واجه الأوكرانيون وابلاً آخر من الصواريخ والمسيرات الحربية الروسية في يوم عيد الميلاد، مما يدل على أن حرب فلاديمير بوتين مستمرة بغض النظر عن مواعيد الأعياد.

قد تظن – كمؤمن روسي أرثوذكسي متحمس – أن بوتين يرجئ موسم النيات الحسنة ليوم السابع من يناير (كانون الثاني) 2025. على عكس أوكرانيا (التي تخلت عن التقويم الأرثوذكسي القديم واعتمدت الـ25 من ديسمبر (كانون الأول) عيداً لها، فإن روسيا بوتين متمسكة بالتقاليد الروسية الإمبراطورية القديمة.

لكن تغيير تاريخ عيد الميلاد لم يكن إعادة اصطفاف لاهوتي مع الغرب الكاثوليكي، بقدر ما كان إشارة جيوسياسية إلى تصميم كييف على الاندماج مع الناتو والاتحاد الأوروبي. وهذا بالطبع مثار غضب بالنسبة إلى بوتين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وخلف إصرار الكرملين على القتال من أجل إنقاذ “الروح” الروسية لأوكرانيا التي تنجرف نحو الغرب، هناك فوائد عملية بحتة للاستيلاء على الأراضي التي تشهد اليوم أسوأ المعارك.

حول بوكروفسك، في دونباس، توجد رواسب ضخمة من الليثيوم. طالما استخدمت روسيا مواردها الطبيعية الهائلة لدعم طموحات الكرملين الجيوسياسية. وإذا كان النفط في طريقه إلى الاندثار، فإن بوتين يعتزم الهيمنة على المادة الخام لبطاريات السيارات الكهربائية.

وقد أكد السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام للأميركيين المتذبذبين في شأن تمويل دفاعات أوكرانيا أن البلاد لديها ما قيمته تريليوني دولار من ثروات الطاقة المستقبلية.

وسيكون وعد دونالد ترمب بالتوسط في السلام بين كييف والكرملين بمثابة المشهد الخلفي لصراع السيطرة على الليثيوم والمعادن النادرة.

مطالبات ترمب الأخيرة لأراض في الأميركتين غالباً ما يجري التقليل منها باعتبارها علامة على غرابة أطواره.

فإعلان ترمب أنه ينوي إعادة اسم ويليام ماكينلي إلى أعلى جبل في أميركا، الذي يسمى الآن دينالي – أي “العظيم” – في ألاسكا، قوبل بالرفض باعتباره مجرد ازدراء من طينة تيار “ماغا” لتراث الأميركيين الأصليين.

ولكن على رغم أن ماكينلي قد يكون منسياً اليوم، فإن الرئيس الخامس والعشرين هو أحد المفضلين لدى ترمب. لقد كان مؤيداً كبيراً للتعريفات الجمركية كما هو حال ترمب – ولكن، أكثر من ذلك، كان أول رئيس يجعل أميركا قوة عالمية.

من كوبا وبورتوريكو إلى الفيليبين، يتذكر الأميركيون ثالث رئيس يغتال باعتباره مهندس التوسع الأميركي في الخارج في حرب 1898 التي دمرت ما تبقى من الإمبراطورية الإسبانية. وبعد مقتله، مضى تيدي روزفلت، الذي خلف ماكينلي في رئاسة الولايات المتحدة، والذي حارب في كوبا، في “سرقة” قناة بنما “بعدل وإنصاف” على حد تعبير رونالد ريغان الخالد.

بالنسبة لنا، نحن الذين نعيش في بلد أصبحت فيه أزمة السويس تاريخاً قديماً – ونعيش في بلد متلهف لإتمام للتخلص من عباءة الإمبراطورية من خلال دفع المال لجزر المالديف لتولي مسؤولية جزر تشاغوس عنا – فإن تخيل استعادة قناة بنما أو شراء غرينلاند يبدو وكأنه ضرب من السخرية.

ولكن بالنسبة إلى الأميركيين من أنصار “ماغا”، فإن إلغاء “بيع” جيمي كارتر القناة للبنميين وضم غرينلاند لتكون مثل بورتوريكو باردة كالجليد مع وفرة من المعادن النادرة يبدو منطقياً تماماً.

كانت الصين تراوغ بفكرة تطوير بديل لقناة بنما عبر نيكاراغوا، التي يعاني نظام ساندنيستاس القديم من علاقات سيئة مع الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة.

ولكن في الوقت نفسه ومن خلال مزيج من الشحن التجاري الذي يستخدم القناة (وشركات الإمداد والهندسة التابعة لها التي تساعد في البنية التحتية)، بدأت بكين في لعب دور من النوع الذي يثير قلق مريدي مبدأ مونرو [أي تدخل في الشؤون السياسية للأميركيتين من قبل قوى أجنبية هو عمل عدائي محتمل ضد الولايات المتحدة] في واشنطن.

وكما هي الحال في كثير من الأحيان مع أفكار ترمب الأكثر غرابة، ومزاعمه الاستفزازية، هناك إجماع في الولايات المتحدة على هذه الأفكار أكثر مما يطيب للأوروبيين الاعتراف به.

فحسابات ترمب المعاملاتية للربح والخسارة في الشؤون الدولية تختلف تماماً عن حسابات كير ستارمر والاتحاد الأوروبي أيضاً.

فمعظم الأوروبيين في حيرة من أمرهم حول السبب الذي قد يدفع أي شخص إلى الرغبة في غرينلاند مثلما كان ماوتسي تونغ حائراً قبل 50 عاماً، عندما سأل هنري كيسنجر عن حجم غرينلاند وما إذا كانت تمتلك أي موارد أخرى غير الجليد والثلوج (لم يكن كيسنجر يعتقد ذلك).

واليوم، تعمل الشركات الصينية على تطوير استخراج المعادن النادرة التي يبدو أنها متوافرة بكثرة هناك. وقد تزداد إمكانية الوصول إليها مع انحسار الصفائح الجليدية. كما أن انكماش الغطاء الجليدي في القطب الشمالي يجعل حلم الممر التجاري الشمالي الغربي عبر قبة العالم – من مراكز القوة في آسيا مثل الصين واليابان إلى أوروبا – أكثر واقعية.

تستثمر حكومة بوتين في كل من كاسحات الجليد والموانئ على طول الساحل الشمالي الشاسع لروسيا لجعل الطريق من المقومات الروسية.

وتثير فكرة هيمنة روسيا والصين على القطب الشمالي قلق الاستراتيجيين الكبار في واشنطن. فقد هيمنت أميركا وأسطولها البحري على الممرات البحرية منذ عام 1945، كما قامت بحماية التجارة العالمية والسيطرة عليها.

والآن، يهدد التحالف الصيني الروسي بإنهاء هذا الاحتكار – ولكن أيضاً بالسيطرة على الموارد المعدنية الضخمة تحت القطب الشمالي وغرينلاند.

كان النشاط الرئيس لقيادة القوات الجوية الأميركية الشمالية – “نوراد” Norad – مراقبة مزلجة سانتا كلوز. ليس بعد الآن.

فكما أن المعارك الوحشية في جنوب شرقي أوكرانيا تتعلق بالسيطرة على الخامات النادرة، بقدر ما تتعلق بكل الخطابات الرنانة حول الهوية والسيادة الوطنية – كذلك فإن محاولة ترمب الظاهرية البغيضة للسيطرة على غرينلاند تتعلق بالموارد الحقيقية والقوة.

قد يكون الغرق الغامض لسفينة شحن روسية في البحر الأبيض المتوسط كانت تنقل رافعات ومعدات أحواض بناء السفن إلى الشرق الأقصى جزءاً من حرب سرية غامضة لتثبيت واقع على الأرض على ساحل القطب الشمالي.

وتدرك الاستخبارات الأوكرانية أن مهارتها في زعزعة قوات بوتين وكذلك حلفاؤه – مثل الأسد في سوريا – تجعل من الدولة المحاصرة أكثر قيمة بالنسبة إلى واشنطن من دولة تكتفي بالدفاع عن نفسها في الداخل.

ربما تساعد مصالح ترمب السياسية في جلوس بوتين إلى طاولة السلام حول أوكرانيا، ولكن من المرجح أن تزعزع استقرار العالم الأوسع – وبخاصة في الأميركتين.

إذا كان طموح بوتين في جعل روسيا عظيمة مرة أخرى في أوروبا الشرقية ضربة قوية للتراخي الأوروبي، فإن تصميم ترمب الواضح في ولايته الثانية – على عدم إضاعة الوقت في جعل أميركا الأولى عالمياً مرة أخرى – قد يربك حلفاءه الأوروبيين بقدر ما يزعج خصومه الدوليين.

نقلاً عن : اندبندنت عربية