خلال عام 1962، وصل جهاز الاستخبارات البريطاني “أم آي 5” MI5 معلومة سرية من منشق عن الاستخبارات الروسية “كي جي بي” KGB، دفعته إلى زرع أجهزة تنصت في شقة جون فاسال الموظف في وزارة البحرية البريطانية، الذي كان قادراً على الوصول إلى معلومات حكومية حساسة أثناء عمله في السفارة البريطانية لدى موسكو. ووُضع فاسال قيد المراقبة المكثفة وأفضى تفتيش شقته في ساحة دولفين قرب البرلمان عن اكتشاف كاميرتين وفيلم كاميرا تالف تعرض للضوء، مخبأة في درج مخفي.

اعتُقل فاسال خلال اليوم نفسه. واعترف وهو يلهث ذعراً بتسريب أسرار إلى جهاز “كي جي بي”. وعندها هرع السير روجر هوليس الذي كان على رأس جهاز “أم آي 5” في ذلك الوقت، فرحاً إلى مقر رئيس الوزراء حينها هارولد ماكميلان كي يزف له خبر اعتقال الجاسوس. وقال له بصوت مليء بحماسة غير معهودة “لقد اعتقلت ذلك الرجل فاسال… أصبح بقبضتي!”. لكن رئيس الوزراء لم يكن سعيداً.

وقال بغضب “لست مسروراً على الإطلاق. عندما يصطاد مشرف الأراضي ثعلباً، فهو لا يعلقه أمام غرفة جلوس المسؤول عن صيد الثعالب. بل يدفنه بعيداً من الأنظار. لا يمكنك ببساطة قتل جاسوس كما كنت تفعل خلال الحرب. ومن الأفضل اكتشافه ثم السيطرة عليه، لكن لا تمسكه أبداً… لا شك أن الموضوع سيثير جدالاً حاداً في الصحافة وفي مجلس العموم، وربما تسقط الحكومة. لماذا اعتقلته بحق السماء؟”.

لكن الأوان كان فات. فقد اعترف فاسال بذنبه، ودين بموجب قانون أسرار الدولة وحكم عليه بالسجن 18 عاماً.

يتجلى ازدراء ماكميلان الأرستقراطي ولامبالاته الفوقية تجاه تسلل عملاء الاستخبارات السوفياتية إلى الدولة البريطانية في الملفات الـ21 التابعة لجهاز”أم آي 5″، والتي رفع عنها الأرشيف الوطني السرية أخيراً. وتكشف الوثائق عن تفاصيل جديدة مثيرة حول العميل المزدوج الشهير داخل “أم آي 6” كيم فيلبي وخياناته.

وأكثر التفاصيل إثارة كان نص محادثة جرت عام 1963 في بيروت، بين فيلبي وأقرب أصدقائه نيكولاس إليوت الذي كلف بمهمة إقناع زميله العميل في جهاز “أم آي 6” بالاعتراف بعمله لمصلحة السوفيات.

واعترف فيلبي بأنه خان كونستانتين فولكوف ضابط الاستخبارات السوفياتية الذي حاول الانشقاق والفرار إلى الغرب، من طريق تقديم تفاصيل حول تسعة مخبرين سوفيات يعملون داخل جهاز “أم آي 6” ووزارة الخارجية. وكانت المعلومات التي يملكها في غاية الأهمية وقادرة على تغيير مسار الحرب الباردة. لكن الأسرار التي يعرفها كانت لتكشف أمر تجسس فيلبي لمصلحة السوفيات، من ثم وشى عميل جهاز “أم آي 6” عنه للـ”كي جي بي”، مما أسفر عن اختطاف فولكوف وأفراد أسرته في تركيا وتخديرهم ووضعهم على حمالات إسعاف المرضى ولفوا بالضمادات وأعيدوا إلى موسكو، حيث أعدموا.

حين سئل فيلبي عن كل من خانهم وكشف أمرهم للاتحاد السوفياتي قدم رداً في قمة المراوغة، إذ قال “لا يسعني أن أتذكر أي شيء محدد”، بينما في الواقع اعتقل مئات العملاء البريطانيين الذين كانوا يخاطرون بحياتهم عبر العمل داخل دول الاتحاد السوفياتي ولا سيما في ألبانيا عام 1949، وقتلوا بسبب المعلومات التي قدمها فيلبي لمشغليه في “كي جي بي”.

ولدى سؤاله عن علاقته بالـ”كي جي بي”، زعم فيلبي أنه توقف عن العمل لمصلحة جهاز الاستخبارات السوفياتي عام 1946، وهذا كذب سافر. ثم قال إنه قليلاً ما يتواصل مع زميله العميل السوفياتي دونالد ماكلين منذ 1934، وهذا أيضاً كذب، إذ إنه قبل هذا اللقاء كان بحوزة جهاز “أم آي 6” بالفعل دليل على ذنب فيلبي بعدما كشفت صديقة سابقة له أنه حاول تجنيدها عام 1934.

لكن الصادم أن إليوت صديقه المقرب وزميله العميل في “أم آي 6” عرض عليه صفقة، وهي الحصانة من الملاحقة القضائية مقابل اعترافه الكامل. ورأى فيلبي في هذا العرض خياراً “بين الانتحار والمحاكمة” فرفضه. وبعد أيام قليلة، فر إلى موسكو فيما يعتقد بعض المؤرخين أنه سمح له بالإفلات لتفادي محاكمة محرجة، تماشياً مع رأي ماكميلان بأن الأفضل هو “التحكم بجاسوس لكن عدم اعتقاله أبداً”.

 

ومن ناحيته، حصل زميل فيلبي العميل السوفياتي أنتوني بلانت الذي كان مشرفاً على صور الملكة على معاملة خاصة كذلك. وكان الرجل يخون بلاده منذ ثلاثينيات القرن الماضي، لكن الوثائق التي رفعت عنها السرية تكشف عن أنه اعترف بذنبه داخل شقته الكائنة فوق معهد كورتولد للفنون عام 1964.

في البداية، أنكر بلانت كل شيء أثناء استجوابه من قبل “أم آي 5” ووصفها بأنها “محض خيال”. لكن عندما عرضت عليه الحصانة من الملاحقة القانونية غير روايته فجأة، وبعد فترة صمت قال “أمهلوني خمس دقائق ريثما أتصارع مع ضميري”.

وفيما توالت اعترافات بلانت زادت علامات توتره، إذ بدأ خده الأيمن بالارتعاش باستمرار. وتدفقت الأسرار والخيانة من هذا المؤرخ الفني وهو يكشف عن خططه السرية مع جواسيس كامبريدج لخيانة بلده، ومع ذلك لم يُلاحق قضائياً وحصل لاحقاً على لقب فارس، والمثير للدهشة أنه سمح له بالاستمرار في مسؤولية العناية والصيانة لمجموعة الصور الملكية المملوكة للملك والموجودة في قصر باكنغهام، وهو قرار استند إلى الفكرة الغامضة والمشكوك فيها بأن “المصلحة العامة الأكبر تكمن في عدم ظهور أي تغيير”.

لكن ربما تكون أكثر الاكتشافات صدمة في الملفات التي أفرج عنها حديثاً، أن الملكة لم تخبر لأعوام عدة طويلة بأن بلانت اعترف بكونه عميلاً مزدوجاً لمصلحة السوفيات.

وأفاد السكرتير الخاص للملكة مارتن شارترس “تعاملت (الملكة) مع المسألة بهدوء ولم تتفاجأ. فقد تذكرت أنه كان موضع شبهة في أعقاب قضية بيرجيس/ماكلين”. ولم يكشف عن هوية بلانت في البرلمان حتى عام 1979 على يد مارغريت تاتشر، لكن ذلك تم فقط بعد أن اكتشف مؤرخ خيانته وكان يخطط لنشر التفاصيل.

ما يظهر من الملفات الجديدة هو الطريقة التي عمل بها جهاز الدولة السري بمعيارين مزدوجين. إذ فيما كان ولاؤها المعلن للحرية والديمقراطية، تكشف هذه الوثائق أن ولاء ضباط “أم آي 6” كان لجهازهم الخاص وزملائهم من العملاء والتاج، إنما ليس لحكم القانون أو للبرلمان أبداً.

كان من الممكن اكتشاف الفساد الأخلاقي والسياسي الذي وقع فيه كل من فيلبي وبلانت وتشخصيه عند بداية تجنيدهما من قبل “كي جي بي”، لكن خلال تلك الأيام كان التجنيد يقوم على أسس الصداقة والطبقة الاجتماعية. ويتذكر العميل السابق في “أم آي 6” فيليب جونز تلك الحقبة فيقول “كان جهاز (الاستخبارات) السري أقرب إلى ناد حصري، أو رابطة إخوة”.

وأضاف “يُجند أعضاؤه بدعوة من أحد الأعضاء الحاليين. وارتاد عدد كبير من بينهم مدارس إيتون وباليو وساندهيرست ودارتموث. أما الأموال التي خُصصت للعمليات السرية من قبل البرلمان كانت تستخدم في ظل ظروف لا تخضع لأي تدقيق، وكانت الأساليب والممارسات غير قابلة للمحاسبة أمام أية وزارة حكومية مستقلة”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذا هو الإرث الذي تركه فيلبي وبلانت. طغى الولاء للصداقة والنادي والطبقة على الجرائم التي ارتكباها في حق بلادهما. وأسهم سحر فيلبي وسلاسته في التعامل مع الآخرين والمودة والجاذبية التي بثها، إضافة إلى أسلوبه الاجتماعي الأنيس والمريح في تحويله إلى عميل مزدوج فعال جداً. وعلى مدار عقود لم يكن زملاؤه العملاء في “أم آي 6” قادرين بكل بساطة على التصديق أن رجلاً نبيلاً من خلفيته كان خائناً، وظلوا يدافعون عنه حتى النهاية تقريباً.  

وحتى بعد انكشاف أمره واعترافه وقضائه آخر 25 عاماً من عمره وحيداً ومدمناً على الكحول داخل منفاه في موسكو، لم يقو أصدقاء فيلبي في مؤسسة الحكم على إدانته.

وجاء في مقدمة كتاب مذكرات فيلبي، “حربي الصامتة” My Silent War التي كتبها غراهام غرين، وهو أيضاً عميل سابق في جهاز “أم آي 6″، “خان (فيلبي) بلاده. نعم، ربما فعل ذلك. لكن من منا لم يرتكب خيانة بحق شيء أو شخص أهم من بلد؟ رأى فيلبي أنه يعمل لمصلحة تحول مستقبلي ستستفيد منه بلاده”.

تم التعبير عن هذه الرؤية التي ترى أن الصداقة تفوق الوطنية بصورة أكثر وضوحاً من قبل إي. إم. فورستر الذي كتب “إذا كان علي أن أختار بين خيانة وطني وخيانة صديقي، آمل أن أمتلك الشجاعة لخيانة وطني”.

كان فيلبي وبلانت، اللذان قد يصح القول إنهما أنجح العملاء المزدوجين في تاريخ الجاسوسية وأكثرهم فعالية، محظوظين بامتلاك هؤلاء الأصدقاء النافذين. وقضى فيلبي سنواته الأخيرة براحة في منفاه في موسكو، وإن طبع الإحباط والكحول أيامه، فيما واصل بلانت على رغم خيانته مهمة المؤرخ الفني المحترم للتاج حتى وفاته عام 1983. لو اعترفا وأدينا باعتبارهما خائنين في الاتحاد السوفياتي، كانا ليلقيا مصيراً أكثر وحشية من ذلك، الإعدام الفوري.

نقلاً عن : اندبندنت عربية