قوبل الانهيار السريع لنظام الأسد في البداية بحالة من النشوة في شوارع دمشق – بل بالدهشة، إذ لم يصدق كثيرون أن النظام الذي قمع احتجاجات شعبه بوحشية قد تم إسقاطه أخيراً.
لكن بعد مرور أقل من شهرين، عاد القلق ليطغى على التفاؤل، وتزايدت مشاعر القلق بين السوريين نتيجة تزايد الفوضى، كما سادت شكوكٌ عميقة في ما يتعلق بالإيديولوجية الحقيقية التي تعتنقها الحكومة الجديدة التي يقودها أحمد الشرع – القائد السابق لجماعة “هيئة تحرير الشام” الإسلامية – الذي تم تعيينه رئيساً انتقالياً للبلاد الأسبوع الماضي.
هذه التغييرات جعلت الكثير من الناس يشعرون بخوفٍ عميق، ولا سيما الأقليات الدينية الأبرز في سوريا.
أحد هؤلاء وهو كريكور ألتونيان – مدير “فندق الشرق”Oriental Hotel الصغير ذي الطابع المميز، الذي يقع في أحد أزقة الحي المسيحي في البلدة القديمة من المدينة – قال إنه لم يتم إطلاق سراح المعتقلين السياسيين فحسب، بل تم إخلاء جميع السجون من المجرمين الخطرين، واللصوص، والقتلة، والمغتصبين، وهؤلاء جميعهم منتشرون في الشوارع الآن. السجون فارغة”.
ويضيف: “مع انهيار النظام نشأ فراغٌ في السلطة، لا توجد قوة شرطة تُذكر، المرور كارثي، والجريمة في ازدياد، وسيادة القانون باتت على المحك”.
ألتونيان وهو مسيحيٌ أرمني، يعبر عن قلق يتشاركه كثيرون من الأقليات الدينية بشأن أيديولوجية الحكام الجدد في دمشق. ويشرح: “لطالما كانت المدينة معتدلة، يُسمح بتناول الكحول في جميع المجتمعات، فيما النساء المسلمات لم يكن مُلزمات بارتداء الحجاب… هؤلاء الرجال ينتمون إلى جبهة النصرة، التي تربطها علاقات وثيقة بالقاعدة وداعش. نخشى أن يحكموا بأسلوب متطرف”.
يُشار إلى أنه في هذه المدينة التي تُعد من أقدم المدن المأهولة في التاريخ، تعايشت فيها مجتمعاتٌ مسلمة متنوعة – شيعية وسنية ودرزية وعلوية وإسماعيلية – جنباً إلى جنب مع مذاهب مسيحية عدة. وفي شارع “باب شرقي” المزدحم والنابض بالحياة، تقوم الشقيقتان فاطمة وناديا صالح بتقييم الأضرار التي لحقت بمتجرهما للمجوهرات والبصريات، الذي يملكونه على أطراف السوق، والذي تم نهبه.
وتشير فاطمة إلى بعض الرفوف الفارغة قائلة: “انظروا هنا، لقد كسروا القفل. حاولنا تقديم بلاغ، لكن الشرطة لم تعد موجودة. نحن نشعر بخوفٍ شديد. أصبح السفر خارج دمشق مغامرةً محفوفةً بالمخاطر، فالسرقات وأعمال العنف في تزايدٍ مستمر، ويبدو أن الأمور تسير في الاتجاه الخاطئ”.
تنتمي فاطمة وناديا إلى الطائفة العلوية المسلمة، وهي أقليةٌ تشكل نحو 10 في المئة من سكان سوريا. وتضيف فاطمة بقلق: ” نسمع قصصاً مقلقة. لقد بدأوا في فرض فصل الرجال عن النساء في الحافلات في حمص وحماة. نحن لا نريد أن نُجبر على ارتداء الحجاب أو أن تقيد حرياتنا”.
هذه المرأة التي لا تنوي المخاطرة بالبقاء، توضح قائلة: “أحتفظ بجواز سفري دائماً بالقرب مني، وحقائبي جاهزة. أنا مستعدةٌ للمغادرة في أي لحظة. نحن نخطط للسفر إلى دولة الإمارات، وجميع الأشخاص الذين أعرفهم – من مسيحيين وعلويين، ودروز – يفكرون أيضاً في الرحيل”.
أما شقيقتها ناديا، وهي علوية أيضاً لكن صديقها ينتمي إلى الطائفة المسيحية. وتعرب فاطمة عن قلقها في شأن ما قد يحمله المستقبل لهما، وتقول: “لا نعتقد أن علاقتهما ستحظى بقبولٍ في ظل النظام الجديد، خصوصاً بسبب اختلاف ديانتيهما”.
توجد في سوريا غالبيةٌ سنية، إلا أن الأقليات المسلمة الأخرى والمسيحية تمثل نسبةً تتفاوت ما بين 15 و25 في المئة من مجموع السكان. وقد شهدت أعداد المسيحيين تراجعاً حاداً منذ العام 2011، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى الحرب الأهلية وما تبعتها من موجات هجرةٍ جماعية، بحيث انخفضت نسبتهم من نحو 10 في المئة إلى ما يُقدر بنحو 2 في المئة فقط وفقاً لبعض التقديرات.
وفي محاولةٍ لطمأنة الأقليات المتبقية، قام [الرئيس السوري] أحمد الشرع، بخطوةٍ رمزية تمثلت في لقاء القادة المسيحيين في العاصمة دمشق عشية رأس السنة الجديدة. ومنذ ان تولى السلطة، أكد مراراً على أهمية الحفاظ على وحدة البلاد، مشدداً على القول إنه “لن يتم استبعاد أي طائفة، وأن حماية الأقليات مسؤولية تقع على عاتقنا”.
وفي مبادرةٍ اعتبرها البعض مؤشراً إيجابيا، عينت الحكومة الجديدة في سوريا السيدة محسنة المحياوي، وهي امرأة تنحدر من الأقلية الدرزية في البلاد، محافِظةً لمنطقة السويداء في الجنوب. كما تم تكليف نساء لتولي مناصب رئيسة أخرى، بما فيها تعيين حاكمةٍ لـ “مصرف سوريا المركزي”.
وعلى رغم ذلك، لا تزال الشكوك قائمةً لدى كثيرين. فعلى امتداد الطريق في البلدة القديمة في دمشق، يُعد “بار وبيتزيريا لا ماريونيت” La Marionnette Bar and Pizzeria – معلماً قديماً يلتقي فيه سكان المنطقة، وفيه تجلس مريم، وهي مسيحيةٌ آرامية، لتشرح وجهة نظرها مما يحدث.
تقول مريم: “نحن نعيش كابوساً وهذه الفترة هي الأكثر رعباً في حياتنا. فقد استبدلنا ديكتاتوريةً بأخرى”. وتؤكد أن الخوف يطغى على المسيحيين الذين باتوا يخشَون على حياتهم. فكل شخص لديه جواز سفر يخطط للمغادرة”. وتتابع مريم، التي تُعد من القلائل المحظوظين الذين لديهم جواز سفر أجنبي: “بإسم الإنسانية، أناشد المجتمع الدولي التدخل لإنقاذ مسيحيي سوريا”.
إبن عمها شادي مارين، وهو مسيحي أرثوذكسي وصاحب مطعم “روف أوف مارين” Roof of Marine، يؤكد من جانبه على تلك المخاوف بقوله: “على مدى الأعوام الـ 13 الأخيرة، ارتكبت ’هيئة تحرير الشام‘ مجازر وأعمالاً إرهابية مروعة”.
من الصعب ألا يتأثر المرء بحال التشاؤم التي تطغى على الأقليات في سوريا. وتعرب لينا صباغ – وهي صيدلانية مسيحية – عن ذلك بالقول: “إن الناس جميعهم خائفون، بتنا نخشى حتى الذهاب إلى الكنيسة”. وتضيف: “على رغم ما تزخر به سوريا من مواهب وتنوع كبير، فإن هذا لا ينعكس في تركيبة الحكومة التي يهيمن عليها الإسلاميون. أنا لا أريد أن أغادر البلاد لأن عملي هنا، لكن قد لا يكون أمامي خيار آخر”.
وفي مقهى يقع قبالة المدخل المهيب لكاتدرائية السيدة العذراء لطائفة الروم الملكيين الكاثوليك في دمشق، يجلس علي محمد بهدوء وهو يحتسي قهوة إسبريسو، ويأخذ نفساً عميقاً من سيجارته، بينما يتردد صدى الآذان من مسجدٍ مجاور. أما جبينه المقطب وتحديقه المستمر في فنجان قهوته، فيكشفان عن قلقٍ عميق ينتابه.
ويقول علي وهو مستشار في مجال الأمن السيبراني: “أخشى أن أصبح مستهدفاً بسبب معتقدي الديني. فأنا أنتمي إلى الطائفة العلوية، كما بشار الأسد”.
وعلى رغم هذه المخاوف، يحاول التمسك بالأمل قائلاً: “أحب دمشق والثقافة السورية الغنية والمتنوعة. إن معظم المسلمين هنا منفتحون، ولدي أصدقاء من جميع الطوائف. لكن هناك رواياتٍ مقلقة تنتشر عن تعرض الدروز والعلويين والمسيحيين لمضايقاتٍ وإهانات لفظية في حمص والمناطق الريفية”.
ويضيف: “لستُ واثقاً من قدرة هؤلاء القادة الجدد على إدارة البلاد بشكلٍ فعال. لقد حكموا إدلب، وهي منطقة صغيرة نسبيا، لكن إدارة بلادٍ بأكملها هي مسألةٌ مختلفة تماما. إن الكثير من المسؤولين الجدد كانوا إرهابيين سابقين. وقد بدأ الناس يتحدثون عن احتمال “بلقنة” سوريا وتفتيتها إلى كياناتٍ صغيرة، بحيث تحظى الأقليات بدولٍ خاصة في ظل حمايةٍ دولية”.
كما الآخرين يفكر علي هو أيضاً بالرحيل عن بلاده. ويقول: “لستُ على استعداد للرهان على ما قد يحدث بعد ذلك في سوريا”.
تجدر الإشارة إلى أن أعواماً من الديكتاتورية والقمع جعلت الكثير من الناس مترددين في التعبير عن آرائهم. حتى خارج مجتمعات الأقليات، فضل كثيرٌ من السوريين السنة التحفظ، معربين عن أملهم في أن تتحسن الأمور، ولم يرغبوا في التحدث علانية. ومع ذلك، كان هناك بعض الذين قرروا التحدث وكانوا أكثر تفاؤلاً.
في زقاق ضيق بجوار “حانة لا ماريونيت”، يقع “مطعم وبار زاروب” Zaroob RestoBar حيث تُعزف الموسيقى العربية الحديثة. ويشير مدير الحانة ويُدعى جاد، وهو سني، إلى مجموعة من الشباب السوريين الأنيقين الذين يرقصون ويتناولون المشروبات.
ويقول: “انظر، هذه هي سوريا الحقيقية. هؤلاء الناس هم مسلمون ومسيحيون يرقصون ويشربون معاً في تناغم. ليست لدينا مشاكل مع أي جهة. لم يطلب منا أحد أن نتوقف عن الرقص أو الشرب. كل شيء يسير على ما يرام. الحكومة الجديدة أتت بسلام. وأحمد الشرع يحترم جميع أبناء الشعب السوري”.
عندما عدتُ إلى حانة “لا ماريونيت”، تحدثتٌ مع كل من مريم وشادي عن التفاؤل الذي عبر عنه بعض الأفراد من السنة. فأجابني شادي مارين باستهجان: “إنها مجرد لحظات احتفالية بعد الثورة. في الوقت الراهن، يهلل السنة المعتدلون لهؤلاء الأشخاص، لكن ما أن يدركوا أنهم ينتمون إلى ’ جبهة النصرة‘- وهي أحد الفروع التابعة لتنظيم ’القاعدة‘ – فلن يتقبلوا الأمر. هناك نحو أربعة وعشرين ألف مقاتل إسلامي متطرف، والكثير منهم أجانب. مَن سيتعامل معهم؟”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سألتُ شادي عما إذا كان يخطط لمغادرة البلاد شأنه شأن آخرين، فأجاب بحزم: “لن أغادر. سأظل هنا وأبذل كل ما في وسعي من أجل أن تكون هناك سوريا معتدلة. أنا ضعيف، لا أملك سلاحا، ونحن شعب مسالم وغير عنيف، لكن هذه أرضنا وسأموت هنا”.
تجدر الإشارة إلى أنه منذ تولي الرئيس الأميركي دونالد ترمب مهام منصبه، لم تصدر عنه أي تصريحات في ما يتعلق بسوريا، لكن صحيفة “واشنطن بوست” أفادت الأسبوع الماضي بأن الولايات المتحدة كانت قد تبادلت معلوماتٍ استخبارية مع الحكومة الجديدة في سوريا في شأن التهديدات التي يشكلها “تنظيم الدولة الإسلامية”.
وخلال الشهادة التي أدلى بها ماركو روبيو في جلسة الاستماع في “مجلس الشيوخ” لتأكيد تعيينه وزيراً للخارجية الأميركية، قال إن “من المصلحة الوطنية للولايات المتحدة أن تكون سوريا مستقرة، وألا تكون ساحةً مفتوحة لتنظيم ’داعش‘، وأن يتم احترام الأقليات الدينية من العلويين إلى المسيحيين، وتوفير الحماية للأكراد”. وأضاف أن هذا يصب أيضاً في مصلحة جميع الدول في منطقة الشرق الأوسط.
وفي عودةٍ إلى “فندق الشرق”، حيث حرص كريكور ألتونيان على تأكيد تمسكه بالأمل على رغم الظروف الصعبة التي تشهدها بلاده. وقال: “يجب أن لا نغفل عن المصالح الخارجية. فبالنسبة إلى تركيا والمملكة العربية السعودية وقطر والغرب، تُعد سوريا ذات أهمية استراتيجية. إن عدم استقرارها لا يصب في مصلحة هذه الدول”.
تمتلك عائلة كريكور الفندق وتتولى إدارته منذ العام 2004، وهو لا يزال متفائلاً بمستقبلٍ أفضل، لكنه من ناحيةٍ أخرى يرفض التخلي عن ضمانته الشخصية المتمثلة في جواز سفره الأرمني.
نقلاً عن : اندبندنت عربية