل هذه المشكلة أو يعالج نقاط الضعف الأمنية في القارة.
واستطراداً يتعين على الأوروبيين القيام باستثمارات طويلة الأجل في الصناعة، بما في ذلك الدفاع، وتحقيقاً لهذه الغاية يمكن العثور على بعض أفضل الإجابات على استفزازات ترمب في تقريرين رئيسين نُشرا العام الماضي، ففي أبريل (نيسان) أصدر مجلس الاتحاد الأوروبي تقريراً أعده رئيس الوزراء الإيطالي السابق إنريكو ليتا في شأن إصلاح السوق الموحدة، وفي سبتمبر (أيلول) نشرت المفوضية الأوروبية تقريراً آخر أعده رئيس الوزراء الإيطالي السابق ماريو دراغي في شأن تعزيز القدرة التنافسية للاتحاد الأوروبي، ويؤكد التقريران أن التراجع الاقتصادي النسبي في أوروبا يشكل تهديداً وجودياً للاتحاد الأوروبي، ويشددان على أهمية تعزيز البحث والابتكار والاستثمارات المستدامة في التقنيات الجديدة لإيقاف هذا التراجع، وكلاهما يوضح أن الطريقة الوحيدة التي قد يتمكن بها الاتحاد الأوروبي من تحقيق هذه الأهداف هي جعل الاستثمار داخل دول الاتحاد أسهل وأكثر جاذبية بالنسبة إلى الأوروبيين، بدلاً من إيداع المدخرات في حسابات توفير أو استثمارها في الخارج.
وإذا وجد الزعماء الأوروبيون الإرادة السياسية اللازمة لتنفيذ توصيات التقريرين فسيصبح الاتحاد الأوروبي موطناً لسوق موحدة قادرة على إظهار ثقلها الحقيقي في الساحة الدولية، وسيصبح أكثر قوة واعتماداً على الذات، أما إذا فشل الأوروبيون في العمل بصورة متناغمة لتحقيق هذه الرؤية فسيخسرون الوظائف والاستثمارات والابتكارات لمصلحة الولايات المتحدة والصين، مما سيؤدي إلى مستويات معيشية أدنى من أي وقت مضى.
نحو اتحاد أكثر كمالاً
إن الاحتفاظ بمزيد من المدخرات الأوروبية داخل أوروبا بدلاً من تصديرها إلى الخارج سيسهم بصورة كبيرة في إعادة التوازن إلى اقتصاد القارة، وسيساعد في تقليل فائضها التجاري مع الولايات المتحدة، ولتحقيق هذه الغاية اقترح ليتا إنشاء اتحاد للادخار والاستثمار، وهو ما من شأنه أن يسهل على الحكومات توجيه المساعدات الحكومية نحو الأولويات الإستراتيجية مثل الطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا العسكرية، ويصر كل من ليتا ودراغي أيضاً على أن تحرير المدخرات المحلية [التشجيع على استثمار المدخرات المتراكمة في أنشطة اقتصادية منتِجة داخل القارة] يشكل خطوة حاسمة نحو إنشاء سوق مشتركة حقيقية للصناعات الدفاعية، فتمويل الدفاع والمشتريات في معظمه يحدث حالياً على مستوى الدول الأعضاء.
لكن هناك تحديات كثيرة تلوح في الأفق، فالحكومات الأوروبية لا تتعاون بسهولة في الأمور المتعلقة بضرائب الدخل، وهي لا تحب أن تحمل صناديق التقاعد الخاصة بها ما تعتبره أخطاراً غير ضرورية، كما أنها لا تثق في مستوى الثقافة المالية لدى مواطنيها وتفرض قواعد تنظيمية صارمة تثني عن الاستثمارات التي تنطوي على أخطار محتملة، وإضافة إلى ذلك فإنها مترددة في فقدان السيطرة على إجراءات الإفلاس، خصوصاً عندما قد يؤدي ذلك إلى تصفية الأصول المملوكة للأسر، إذاً تجب معالجة كل هذه العقبات وغيرها قبل أن يتمكن الأوروبيون من إنشاء ما يشير إليه قادة الاتحاد الأوروبي بصورة متزايدة على أنه “اتحاد أسواق رأس المال”، وهي مبادرة لإنشاء سوق موحدة لرأس المال نوقشت منذ تسعينيات القرن الماضي في الأقل.
واستكمالاً يتحدث دراغي عن التنافسية باعتبارها “تحدياً وجودياً” للاتحاد الأوروبي، ويقدر أن الأوروبيين سيحتاجون إلى استثمار 800 مليار يورو إضافية سنوياً (820 مليار دولار) لاستعادة القوة الصناعية التي تمتعت بها القارة، ويؤكد أن على الحكومات الأوروبية استخدام أدوات غير سوقية مثل ضمانات الائتمان والإعانات والحوافز الضريبية لتوجيه مستثمري القطاع الخاص في الاتجاه الصحيح، ويتطلب تمويل مثل هذه الخطط زيادة كبيرة في الاقتراض، وجزء من هذا الاقتراض يجب أن يقوم به الاتحاد الأوروبي بصورة جماعية مثلما حدث أثناء جائحة 2020، وسيكون هذا الاقتراض الجماعي مهماً بصورة خاصة للدفاع الأوروبي.
كذلك يعرب دراغي عن أسفه لحال التشتت والتجزئة التي يعانيها القطاع الصناعي الدفاعي في القارة، مشدداً على الحاجة إلى التوسع وتوحيد الطلب، ويدعو في تقريره إلى زيادة التمويل الدفاعي المباشر من الاتحاد الأوروبي وإنشاء هيئة صناعة دفاعية مشتركة لتولي عمليات الشراء نيابة عن الدول الأعضاء.
إن جولة أخرى من الاقتراض الأوروبي الجماعي تُعد مسألة مثيرة للجدل سياسياً لكنها ستعود بفوائد حقيقية على تحسين العلاقات عبر الأطلسي، وفي الوقت الحالي ينظر ترمب إلى الاتحاد الأوروبي باعتباره منافساً إستراتيجياً ويفضل التفاوض مباشرة مع الحكومات الأوروبية بدلاً من التعامل مع الاتحاد الأوروبي ككيان واحد، وعندما يتعلق الأمر باختلال التوازن في التجارة والحساب الجاري فسيضطر إلى التعامل مباشرة مع الاتحاد الأوروبي، ولكن طالما يفتقر الاتحاد إلى التكامل في الأمن والدفاع فسيتمكن ترمب من تأليب الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ضد بعضها بعضاً.
إن تنفيذ توصيات تقريري ليتا ودراغي قد يساعد في طمأنة الأوروبيين وحلفائهم بأن الاتحاد الأوروبي جاد في توفير أمنه العسكري والاقتصادي، فالاستمرار في الاعتماد على المشتريات من الولايات المتحدة وحسب لا يتوافق مع الاستقلالية الأمنية على المدى الطويل في أوروبا، ولم يعد هذا الاعتماد خياراً واقعياً.
فراغ في القيادة
إن التنفيذ الناجح لتقارير ليتا ودراغي سيغير طبيعة التكامل الأوروبي اقتصادياً وسياسياً، ففي الماضي قادت أكبر دولتين مؤسستين للاتحاد الأوروبي، فرنسا وألمانيا، التقدم الكبير في المشروع الأوروبي، لكن من الصعب تخيل هذا النوع من القيادة الفرنسية – الألمانية اليوم، إذ تواجه كلتا الدولتين حالاً من عدم اليقين السياسي داخلياً، ففي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي شهد المستشار الألماني أولاف شولتز انهيار ائتلافه المكون من “الحزب الاشتراكي الديمقراطي” و”حزب الخضر والليبراليين” بسبب مسألة الديون الجديدة، ومع اقتراب موعد الانتخابات المقررة في الـ 23 من فبراير (شباط) المقبل والتي من المرجح أن تتبعها مفاوضات طويلة لتشكيل ائتلاف حكومي جديد، لن تتمكن برلين من تعزيز أية إصلاحات كبيرة خلال الشهور القليلة المقبلة، وفي فرنسا لا يزال الرئيس إيمانويل ماكرون في منصبه لكنه غير قادر على ممارسة السلطة، إذ يكافح لتشكيل حكومة مستقرة وتجنب تصويت جديد على حجب الثقة، ومن غير المرجح أن يعود الوضوح السياسي لفرنسا قبل صيف عام 2025، وهو أقرب وقت يمكن فيه إجراء انتخابات تشريعية جديدة.
ومن الممكن أن تظهر ائتلافات جديدة ومختلفة من ” تحالفات الراغبين” إذا قررت إدارة ترمب المقبلة قطع المساعدات العسكرية والمالية عن أوكرانيا أو خفضها، فقد يتولى تحالف تقوده بولندا على سبيل المثال جهود تمويل المقاومة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، لكنه سيواجه صعوبة في تعويض أي نقص كبير ناجم عن فقدان التمويل الأميركي، وقد يشمل مثل هذا التحالف فرنسا وهولندا ودول البلطيق والدول الاسكندنافية، وسيحصل بلا شك على دعم مالي وعسكري من المملكة المتحدة، ولكن في مجالات أخرى، بما في ذلك التجارة الدولية، سيتعين على المفوضية الأوروبية والمجلس الأوروبي (الهيئتين اللتين تشكلان الجهاز التنفيذي في الاتحاد الأوروبي)، وليس أية دولة عضو على نحو فردي، ملء الفراغ القيادي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الخبر الجيد هو أن مؤسسات الاتحاد الأوروبي في وضع قوي نسبياً عندما ننظر إليها على خلفية الاضطرابات السياسية الجارية في الدول الأعضاء، فبعد فترة ولاية ناجحة في المفوضية الأوروبية تبدأ فون دير لاين ولايتها الثانية بخبرة وتفويض واضح، كما أن المفوضية تستفيد من تعيين رئيسة وزراء إستونيا السابقة، كايا كالاس، في منصب الممثلة الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، وكثيراً ما تشير إليها الصحافة باعتبارها “المرأة الحديدية الجديدة في أوروبا”. وهي مدافعة شرسة عن السيادة الأوكرانية وتتعامل بواقعية تامة [لا تنساق وراء الأوهام عندما تتعامل] مع ترمب أو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأخيراً فإن انتخاب رئيس الوزراء البرتغالي السابق أنطونيو كوستا، وهو ديمقراطي اشتراكي متعاطف وبراغماتي يتمتع بسمعة طيبة في بناء التوافق، لقيادة المجلس الأوروبي يَعِدُ بإضفاء جو تعاوني أكثر على المجلس.
ولكن على رغم هذه التطورات الإيجابية فإن الاتحاد الأوروبي كيان سياسي أقل تماسكاً مقارنة مع الولايات المتحدة، وكي يتمكن الأوروبيون من تنفيذ توصيات ليتا ودراغي فسيكون من الضروري أن تصطف الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي جنباً إلى جنب مع مؤسسات الاتحاد، وفي الأقل يجب ألا يقف القادة السياسيون على المستوى الوطني في طريق هذه الجهود.
تحت الضغط
العقبات السياسية أمام تنفيذ أجندتي ليتا ودراغي كبيرة، وفي الواقع تحتاج أوروبا إلى توحيد دولها الأعضاء الـ 27 وتبني تفكير واسع وطموح يشمل إدخال أوكرانيا ودول البلقان الغربية في الاتحاد الأوروبي، ولكن عدداً من الزعماء الذين يتفقون مع ترمب على الصعيد الأيديولوجي، مثل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان ورئيس الوزراء السلوفاكي روبرت فيكو ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، هم أيضاً الأكثر تشككاً في أوروبا ويترددون في نقل مزيد من سلطاتهم السيادية إلى بروكسل، ولا تساعد التوقعات الاقتصادية غير المشرقة لعام 2025 في دعم الجهود المبذولة، إذ من المتوقع أن تستمر حال الركود الاقتصادي في ألمانيا، ولا تبدو الآفاق أفضل بكثير بالنسبة إلى فرنسا وإيطاليا، ونظراً إلى أن غالبية الحكومات الأوروبية اضطرت إلى تقديم موازنات تقشفية لعام 2025، فمن غير المرجح أن تكتسب منطقة اليورو أي مساحة مالية إضافية تسمح بزيادة الإنفاق العام أو خفض الضرائب بهدف تعزيز الطلب الكلي، وسيتطلب العثور على أموال جديدة تفكيراً إبداعياً وتعديلات جديدة على القواعد المالية.
من المحتمل أن تسعى بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى إبرام صفقات ثنائية مع إدارة ترمب المقبلة بدلاً من العمل من خلال الاتحاد الأوروبي، وفي الواقع تمتلك المجر وسلوفاكيا حكومتين أكثر تعاطفاً مع موسكو من كييف، وقد رحبتا بخطط ترمب الموعودة لتحقيق السلام حتى وإن كان هذا السلام يأتي على حساب سلامة الأراضي الأوكرانية، ويفتقر إلى ضمانات أمنية قوية. كان أوربان شوكة في خاصرة الاتحاد الأوروبي خلال العقد الماضي في ما يتعلق بدعم أوكرانيا والحفاظ على المبادئ الديمقراطية وسيادة القانون، وفي كل من إيطاليا وهولندا، وهما من الأعضاء المؤسسين للاتحاد الأوروبي، يتولى “اليمين المتطرف” السلطة حالياً ويتشارك مع ترمب موقفه المناهض للهجرة وأجندته اليمينية الأوسع، وعلى رغم أن ميلوني مؤيدة قوية لأوكرانيا لكن شركاءها في الائتلاف أقل حماسة، وفي هولندا قد يميل خيرت فيلدرز، زعيم أكبر حزب سياسي في الحكومة وهو حزب “الحرية” اليميني المتطرف، إلى دعم جهود واشنطن الرامية إلى الضغط على كييف لتقديم تنازلات غير مقبولة لمصلحة موسكو.
وتمتد مثل هذه الانقسامات إلى قلب الاتحاد الأوروبي وإلى جوهر العلاقة الفرنسية – الألمانية، ففي ألمانيا يبدو أن فريدريش ميرتس زعيم “الاتحاد المسيحي الديمقراطي”، سيتولى منصب المستشار عندما تُجرى الانتخابات في فبراير المقبل إذا استمر تقدم حزبه الكبير في استطلاعات الرأي، ويؤيد ميرتس الاتحاد الأوروبي بصورة واضحة لكنه لا يدعم الاقتراض الجماعي على المستوى الأوروبي، وهو حتى متشكك في شأن مزيد من الاقتراض المحلي، ومن المرجح أن يكون على استعداد لتعديل القيود الدستورية على الديون [آلية كبح الديون] في ألمانيا للسماح بزيادة الإنفاق على الدفاع، لكن هذا يعتبر تنازلاً طفيفاً بالنظر إلى حجم الاستثمارات العامة التي تحتاج إليها البلاد، وأما في فرنسا فمن المحتمل إجراء انتخابات تشريعية جديدة الصيف المقبل لكسر حال الجمود الحالية، وقد يتمكن حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف بقيادة مارين لوبان وجوردان بارديلا من الفوز بالغالبية المطلقة، وإذا حدث ذلك فإن جهود ماكرون الرامية إلى تعزيز رؤيته لأوروبا ذات الاستقلال الإستراتيجي ستكون أقل فعالية.
من الممكن أن يساعد الضغط الخارجي في تشكيل اتحاد أوروبي قوي، وستعني عودة ترمب للبيت الأبيض الأسبوع المقبل نهاية النظام الدولي القائم على القواعد بقيادة الولايات المتحدة الذي سادت فيه الأسواق الحرة، وكان من الممكن اعتبار ضمانة الولايات المتحدة الأمنية لأوروبا أمراً مفروغاً منه، ويذكر أن اعتماد الولايات المتحدة سياسة خارجية أميركية أكثر ميلاً إلى التعاملات وعقد الصفقات قد يجبر الاتحاد الأوروبي على التكيف، وأخيراً استغلال قوته الاقتصادية وبناء قدراته الدفاعية الخاصة، مما قد ينتج أوروبا أقوى وأكثر تماسكاً، أو قد تؤدي دبلوماسية ترمب الصارمة إلى إحداث شرخ بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. ويأمل الرئيس الأميركي المقبل أن يرى أوروبا تتراجع كمنافس إستراتيجي، لكن هذه النتيجة لن تكون في مصلحة أوروبا على المدى الطويل اقتصادياً أو أمنياً، أو حتى في مصلحة واشنطن، إذ يظل الأوروبيون الحلفاء الديمقراطيين الأكثر موثوقية وثباتاً للولايات المتحدة في عالم متقلب وخطر، ويمكن للاتحاد الأوروبي تجنب الانقسام والتهميش من خلال تبني أجندتي ليتا ودراغي.
مترجم عن “فورين أفيرز” 13 يناير (كانون الثاني) 2025
إريك جونز هو مدير “مركز روبرت شومان” للدراسات المتقدمة في معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا، وباحث غير مقيم في “مركز كارنيغي أوروبا” في بروكسل.
ماتياس ماتيس هو أستاذ مشارك في كرسي دين أتشيسون في كلية الدراسات الدولية المتقدمة التابعة لجامعة جونز هوبكنز، وزميل بارز لشؤون أوروبا في “مجلس العلاقات الخارجية”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية