في أعقاب الغزو الوحشي الذي شنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا، كرر القادة الغربيون باستمرار أنهم سيدعمون كييف “مهما استغرق الأمر”، أولاً عندما شنت أوكرانيا هجمات مضادة، ثم عندما تصاعدت الهجمات الروسية عليها.
إلا أنه مع الخسائر البشرية الهائلة التي تكبدتها أوكرانيا جراء الصراع المستمر، والمصاعب التي واجهتها أوروبا في تلبية الحاجات المالية والعسكرية لكييف، بدأت تلك التعهدات القوية تتآكل وتستنزف إلى أقصى الحدود، حتى قبل أن يصبح شبح عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض واقعاً كابوسياً آخر. ومع ذلك، أثبت فولوديمير زيلينسكي – الذي لم يكن عبثاً أنه كان راقصاً ماهراً – براعة وحنكة أكثر من نظرائه الأوروبيين، وهي مهارة تعلم الروس كلفتها العالية من كثب.
فتصريحات زيلينسكي الودية تجاه دونالد ترمب والمجاملة له تتجاوز كونها مجرد محاولة لكسب ود الرئيس الأميركي الجديد. فخطاب ترمب عن “السلام من خلال القوة” يمنح الرئيس الأوكراني فرصة تقديم نفسه كقائد استطاع أن يأخذ أوكرانيا – أو جزءاً كبيراً منها – إلى برّ الأمان تحت مظلة أميركية. إن إقامة علاقة جيدة مع ترمب قد تمنح أوكرانيا، وزيلينسكي نفسه، الوقت اللازم لإعادة بناء الاقتصاد، بينما يراهن زيلينسكي على احتمال أن تسوء الأوضاع بالنسبة إلى بوتين في الداخل الروسي أو على المستوى الدولي.
ترمب من جهته، يسعى إلى تحقيق إنجاز دبلوماسي مبكر من خلال إعلان اتفاق سلام في اليوم الأول لرئاسته، وهو ما يمكن لزيلينسكي استغلاله لتحقيق صفقة أفضل لأوكرانيا مقارنة بالدعم المستمر من بايدن لحرب الاستنزاف. إلا أن ذلك قد يتطلب التخلي عن قانون كييف الذي حظر إجراء مفاوضات مع الكرملين في ظل بقاء بوتين في السلطة (هذا الإجراء كانت قد سنته أوكرانيا في أعقاب ضم روسيا شبه جزيرة القرم إليها في عام 2014 والصراع المستمر في شرق أوكرانيا). إلا أن زيلينسكي، كما كشفت مقابلته الأخيرة مع قناة “سكاي نيوز”، بدا من خلال الوعد بالتوصل إلى اتفاق سلام، أنه مصمم على ضمان الحصول على دعم أميركي بأي وسيلة، حتى وإن كان الثمن الإبقاء على شبه جزيرة القرم ومنطقة دونباس تحت السيطرة الروسية.
في المقابل، يمكن أن يشكل “حلف شمال الأطلسي” “ناتو” الضمانة الأقوى لأمن أوكرانيا ضد أي تجدد محتمل للنشاط العسكري الروسي. وعلى رغم أن هذا الخيار لا يعادل حصول كييف على عضوية كاملة في الحلف الغربي – وهو الخيار الذي قام بوتين بغزو جارته لمنع حصوله – فإنه يظل أفضل من أن تبقى أوكرانيا منطقة عازلة “محايدة”. وعلى رغم أن الكرملين قد يقاوم هذا الترتيب بشدة، فإنه قد يوافق على نشر “قوة دولية” تشرف على مراقبة خط وقف إطلاق النار، بما يضمن الحيلولة دون أي تجدد غير متوقع للحرب.
أما أولئك الذين يعارضون بشدة أي صورة من صور التسوية مع موسكو ويرون أنها بمثابة “بيع أوكرانيا لروسيا”، فيجب أن يقروا بأن الرفض المطلق للدبلوماسية، قد ألحق أضراراً أكبر من تلك التي سببها بوتين نفسه لبلادهم. وفيما يخشى المتشددون الأوكرانيون أن يؤدي مسار المفاوضات إلى تنازلات غير مرغوب فيها، يتعين على بوتين أن يدرك أيضاً أن الانخراط في محادثات سلام مع أوكرانيا – سواء بصورة مباشرة أو عبر وساطة دونالد ترمب – من شأنه أن يحيي الأمل في السلام بين الروس أنفسهم. فكثير من مواطنيه الذين لم يعارضوا الحرب علناً بعد، وقد يقبلون باتفاق سلام، ربما ينقلبون على الكرملين إذا ما تبين لهم أنه هو الجهة التي تعوق التوصل إلى حل، وليس أوكرانيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الواقع أن كلا الطرفين يتخوف من أن يستغل الجانب الآخر وقف إطلاق النار أو حتى أي معاهدة سلام رسمية كتكتيك موقت لمجرد كسب الوقت وإعادة التسلح استعداداً لجولة قتال جديدة. وهذا بالضبط ما أظهرته تجربة “عملية مينسك” Minsk Process بين العامين 2015 و2022 (مفاوضات سعت إلى إيجاد حل للصراع بين أوكرانيا وانفصاليين في شرق البلاد مدعومين من روسيا، وأسفرت عن اتفاقيتي “مينسك الأولى” و”مينسك الثانية”). فالمستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل كشفت في مذكراتها الجديدة التي تحدثت عنها أخيراً في سلسلة من المقابلات، أن ألمانيا وحلفاءها الغربيين اعتبروا تلك الاتفاقات بمثابة وسيلة لشراء الوقت، بهدف تمكين كييف من الاستعداد بصورة فضلى لجولات قتال مستقبلية. وعلى نحو مماثل، من يستطيع إنكار أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رأى في “عملية مينسك” فرصة لتخفيف التوتر مع الغرب، خصوصاً لجهة حماية المصالح الاقتصادية لموسكو، من خلال الاتفاقات المربحة لتصدير الطاقة إلى ألمانيا؟
قد يبدو الأمر غريباً للوهلة الأولى، إلا أن بوتين ربما يفضل وقفاً للنار يسمح بعودة الديمقراطية في أوكرانيا إلى مسارها الطبيعي. ففي العام الماضي، قرر الرئيس فولوديمير زيلينسكي تعليق الانتخابات الرئاسية طوال فترة الحرب، مبرراً ذلك باحتلال روسيا شبه جزيرة القرم، وانعدام الأمن الناتج من الغارات الجوية الروسية، إضافة إلى تداعيات النزوح الواسع للاجئين.
وفي حال توقف القتال، قد يتعرض الرئيس الأوكراني لضغوط لإجراء انتخابات، في الأقل في المناطق التي تزال تحت سيطرة كييف، وأيضاً بين ملايين اللاجئين في الغرب. وعلى رغم أن هذه الانتخابات قد تعزز شرعيته الديمقراطية وتقوي موقفه في المفاوضات مع الكرملين، فإنها قد تكشف عن انقسامات عميقة داخل المجتمع الأوكراني.
يشار هنا إلى أن الرئيس الأوكراني السابق بيترو بوروشينكو كان قد طرح نفسه في عام 2019 على أنه المدافع القوي عن القضية الوطنية الأوكرانية، رافضاً أي تنازلات أمام المعتدي الروسي. وعلى رغم أن هذا الموقف كلفه خسارة الانتخابات في ذلك العام، فإن خوض البلاد ما يقارب 1000 يوم من المعارك الوحشية، أسهم في توسيع قاعدة الدعم الشعبي لمواصلة القتال، بغض النظر عن مدى صعوبة تحقيق النصر. في المقابل، قد لا يزال عدد من أولئك الذين صوتوا بغالبية ساحقة قبل نحو خمسة أعوام لمصلحة زيلينسكي كمرشح “السلام”، يعتقدون أن من الأفضل التوصل إلى سلام حتى وإن كان سيئاً مع روسيا، إذا ما أدى إلى وقف نزف الدم الأوكراني.
فإن تحقيق السلام في مكان قد يعني ببساطة نقل الصراع إلى جبهة قريبة أخرى. وفي وقت تتصاعد فيه التوترات في جورجيا القريبة وبيلاروس المجاورة، أصبح الخطر يلوح في الأفق. في الغرب، اعتدنا على اعتبار السلام هو القاعدة لعقود طويلة، إذ كانت الصراعات التي تشارك فيها قواتنا تجري بعيداً من حدودنا. لكن منذ عام 2022، بدأنا نتأقلم ببطء – مع نظرات حنين دائمة إلى الماضي الأكثر استقراراً، مع واقع العيش على حافة بركان. ربما يهدأ البركان الأوكراني لبعض الوقت، حتى وإن تدفقت الحمم إلى أماكن أخرى.
نقلاً عن : اندبندنت عربية