بينما استهدف اجتماع أمس الجمعة، في البيت الأبيض بين الرئيسين الأميركي والأوكراني التوقيع على صفقة المعادن النادرة بين كييف وواشنطن، أدى الشجار الذي تفجر علناً أمام وسائل الإعلام في المكتب البيضاوي بصورة لم تشاهد من قبل بين رئيس أميركي وزعيم دولة أجنبية، إلى قلب الأمور رأساً على عقب.

سريعاً أمر ترمب بإلغاء المؤتمر الصحافي الذي كان مقرراً وغادر زيلينسكي شبه مطرود من دون التوقيع على صفقة المعادن، بل لم يتناول حتى غداء الدجاج المشوي بالروزماري الذي أعد لضيافته، فما سبب احتدام الخلاف، وإلى أين تتجه الأمور، هل وصلت العلاقات بين واشنطن وكييف إلى قطيعة حتمية أم يمكن إصلاحها، وما تأثير هذا الصدام على أوروبا وروسيا والنظام الدولي؟

صورة مغايرة تماماً

قبل 26 شهراً فحسب، كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي محط تكريم في واشنطن باعتباره محارباً شجاعاً ومناضلاً من أجل الديمقراطية، وألقى كلمة في اجتماع مشترك لمجلسي النواب والشيوخ في مبنى الكونغرس الأميركي، وأشاد به الديمقراطيون والجمهوريون على حد سواء لوقوفه في وجه العدوان الروسي الصارخ بحسب ما وصفه الأميركيون آنذاك، لكن في آخر أيام فبراير (شباط) الماضي باتت الصورة مغايرة تماماً، إذ بدا أن زيلينسكي طرد من البيت الأبيض بعد إهانة وشجار لم يسجله التاريخ من قبل في هذا المكان.

 

 

وبعد نصف ساعة من المناقشات الهادئة التي أعدت سلفاً حول صفقة المعادن الأوكرانية النادرة التي تحتاج إليها الولايات المتحدة لتعويضها عن مساعداتها السخية لكييف طوال الحرب مع روسيا، تفجرت الخلافات بين الطرفين، ليس خلف الأبواب المغلقة كما يحدث أحياناً وسط الصراعات المتفجرة، وإنما أمام كاميرات وسائل الإعلام وعلى الهواء مباشرة.

هل ابتلع زيلينسكي الطعم؟

عندما اجتمع زيلينسكي مع عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، صباح أمس، حذره السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام من ابتلاع الطعم إذا تحداه الرئيس ترمب أو أحد مساعديه، ونصحه بالهدوء والحكمة، وهي نفس النصيحة التي قدمها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر بل طالبوه بتقديم الشكر للأميركيين والثناء على ترمب.

لكن رد زيلينسكي أوضح أنه لم يستمع للنصائح، ولم يتبن النبرة الهادئة التي استخدمها الزائران البارزان الآخران للبيت الأبيض هذا الأسبوع، ماكرون وستارمر، ولا شك أن الصدام أثار تكهنات محمومة حول ما إذا كان ترمب ونائبه جي دي فانس قد استفزا زيلينسكي عمداً، الذي وصفه الرئيس الأميركي، أخيراً، بأنه “ديكتاتور” أم إن الزعيم الأوكراني تصرف بصورة متهورة للغاية، على حساب مصالحه الوطنية.

ردود كارثية وإهانات

كان من بين أكثر الردود كارثية، اعتراض زيلينسكي على تصوير ترمب له بأنه يحمل كراهية شديدة لبوتين مما جعل إنهاء الصراع أكثر صعوبة، كما رد الرئيس الأوكراني على اقتراح فانس بأن الدبلوماسية يمكن أن تنهي الحرب، بأن بلاده تبنت هذا النهج سابقاً بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، ليتبعها شن بوتين غزو كامل النطاق عام 2022، وما زاد الطين بلة، أن زيلينسكي أصبح عدوانياً حين قال لترمب إن المحيطات بين أميركا وروسيا لن تحمي الولايات المتحدة من روسيا إلى الأبد، وهو ما فسره المسؤولون الأميركيون على أنها إهانة لا تغتفر كونها تظهر الولايات المتحدة ضعيفة ومهددة.

 

 

ووسط حديث متبادل غاضب، قال ترمب لزيلينسكي “من دوننا، ليس لديك أي أوراق” و”أنت تراهن على الحرب العالمية الثالثة”، وستكون محظوظاً فقط إذا حصلت على وقف إطلاق النار، مما يشير إلى أن أي شروط أو عدم وجود شروط ستكون أفضل من هزيمته الحتمية، ومن جانبه اتهم فانس زيلينسكي بأنه غير محترم لأنه لا يقدم الامتنان لترمب وللشعب الأميركي.

التداعيات على أوكرانيا

مع النهاية السيئة التي انتهى إليها هذا الاجتماع، أصبح من غير الواضح ما هي حدود التداعيات التي يمكن أن تنسحب على كييف جراء هذا الصدام العلني، فبحسب ترمب، طلب زيلينسكي العودة إلى البيت الأبيض، لكن طلبه رفض، وهذا يعني أن الرئيس الأميركي الغاضب أصبح أكثر غضباً وأن المستقبل يبدو قاتماً الآن من المنظور الأوكراني، إذ من غير المعروف ما إذا كانت إدارة ترمب ستكون مستعدة لتقديم الدعم العسكري والسياسي لكييف في الأشهر المقبلة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لم يمض وقت طويل حتى أمر ترمب من فريق الأمن القومي بمراجعة ما إذا كان يمكن لبلاده أن توقف بصورة موقتة أو بصورة كاملة شحنات الأسلحة الأميركية التي تتدفق على أوكرانيا حتى الآن بحسب مسؤولين في البيت الأبيض.

أضرار متفاوتة

رغم المخاوف الأوكرانية، لا يرى مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق دانييل فريد، أن المشكلة تتعلق بالافتقار إلى اللياقة وإنما في عدم وجود مصلحة وطنية للولايات المتحدة في إحداث قطيعة مع أوكرانيا، وما يزيد من اضطراب موقف إدارة ترمب أن هناك القليل من الاتساق في مواقفها حول صفقة المعادن ودعم كييف.

في المقابل ذلك تلاحظ المستشارة السابقة لعضو مجلس النواب الجمهوري مايكل ماكول ليزلي شيد، أن الدعم الذي حظيت به أوكرانيا بين الجمهوريين في الكونغرس من المحتمل أن ينحسر بسرعة، بعدما تعرض عدد منهم لانتقادات سياسية من القاعدة الجمهورية بسبب دعمهم أوكرانيا، كما أن الاجتماع الكارثي في البيت الأبيض يمكن أن يجعل هذا الوضع أسوأ لأنه سيضعهم في مرمى نيران البيت الأبيض.

وعلى سبيل المثال، جاءت إحدى الإشارات المقلقة من السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام الذي انتقد زيلينسكي بشدة واقترح عليه التنحي، ولهذا تحذر ليزلي من أنه إذا استمر الرئيس الأوكراني في فقدان الدعم من الجمهوريين في الكابيتول هيل، الذين يسيطرون الآن على مجلسي الكونغرس، فقد يؤدي ذلك إلى تدمير بلاده.

مصير صفقة المعادن

ليس من الواضح ما إذا كان من الممكن إعادة تجميع الصفقة التي تقضي بتزويد الولايات المتحدة بنصف عائدات أوكرانيا معادن الأرض النادرة عبر صندوق مخصص لهذا الغرض يمكن استخدام جزء من عائداته في جهود إعادة إعمار البلد المدمر.

وبينما يزعم ترمب أن أميركا تريد استرداد 350 مليار دولار أنفقتها لمساعدة الأوكرانيين عسكرياً واقتصادياً، يعد زيلينسكي أن الرقم مبالغ فيه ولا يعكس الأرقام التي حددتها مراكز بحوث أميركية وأوروبية وضعت الرقم في حدود لا تتجاوز 180 مليار دولار على أقصى تقدير.

 

 

ومع ذلك ذللت أوكرانيا هذه العقبة ووافقت على ما يبدو على الصفقة كوسيلة لتعويض الولايات المتحدة عن المساعدة المستقبلية لأوكرانيا أيضاً، لكن ترمب كان غامضاً بصورة واضحة حول النقطة الرئيسة، وهي ما إذا كانت واشنطن ستقدم ضمانات أمنية حازمة في المقابل، التي يصر عليها زيلينسكي، والآن مع تأجيل هذه الصفقة على الأرجح في المستقبل المنظور، لا أحد يعرف ما قد يحدث.

العقبة الكؤود

تبدو مسألة الضمانات الأمنية الأميركية لأوكرانيا العقبة الكؤود التي كانت السبب في اندلاع المشاجرة اللفظية في البيت الأبيض، فرغم أنه يمكن لزيلينسكي أن يعتمد بصورة أكبر على أوروبا للحصول على الدعم العسكري والدبلوماسي خصوصاً مع وجود وجهتي نظر لدى ماكرون وستارمر مؤيدة لأوكرانيا أكثر بكثير من ترمب، لا يمكن تصور استمرار الحرب إلى الأبد، ولهذا تبدو اللحظة الحالية مناسبة لإنهاء الحرب وتحقيق السلام ولكن بشرط توفير الضمانات الأمنية الأميركية التي يراها الأوكرانيون عاملاً حاسماً لمنع روسيا من غزو أوكرانيا بعد أعوام.

وحتى الآن لا يبدو أن الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين مستعدين لإرسال قوات برية أثناء الحرب، خوفاً من الانجرار إلى حربهم الخاصة مع روسيا، بينما يسعى ترمب إلى دعم اقتراح بنشر قوات حفظ سلام أوروبية لدعم اتفاق سلام إذا توصل إليه بين الجانبين المتحاربين، ومع ذلك يريد الأوروبيون مشاركة قوات أميركية معهم.

إصلاح العلاقة

في جهود متسارعة لوقف انزلاق الوضع حول أوكرانيا إلى مستويات أسوأ، دعت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني التي تمتلك نظرة عالمية أقرب إلى نظرة ترمب، إلى عقد قمة فورية بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية لمناقشة موضوع أوكرانيا. ومن جانبه تحدث زيلينسكي بعد اجتماع ترمب، مع القادة الأوروبيين بما في ذلك ماكرون والأمين العام لحلف شمال الأطلسي “ناتو” مارك روته.

 

 

غير أن كبيرة الباحثين في مركز أوروبا التابع للمجلس الأطلسي في واشنطن راشيل ريزو تلاحظ أن أوروبا تم استبعادها من المحادثات المحتملة لأن ترمب لا يرى أنها قادرة على صياغة حل هادف، والآن هو الوقت المناسب لرؤية ما تقدمه القارة العجوز، هل سيكون الأوروبيون قادرين على التدخل بطريقة هادفة، وتوفير الضمانات الأمنية طويلة الأجل لأوكرانيا التي تحتاج إليها بشدة، وربما يكونون مستعدين لوضع قوات على الأرض للمساعدة في تأمين سلام دائم، أم إن بيروقراطية بروكسل والاختلافات في الرأي بين الدول الأعضاء ستدمر قدرتها على لعب الدور القيادي الذي ينبغي أن تلعبه؟

اعتذار زيلينسكي

حتى الآن رفض زيلينسكي تقديم اعتذار لترمب في حديثه مع قناة “فوكس نيوز”، لكنه عبر عن امتنانه للرئيس والشعب الأميركي والسياسيين، ومع ذلك تنصح ليزلي باعتذار سريع من الرئيس الأوكراني عبر جولة إعلامية تركز على تغيير القلوب والعقول مع مجموعة متنوعة من الصحف المحافظة، بما في ذلك صحيفة “نيويورك بوست” ومؤسسة “واشنطن إكزامينر” الإخبارية.

هنا تقول ليزلي، إن رفض زيلينسكي الاعتذار مباشرة لترمب يجعل استعادة علاقته معه أكثر صعوبة بينما يجب على الرئيس الأوكراني أن يحاول إحياء صفقة المعادن، ويرجع ذلك إلى أنها تحفز بصورة أكبر دعم الولايات المتحدة لكييف، لأن الولايات المتحدة لا تستطيع الوصول إلى المعادن حتى تتحرر أوكرانيا من الحرب ومما وصفته بـ”العدوان الروسي”.

نقلاً عن : اندبندنت عربية