في الأنطولوجيا الجديدة “أرواح ستحل أجسادها فيك” التي أعدها الشاعر والمترجم المغربي محمد العرابي، والصادرة عن دار خطوط وظلال (الأردن)، تعود هذه الأسئلة إلى الحضور والتداول، خصوصاً أن المترجم أثار في مقدمة الكتاب ثلاث إشكاليات كبرى تهم ترجمة الشعر، أولاها قابليةُ الشعر للترجمة، وثانيها توسُّلُ لغة وسيطة لنقل الشعر من لغته الأولى إلى لغة مستقبلة، وثالثها إعادة ترجمة الأسماء ذاتها والتي توجد خارج اللحظة الراهنة.

وإن كان المترجم المغربي قد أومأ إلى الإشكالية الأولى محاولاً تجاوزها، بدعوى أن الوضع الطبيعي للأدب هو أن يحضر في مختلف لغات العالم، على رغم كل إكراهات النقل، بدل أن يكون مغيباً في عدد من اللغات، فإنه بالمقابل توقف عند مغامرة ترجمة الأدب عبر لغة وسيطة، خصوصاً إذا كان هذا الجنس الأدبي هو الشعر. لقد وضع محمد العرابي شرطاً معجزاً إذا ما نحن أردنا التخلي عن الوساطات اللغوية في الترجمة. يقول في مقدمة الأنطولوجيا: “تتوزع هذه الأسماء على جنسيات مختلفة من أربع قارات، بوساطة اللغة الفرنسية، على رغم ما تحمله هذه الوساطة من مؤاخذات، وما تثيره من جدل. وقد آثرنا خوض مغامرة الترجمة عن لغة وسيطة على البقاء في انتظار أن نتوفر على مترجمين يتقنون كل لغات العالم”.

والحقيقة أن عدداً من لغات العالم ليس متاحاً للمترجمين العرب المختصين في الأدب، لذلك تأتي اللغة الوسيطة بمثابة حل لهذه المشكلة. وقد نتساءل عما يضيع من الشعر وهو ينتقل بين لغتين، فكيف إذا صار بين ثلاث لغات وأكثر؟ يجيبنا المترجم وفق رؤية لا تخلو من زعم تفاؤلي: “قناعتنا راسخة أن ما قد نربحه من هذه الترجمة أكبر مما قد نخسره”، معللاً ذلك بأننا إذا قد توقفنا عن الترجمة من لغات لا نعرفها، وتعمل على إثراء النتاج الأدبي العالمي. يتساءل العرابي في هذا الصدد: “ما حجم الخسارة التي يمكن أن تلحق الثقافة العربية من البقاء على هذا الموقف المناوئ؟”.

 التوتر الوجودي

تهم الإشكالية الثالثة التي أثارها المترجم في مقدمة الكتاب مسألة الاقتصار على ترجمة الأسماء المعروفة، والتي تنتمي في غالبيتها إلى أزمنة سابقة. لذلك يستغرب من انشغال أوساط النشر بإعادة ترجمة شعراء من القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ويتساءل: “لماذا يصر المترجمون والشعراء العرب على أن يرهنوا ذائقة الشعر وحواره مع النظائر الكونية في أسماء بعينها، ولا يلتفتون إلى الراهن الشعري الذي ينتجه الشعراء في هذه اللحظة وبأصوات ربما لم نسمع بها من قبل؟”.

ويبدو أن الأسماء التي اقترحها المترجم لهذه الأنطولوجيا هي بمثابة جواب عن السؤال المرتبط بالإصرار على ترجمة القديم، وتجاوزه عبر الرهان على تقديم اقتراحات جديدة لم يسمع بها من قبلُ معظمُ القراء العرب. وما اختيار المترجم في مستهل الأنطولوجيا لشاعر صيني من مواليد منتصف الستينيات، انتحر في عامه الخامس والعشرين، إلا دليل صريح على هذه الرغبة في التفاعل مع تجارب شعرية غير مألوفة وغير معروفة لدى المتلقي في العالم العربي.

في المقدمة الصغيرة التي تسبق النصوص المترجمة للشاعر الصيني هاي زي يشير العرابي إلى أن نصوصه لم تكن تحظى بالقبول في معظم الأحوال من الصحف والناشرين، وأنه عاش على هامش الحياة الثقافية في بلاده، وما إن مات منتحراً، عبر الاستلقاء على سكة الحديد، حتى انتبه له الناشرون ونشطاء الوسط الثقافي، وعرفت بالتالي كتاباته رواجاً هائلاً في الصين.

ينقل إلينا الشاعر الأحاسيس التي استبدت به: “على بحيرة كينغاي/ تشبه وحدتي حصاناً من الجنة”، ويترجم لنا إرهاصات الانتحار: “أحلم بأن نطفئَ ضوء الحديد الشرس/ أحلم بأن أموت في الليل”. ويبدو أن العرابي كان حريصاً في مختاراته الشعرية المترجمة على البعد الإنساني في الكتابة، وعلى الوقوف بالقارئ عند حواف التجارب الفردية للكائن في حياة صعبة ومتقلبة. فغالبية النصوص التي تضمها الأنطولوجيا تلج بنا عوالم الاختبارات الوجودية والمهاوي النفسية والتماس الدائم مع مناطق القلق والحيرة وأثقال الهم الإنساني، ويكفي للتدليل على ذلك التوقف عند عدد من النصوص من بينها: “الجملة الأخيرة” للفرنسي جاك أنصي، “حفرة” للكورية كيم هاي سون، “لقد هرم” للصيني شي تشيان، “أنا أوجد” للفرنسي كريستوف تاركوس، “رخصة الهدم” للبرازيلية ريجينا ألونزو، “الأغنية الأخيرة قبل حلول الليل” للمغربي نصر الدين بوشفيق، “ما هي الظلمة؟” للكورية راهي دوك، “هذا هو ما أصبحتُ عليه” للروماني كلاوديو كومارتان، “سيان أمتّ أم حييت” للأفغانية ناديا أنجومان، “هذا المسرح الكبير من المعتوهين” للفرنسي باتيست بيتزنات”، “طريق الضياع” للمغربية جميلة أبيطار، وغيرها من النصوص التي تنقل للقارئ ما يعتمل في ذوات الشاعرات والشعراء المعاصرين من توترات إزاء الحياة الراهنة. تتساءل الشاعرة الأميركية كارينا بوروبيتش: “كيف وصلنا إلى حافة العالم/ من أشياء متوهجة؟”.

عودة إلى الطبيعة

راهن المترجم المغربي محمد العرابي على تقديم أسماء جديدة للقارئ العربي، كأنما كان يلبي رغبة المهتمين بمعرفة ما الذي يكتبه الشعراء الشباب اليوم في مختلف القارات. فالمكسيكي خورخي فارغاس من مواليد 1990، والإيرانية روكسانا هاشمي من مواليد 1992، والجزائرية سميرة نقروش من مواليد 1980، وولد الروماني كلاوديو كومارتان في 1983، والأفغانية ناديا أنجومان في 1980، والفرنسي بيتزنات في 1982، أما التونسي محمد قصارة فهو من مواليد 2001. وتنتمي بقية الأسماء إلى أجيال سابقة، لكنها لم تصدر أعمالها في الغالب إلا في السبعينيات أو الثمانينيات. ولعل هذا الرهان على تقديم تجارب راهنة يجعلنا نتعرف إلى التحولات التي عرفتها الكتابة الشعرية ما بين نهاية الألفية الثانية ومطالع الألفية الجديدة.

في عدد من النصوص نلمس هذه العودة إلى الطبيعة في نوع من المصالحة بين الكائن ومحيطه الأول الذي اكتسحته مظاهر الحياة الجديدة. تتحسر الشاعرة الكورية راهي دوك على زهرة أوركيديا تتفتح تحت التراب ولا أحد رآها سوى النمل، وتتعاطف مع شجرة خوخ تعاني من الوحدة، بينما ينعى الشاعر الصيني شي تشيان العصافير التي سقطت، ويودع “الشمس العظيمة التي تغرق مثل باخرة”، ويرفع نداءً برياً: “بحقك أيها الراعي، قُد قطيعك صوب البحر/ بحقك أيها الراعي، دع العلَم للحجارة”. تحتفي الشاعرة الإيطالية بالثلج، وتشبهه بالأب: “بفضل الصمت الأبيض، تكدس الثلج… كأب حقيقي”، وتعود البرازيلية ريجينا ألونزو إلى طفولتها، وإلى المنزل الذي غادرته: “تركتُ المنزل، أضعت قدري… ارتحت على ضفة النهر الشمالية/ حرير البتلات على الأصابع/ أتقدم في الإعصار من دون أن أبلل قدميّ/ بسر المياه/ هرمتُ كي أعود طفلة من جديد”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تلوذ الشاعرة الأميركية ومعلمة الزن إيمي هولويل بـ”بستان الخريف” هروباً من “عالم معلق يومياً خارج المكان والزمان”، وإذ تتأسف لأن لا أحد يقف تحت أشجار السنديان ليتأمل الحياة، تعلن أنها تقوم بجولات عظيمة في أعماق الأرض، ومع ذلك لا تأمن وخز العالم الخارجي. وتحتفي الجزائرية سميرة نقروش بمفردات الطبيعة وهي تستعيد ماضي العائلة: الغابة، التلة، أرض الأسلاف، الشمس، النداوة، الزهور، الشجرة المنعزلة. وهي استعادة مغلفة بالنوستالجيا: “هذه الأغنية غير المقصودة/ التي توقظها الرغبة وحدها/ بقيت مغروسة/ في حنجرتك”.

إن الحضور الطاغي للطبيعة الذي لا يتجلى فحسب في مفرداتها، بل في الاحتفاء بعناصرها والرغبة الدائمة في العودة إليها هو حضور أيضاً للرغبة في الخروج من مضمار الحياة المادية الجديدة وإيقاعها المتسارع، بحثاً عن سكينة مفقودة وهدوء مؤجل، أو على الأقل الرغبة في تطويع مسالك هذه الحياة كي لا تبتعد كثيراً عن منابع ومصابّ الإنسانية، وكي لا تفضي بالكائن الراهن إلى هلاك متعجل.

لقد حاولت النصوص التي ترجمها المغربي محمد العرابي عن اللغة الفرنسية، وهي مكتوبة في الأصل بلغات أخرى، أن تنقل إلينا أو تنقلنا نحن إلى العوالم التي تشكلت فيها هذه الكتابات المثقلة بالهم الإنساني والمتوهجة بحرارة الانشغالات الوجودية الكبرى. ولعل القارئ سيصل مع المترجم، وسط هذا الزخم الأدبي المنحدر من لغات عدة، إلى حقيقة أن ثمة لغة واحدة هي لغة الشعر، وهي اللغة التي زعم المترجم في مقدمة الكتاب أنها قادرة على “أن تلأم جرح البشرية”.

نقلاً عن : اندبندنت عربية