يشب الإنسان وهو يعلم أن يوم دخوله معترك العمل قريب، وهو يوم ينطلق فيه على درب كسب المال وتحمل المسؤولية والشعور بوجود هدف لحياته، كما يخطو فيه أولى الخطوات المهمة لتحقيق النجاح في عالم الراشدين، أليس هذا ما وعدكم به آباؤكم ومعلموكم؟

ولكن اتضح أنهم كانوا مخطئين، إذ تشعر أعداد متزايدة من الشباب بأن العمل يتسبب لها بضغوط تفوق قدرتها على التحمل فيما تتضاعف أعداد الأشخاص الذين ينشدون العلاج النفسي إلى حد كبير، يعتقد بعضهم أن هذا الوضع مؤشر إلى أننا نواجه وباءً من اليأس وانهياراً حقيقياً، فيما يتساءل آخرون إن كان جيل الشباب لا يستطيع أن يفهم ببساطة بأن التعامل مع العراقيل التي تضعها الحياة بوجهه هو أمر طبيعي يساعدنا على تعزيز قدرتنا على الصمود والتحمل.

كشف التقرير الأخير الذي أصدرته منظمة الصحة النفسية في المملكة المتحدة Mental Health UK حول الإرهاق أن ثلث (35 في المئة) العاملين الذين تراوح أعمارهم ما بين 18 و24 سنة احتاجوا إلى أخذ إجازة العام الماضي بسبب اضطرابات نفسية مقارنة بعامل واحد من كل 10 من الفئة العمرية 55 فما أكثر.

وعزا الشباب هذه الضغوط النفسية إلى مطالبتهم بالعمل ساعات إضافية بوتيرة دورية من دون مقابل أو إلى عملهم ساعات إضافية من أجل مجاراة الغلاء المعيشي المتزايد، فيما تلقي نسبة شبيهة من الفئة العمرية 25 إلى 34 سنة باللوم على الضغوط النفسية التي تولدها أعباء العمل الثقيلة أو الخوف من خسارة الوظيفة.

وتستشري الآن ثقافة الأعذار المرضية، إذ أخذ 29 في المئة من العاملين من الفئة العمرية 25 إلى 34 سنة إجازات في عام 2024 بسبب الإنهاك مقارنة بـ23 في المئة خلال العام السابق، بينما طلب ربع العمال الذين تراوح أعمارهم ما بين 35 و44 سنة إجازات في عام 2024 مقارنة بخمسهم في عام 2023، لكن هناك اعتقاداً كذلك بأن زيادة الوعي بشؤون الصحة النفسية هو السبب الذي يعوق قدرة العاملين الشباب على التمييز بين شعور الإحباط الاعتيادي الذي قد يصيبك في الأيام العادية والأزمات النفسية الحقيقية.

منذ فترة قصيرة، قالت الرئيسة السابقة للكلية الملكية لأطباء الصحة العامة البروفيسورة كلير جيرادا، إن بريطانيا تعاني “مشكلة سعي أشخاص من كل الفئات العمرية إلى الحصول على تشخيص أو تصنيف (مرضي)”، وبدا أنها تكرر كلام رئيس الوزراء السابق توني بلير الذي حذر من المغالاة في التعامل مع “تقلبات الحياة” كأنها مشكلات طبية.

ما سبب معاناة الشباب أكثر من الذين تتخطى أعمارهم 35 سنة؟

فيما تبرز بعض الفروق الجوهرية بين هذين الجيلين ومنها جائحة كوفيد [فيروس كورونا] وانتشار الإنترنت والهواتف الذكية في كل مكان، فقد تغيرت طريقة التربية نفسها خلال العقود الماضية، إذ بعدما كان متوقعاً من الأطفال أن يبلغوا مرحلة النضوج في نهاية المراهقة، أصبحت مرحلة النضوج المتعارف عليها اليوم في منتصف العشرينيات من العمر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يحيط الآباء بأبنائهم إلى درجة أكثر بكثير من الأجيال السابقة ويحلون المشكلات التي تواجه أطفالهم كي لا يفشل هؤلاء [لا يواجهون الخسارة]، من الناحية الاجتماعية أصبحت علاقة الآباء بالأبناء أقرب إلى الصداقة مع تقدمهم بالسن، فيما كان الآباء في العقود السابقة يفصلون أنفسهم عن حياة أبنائهم البالغين ولا يتدخلون فيها مع بلوغهم أوائل العشرينيات من العمر سوى في حالات الطوارئ.

صحيح أن وسائل التواصل الاجتماعي تساعد الشباب على العثور على أصدقاء ومواعيد غرامية وفيديوهات مضحكة أبطالها القطط، لكنها في الوقت نفسه تولد شعور العار والقلق لدى كثر ولا سيما في أوساط النساء.

أجرت البروفيسورة روزاليند غيل في كلية غولدسميث بحثاً حول آثار وسائل التواصل على النساء بين 18 و28 سنة من العمر في كتابها “مثالية: نظرات وأحكام على وسائل التواصل ” Perfect: Feeling Judged on Social Media، تكلمت غيل مع أكثر من 200 شابة يتحدرن من خلفيات متنوعة في المملكة المتحدة وقلن لها إنهن “يعانين جداً بحق”.

“هن مضطرات إلى التصرف بمثالية تامة لأن أصدقاءهن وأصدقاءهن اللدودين [الخصم المقرب] يتابعون كل خطواتهن ويطلقون الأحكام عليهن”، وتشير بعض الدلائل إلى أن الشباب بدأوا يشعرون بالمثل، وكل ذلك يؤثر في سلوك الشباب في مكان العمل كما في المنزل.

هل يختلف العمل بالنسبة إلى الجيل الأصغر سناً؟

لقد انقلبت أحوال مكان العمل رأساً على عقب خلال العقدين الأخيرين، فأصبح مجرد الحصول على وظيفة عملية أكثر إثارة للتوتر بسبب اكتظاظ أماكن العمل، وقد يبدو الوصول إلى مرحلة المقابلة مستحيلاً عندما يتناهى إليك أن 700 شخص قد تقدموا بطلب للحصول على الوظيفة (هذا ما سمعته عن وظيفة من المستوى المبتدئ في دار للنشر) وسوف تخضع لمقابلات عدة يتم بعضها ضمن مجموعات متنافسة ويستغرق اليوم بأكمله.

كذلك فإن التكنولوجيا تؤدي دوراً في كل وظيفة تقريباً، مما يعني أنه من الممكن إخراجك من العملية برمتها قبل أن تبدأ حتى فيما تخضع معدلات العمل للاستهداف والقياس والتحليل. وفي غالب الأحيان، لا يتضمن اليوم أي مساحة تخصص للتأمل أو الشعور بالإنجاز بعد الانتهاء من مهمة معينة.

وبسبب وجود الهواتف الذكية يظل الموظفون “على اتصال” بالعمل، فيما تخلق وسائل التواصل تحفيزاً مستمراً للتباهي والتسويق والتواصل، وفيما يعد جزء كبير من هذه الأمور غير حقيقي [من العالم الموازي والرقمي] بحسب غيل، لا يعني أن الأفراد قادرون على الانسحاب منها تفادياً للشعور بأنهم منبوذون.

يضطر الشباب إلى التصرف على أفضل وجه مثالي لأن أصدقاءهم وأصدقاءهم اللدودين [الخصوم] يتابعون كل خطواتهم ويحكمون عليهم

روزاليند غيل

وتشرح المعالجة النفسية كورا هلتون أن كثيراً من العملاء في العشرينيات والثلاثينيات من العمر يعانون بسبب اختلاف العمل على أرض الواقع عن تصورهم السابق عنه.

“كان هذا الجيل يتوقع أن يستمد هويته ومعنى حياته ونجاحه وسعادته من العمل”، وما وجده في المقابل حسب تعبيرها هو واقع مختلف تماماً يضاف إليه عدم تمتعهم بأمن اقتصادي [شبكة حماية اقتصادية] مماثل للأجيال السابقة، يريد كثر أن يظهروا صورة النجاح لكنهم غير قادرين على التكيف مع مطالب العمل لأنهم نشأوا في بيئة من المثالية الضارة والخوف من الفشل والبحث عن معنى للحياة.

وعند حلول وقت دخول الجيل زد، الذي بلغ بعض أبنائه 28 سنة من عمرهم الآن، إلى سوق العمل، كان هذا التصور قد تبدد، إنما لا يمكن تفادي العمل نفسه.

وتقول هلتون “قد تعاني هذه الفئة العمرية غضباً كبيراً بسبب اضطرارها إلى مسايرة الآخرين ولا سيما عندما تتوقع الأجيال الأكبر منها أن تتحمس لإثبات نفسها [تقديم براهين على كفاءتها]”.

وما تشعر به هو “لماذا عليَّ أن أصب كل جهدي في العمل بينما لا يقدم لي راتب يقيني من الهواجس الواقعية المتعلقة بالكلف المعيشية وانعدام الأمن في المستقبل؟”.

منظور مختلف

دائماً ما يترافق النضوج مع التحديات، يعد آلان بيرسي، الرئيس السابق لقسم الإرشاد النفسي في جامعة أكسفورد، أحد متخصصي الصحة النفسية الذين يعتقدون أن الجيل الأكبر سناً قد أضر بالشباب من حيث لا يدري، عندما دأب على إزالة كل عائق يظهر أمامهم بدلاً من أن يحول الصعوبات إلى شأن يمكن التعامل معه، فمن المهم جداً بالنسبة إلى ثقة الشباب [في أنفسهم] أن يبنوا نجاحهم بطريقتهم الخاصة.

“نحن نسيء إلى الشباب إن ربطنا كل مشكلاتهم بصحتهم النفسية، فهذا يعطيهم أملاً زائفاً بأن يجدوا في الأدوية حلاً لجميع مشكلات الحياة”.

“ومن الأفضل أن يروا أنهم يشعرون بأنهم يرزحون تحت وطأة تحديات الحياة والصعوبات التي تواجههم في المرحلة الانتقالية التي تسبق مرحلة البلوغ والاستقلالية”.

وهو يقتبس من كلام المحلل النفسي وطبيب الأطفال دونالد وودز وينيكوت في شأن الانتقال من المراهقة ودخول مرحلة الرشد، فيقول “قال وينيكوت إن الاستقلالية الحقيقية لا تحدث سوى عندما يتخلى الشاب عن مفهوم الوالد [أن يكون المدير في مصاف الوالد] الموجود دائماً لحل كل مشكلاته”.

يمكن تفسير ذلك من خلال انتقال أبناء هذا الجيل الذين عوملوا على أساس أنهم أطفال إلى سوق العمل، حيث باتوا يعتبرون المدير في العمل بديلاً عن الأبوين ويتوقعون منه أن يحل مشكلاتهم وينسحبون بسبب معاناتهم ضغوطاً نفسية عندما لا يحصل ذلك، وهذا تصور مختلف عن توقعات الأجيال الأكبر سناً من مديريهم.

“تجعلنا الحياة ندرك أننا مضطرون إلى التكيف مع انعدام اليقين وأنه على كل فرد منا أن يتعلم كيف يشق طريقه ويطور المهارات الداخلية المطلوبة للتعامل مع الصعوبات، لكن الآباء الذين يسارعون لحل كل المشكلات التي يواجهها الأطفال في حياتهم يغرسون في أبنائهم توقعاً باللجوء إلى شخصية أبوية دائماً تحل مشكلاتهم نيابة عنهم”.

كيف يمكن لأصحاب العمل المساعدة؟

في ظل التحديات التي يواجهها هذا الجيل والمشكلات المالية التي تواجهها شركات عدة، لا يمكن الخروج بحل واحد يرضي الجميع، في حال وجود مشكلات، يبدو من الأفضل اقتراح إجراء حديث خاص مع الأفراد لمحاولة فهم مشكلاتهم وتقييم جديتها.

ويعتقد أنه ليس من واجب مكان العمل أن “يحل” المشكلة لأن ذلك “سيعمق ثقافة الاتكالية التي يتوقع الشباب من خلالها أن ينبري طبيب/معالج/مرشد/شخصية أبوية لتحمل مسؤولية مشاعرهم وحياتهم و’معالجة كل الأمور'”.

لكن في أقصى الحالات، لا يرغب أصحاب العمل بالتعامل مع مرض حقيقي قد يتطلب علاجه أشهراً أو حتى حالات انتحار بين موظفيهم، ويقول بيرسي إن الاكتئاب يظهر بوضوح على معظم الأشخاص لكنه يتفاقم عند وقوع أحداث حياتية مؤلمة مثل الحداد أو الطلاق أو المرض أو البطالة.

“قد يعاني الشباب أكثر للتعامل مع هذه الأحداث الحياتية لكن لا تقتضي هذه المعاناة الاضطرار إلى تشخيصهم باعتلال نفسي”.

كما يجب تغيير المفهوم في الأذهان وبدل التفكير بأننا “لم نكن هكذا في زمننا”، علينا أن نستوعب تغير الأزمنة، فهذا الجيل تربى بطرق مختلفة وقضى أعوام نموه الباكر محاطاً بتجارب مختلفة جداً، صقلت شخصيته.

ومن العوامل الضخمة التي تصب في هذا الموضوع أيضاً وسائل التواصل الاجتماعي التي لا تنفك تطرح تصورات عن الشكل الذي يجب أن تتخذه الأمور، مقارنة بالوضع الراهن، ومنها كذلك قضية القروض وصعوبة تملك منزل خلافاً لما كانت عليه الحال مع المديرين من أجيال سابقة.

ليس الشباب الفئة العمرية الوحيدة التي تنشد مساعدة نفسية، لكن ربما تكون الأبرز، وإن استطعنا أن نحافظ على حالتهم النفسية ونعاملهم بإنصاف وندفع لهم ما يستحقونه، ونقدم لهم فرص عمل جيدة وعلاقات اجتماعية، قد يكتشفون أن العمل من أفضل الأمور بالنسبة إليهم. ويقع على عاتقنا أن نبين لهم كيف يمكن للعمل أن يكون مصدراً للحلول وليس للمشكلات فقط.

لويز تشان مؤسسة منصة Welldoing التي تساعد في البحث عن معالج نفسي

نقلاً عن : اندبندنت عربية