علق وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر ذات مرة قائلاً “قد تكون معاداة الولايات المتحدة أمراً خطراً، إلا أن صداقتها قد تكون مميتة”.

في الواقع، كان هنري كيسنجر مهندس السياسة الخارجية في عهد ريتشارد نيكسون يقر، عبر هذا التصريح، بأن البنتاغون مستعد لإلحاق أذى كبير بأي دولة غير نووية تحاول تحدي إرادة واشنطن. أما الدول الأضعف التي تراهن على القوة الأميركية لتعزيز قدراتها الدفاعية، فقد تجد نفسها في مهب الريح وربما تواجه خطر الزوال بمجرد أن يسحب البيت الأبيض يده منها، ومن ثم، فإن شبح انهيار جنوب فيتنام الشائن، عام 1975، لم يفارق كيسنجر يوماً.

أما المواجهة التلفزيونية الصاخبة ليلة الجمعة الماضي في المكتب البيضاوي بين دونالد ترمب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي فتعد جرس إنذار للأجيال في الغرب بشكل خاص، وإشارة إلى العالم، بما في ذلك الخصوم المحتملون، بأن المصالح الأميركية الأساس لا تضع مصالح حلفائها في الحسبان.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وقد بدت النخب السياسية الأوروبية مذهولة أمام المشادة التي شهدها المكتب البيضاوي، فكثيراً ما اعتبر قادة الاتحاد الأوروبي أن ثروات بلادهم ستمنحهم القدرة على شراء نفوذ كتلتهم واستغلاله لمصلحتهم عالمياً، من دون أن يضطروا إلى الانغماس في دهاليز سياسة السلطة القذرة، ومع ذلك فقد كانت ستة أسابيع من عهد دونالد ترمب الثاني كافية لتبديد هذه الأوهام.

والمسألة لا تقتصر على أن التزاماتهم تجاه أوكرانيا ستصبح خاوية لو قرر ترمب قطع المساعدات الأميركية، بل إن الاعتماد الأمني للاتحاد الأوروبي على الولايات المتحدة أصبح هو أيضاً على المحك.

ومن ثم سيكون على الأميركيين اتخاذ قرار حاسم حول ما إذا كان التخلي عن أوكرانيا وتجاهل الأوروبيين سيسمح لهم بـ”جعل أميركا عظيمة من جديد” – لكن الوقت يداهم الأوروبيين، وليس بإمكانهم التريث للتفكير في ما ينبغي عليهم فعله.

والحقيقة أن الأوروبيين اليوم أمام واقع مرير، إذ يرون أنفسهم عاجزين عن تنفيذ استراتيجية دفاعية بديلة بين ليلة وضحاها – حتى في حال توصلوا غداً إلى اتفاق حول تفاصيلها. وهكذا، فإن أفضل ما يمكن تأمله في المستقبل المنظور هو ألا يكتفي كير ستارمر بصياغة اتفاق لتغطية نقاط ضعفهم، بل أن يتوصل إلى خطة استراتيجية فعلية ومتفق عليها، تتضمن التزامات ملموسة وقابلة للتنفيذ.

وفي هذا السياق، يجدر التذكير بأن باراك أوباما، الرئيس الأميركي الذي يختلف بشكل جذري عن ترمب، كان يشعر بالإحباط حيال حلفائه الأوروبيين الذين كانوا يكررون التزامهم زيادة إنفاقهم على الدفاع، ليعودوا ويتراجعوا لاحقاً عن هذا الالتزام.

وعلى رغم تصريحات قادة الاتحاد الأوروبي بأنهم سيواصلون تقديم المساعدات لأوكرانيا بغض النظر عما يفعله ترمب، أظهرت أرقام حديثة أن الأوروبيين صرفوا على مشتريات الطاقة من روسيا 3 مليارات دولار أكثر مما خصصوه للمساعدات المقدمة لزيلينسكي.

أما الأهم، فهو أن جزءاً كبيراً من المساعدات العسكرية المرسلة من الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة إلى أوكرانيا يتألف في الواقع من أسلحة وذخائر وآليات أميركية الصنع – مع أن ثمنها يسدد من جيوب دافعي الضرائب الأوروبيين، بغض النظر عن مزاعم ترمب. ومع ذلك فإن قدرة “أوروبا” على مواصلة جهود الحرب الأوكرانية في غياب مشاركة الولايات المتحدة، وعلى تحديد مسار الأحداث المستقبلية في القارة، ستتطلب تقديم تضحيات كبيرة هنا في الغرب.

ولا شك في أن خفض كير ستارمر موازنة المساعدات [الخارجية] سيعتبر أمراً بسيطاً بالمقارنة مع الزيادات الضريبية المتوقعة، ومع المبالغ الإضافية التي سيتعين اقتراضها لإعادة تسليح أنفسنا على جناح السرعة، مع العمل، في موازاة ذلك، على زيادة حجم المساعدات المقدمة لأوكرانيا.

وفي الأفق الأوكراني، تلوح أعراض انقسامات سياسية مثيرة للقلق. فمن جهة، قدم رئيس بلدية كييف، فيتالي كليتشكو، دعمه المتحفظ لزيلينسكي عقب المشادة التي حصلت في البيت الأبيض. ومن جهة أخرى أدرك أصحاب المواقف العسكرية المتشددة في أوكرانيا، ومن بينهم نائب أوديسا أولكسي غونتشارينكو، أن تصريحات الاتحاد الأوروبي ليست كفيلة بتدمير دبابات روسيا، وأن زيلينسكي أخطأ في تقدير وطأة تعليقاته في البيت الأبيض.

إن المأساة التي تواجه زيلينسكي هي أن انتصار روسيا قد يحدد مصيره، ولكن حتى من دون خسارته أمام بوتين، فإن الرئيس الأوكراني قد يتعرض للطعن في الظهر حرفياً.

وفي بداية عهد زيلينسكي عام 2019، هدد المتشددون العسكريون بالانقلاب عليه في حال أبرم اتفاقاً مع بوتين لتهدئة الحرب غير المعلنة في جنوب شرقي أوكرانيا، لذا فقد يحاولون اليوم إطاحته بسبب معارضته ترمب ورفضه التعامل مع بوتين وفق الشروط الأميركية. ومن ثم، فإن هذا المزيج من التطرف والانتهازية قد يتسبب بحرب أهلية داخلية، على غرار تلك التي أدت إلى انهيار الجمهورية الإسبانية عام 1939، وسط تقاتل مختلف الفصائل في ما بينها، بدلاً من التصدي لفرانكو.

ومن ثم، فإن زيلينسكي رفض الخروج من كييف عندما شن بوتين غزوه منذ ثلاثة أعوام. ولكن، لا بد من أن تتحسب بريطانيا والدول الأوروبية الحليفة لأسوأ السيناريوهات، وأن تضع خطة طوارئ لإنقاذه من انقلاب داخلي أو من سيطرة روسية محتملة.

ختاماً، لا بد من الإشارة إلى أن الولايات المتحدة قوية بما يكفي للإبقاء على صدقيتها حتى لو تخلت عن حلفائها، وهو ما حصل في الماضي. أما بريطانيا وحلفاؤها الأوروبيون، فسيكون عليهم دفع الثمن اللازم لضمان صدقيتهم وسط الفوضى العالمية الجديدة. ومن ثم، فإن وقوفنا إلى جانب حلفائنا القادة، حتى لو تعذر علينا إنقاذ بلدانهم – كما فعل ونستون تشرشل مع الحكومات الأوروبية في المنفى بعد عام 1940 – يعتبر خطوة تمهيدية لحصولنا على فرصة، في المستقبل البعيد، لخلق عالم يساندنا ويخدم مصالحنا، إذا ما بذلنا الجهد اللازم لوقف الفساد والانهيار.

مارك ألموند هو مدير “معهد أبحاث الأزمات” في جامعة “أكسفورد”

نقلاً عن : اندبندنت عربية