“كنا نحن الغرباء في بلدنا، والروس يتعاملون معنا على أننا مقيمون لديهم”، هكذا يصف محمد بكاش الحالة التي كانت موجودة في مرفأ طرطوس على الساحل السوري الذي استثمرته روسيا ضمن اتفاق مع النظام السوري السابق. ويضيف “أنا موظف في المرفأ، راتبي الشهري لا يتجاوز 50 دولاراً، بينما المرفأ حرفياً تسيطر عليها روسيا بكل شيء، حتى إنها لا ترجع إلى حكومة دمشق في اتخاذ القرارات، وكل شيء قادم من روسيا بصورة رسمية لا يتعرض لأي نوع من أنواع التفتيش”.

الوجود الروسي في سوريا كان بطلب رسمي من حكومة النظام السابق، ووفق تقارير إعلامية فإن القائد السابق لـ”فيلق القدس” في “الحرس الثوري الإيراني” قاسم سليماني هو من أقنع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالموافقة على التدخل العسكري في سوريا، نظراً إلى أن نظام بشار الأسد كان على وشك السقوط.

 

بالطبع لم يكن التدخل الروسي مجاناً، بل قابلته اتفاقات لا محدودة تضمن مكاسب روسية في الأراضي السورية، وبحسب تقرير سابق لصحيفة “واشنطن بوست”، فإن الاتفاق الذي وقع بين دمشق وموسكو كان مجحفاً للغاية في حق “الدولة السورية”، إذ إن معظم بنوده تصب في مصلحة موسكو، والبند الوحيد الذي يصب في مصلحة النظام السوري هو تنفيذ روسيا غارات جوية على المناطق الخارجة عن سيطرته.

تركيا وليبيا

في جغرافيا أخرى، في سبتمبر (أيلول) الماضي، نشرت مجلة “المجلة” النص الكامل لمذكرة التفاهم العسكرية بين تركيا والحكومة الليبية برئاسة عبدالحميد الدبيبة، التي تتضمن تفاصيل الامتيازات والحماية للقوات التركية خلال عملها في ليبيا، وأثار الاتفاق جدلاً واسعاً حول شرعية حكومة الدبيبة، المعترف بها دولياً، لكنها “ناقصة الشرعية” لعدم اتفاق الليبيين عليها والانقسام بين بنغازي وطرابلس، واليوم يتكرر السيناريو بصورة مختلفة قليلاً في سوريا، إذ سقط نظام الأسد، وبقي الاتفاق الموقع بينه وبين روسيا محل جدل خصوصاً إذا رفضت الحكومة السورية الجديدة الاعتراف بهذا الاتفاق.

موقف غير مستقر

الكاتب والمحلل السياسي الروسي ديميتري بريكع يقول إن “سقوط نظام بشار الأسد وتشكيل حكومة سورية جديدة يضع الاتفاقات الموقعة بين روسيا وسوريا، مثل استخدام روسيا قاعدة حميميم وميناء طرطوس، في موقف غير مستقر، إذ إن هذه الاتفاقات التي أبرمت تحت حكم النظام السابق كانت تعكس تبعية سياسية وعسكرية لروسيا مقابل دعمها النظام خلال أعوام الحرب، ومع وصول حكومة جديدة قد تعد هذه الاتفاقات غير شرعية أو غير ملائمة للمصالح الوطنية السورية، مما يفتح الباب أمام مطالب بإلغائها أو تعديلها”.

يضيف بريكع أن “الحكومة الجديدة، بخاصة إذا كانت مدعومة من قوى دولية تسعى إلى الحد من النفوذ الروسي في سوريا، قد ترى في هذه الخطوة وسيلة لاستعادة السيادة الوطنية وتقليل الاعتماد على روسيا، بينما قد تسعى إلى التفاوض مع موسكو إذا أرادت الحفاظ على علاقات متوازنة، من جانبها لن تقبل روسيا بسهولة فقدان هذه المكاسب الاستراتيجية التي تعدها جزءاً من نفوذها الإقليمي، وقد تلجأ إلى الضغط الدبلوماسي أو حتى التهديد العسكري لضمان استمرار الاتفاقات، مع احتمال استخدام نفوذها في المؤسسات الدولية أو تقديم تنازلات اقتصادية وسياسية لإقناع الحكومة الجديدة”. ويختم المحلل الروسي حديثه بالتأكيد أن “إلغاء هذه الاتفاقات أو تعديلها سيؤدي إلى تداعيات إقليمية ودولية كبيرة، إذ قد تسعى قوى مثل الولايات المتحدة وتركيا إلى استغلال الفراغ الناجم عن تقليص النفوذ الروسي، مما يعيد تشكيل التوازنات في الشرق الأوسط، وفي النهاية مصير هذه الاتفاقات يعتمد على قدرة الحكومة السورية الجديدة على تحقيق استقلالية القرار الوطني ومدى استعدادها لتحمل تبعات مواجهة روسيا أو التفاوض معها لضمان صياغة علاقة جديدة تخدم مصالح سوريا”.

اتفاقية فيينا لـ”خلافة الدول”

ولا يتفق الباحث الاقتصادي السوري أسامة القاضي مع هذا الطرح، ويرى أن “هذه العقود ستلغى غالبيتها، لأن واقع الظرف السوري هو ليس تسلم سلطة من طريق ما يعرف بخلافة الدول في ما يتعلق بالاتفاقات والمعاهدات، إذ إن الوضع في سوريا لا تشمله اتفاقية ‏فيينا الخاصة بخلافة الدول والتزام المعاهدات والمواثيق لأن الحكومة السورية الجديدة لم تتسلم السلطة بصورة سلمية من رئيس دولة موجود، إنما تم الدخول إلى دمشق وهرب الرئيس، وحُل الجيش ومؤسسات الدولة، ولولا أن الإدارة الجديدة تواصلت مع الموظفين المدنيين لما عادوا إلى وظائفهم، وعدم تسليم السلطة بصورة سلمية وقانونية يعني تلقائياً أن السلطة الجديدة غير معنية بالاتفاقات أو الديون المترتبة على الإدارة السابقة”.

يضيف القاضي “إضافة إلى ذلك، فإن معظم الاتفاقات السابقة مجحفة في حق الشعب السوري، ومن جانب آخر فإن النظام السابق منقوص الشرعية، لأسباب قانونية تتمثل في أنه اعتمد على انتخابات لم تجر في خمس محافظات، في إشارة إلى عدم إجراء الانتخابات في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وهناك نحو 13 مليون سوري بين لاجئ ونازح لم يشاركوا في الانتخابات، وهذا ما صرحت به الولايات المتحدة الأميركية منذ اندلاع الثورة السورية عندما أكدت أن النظام في سوريا منقوص الشرعية، وبذلك لا تعد غالبية هذه الاتفاقات شرعية، والحكومة الجديدة غير ملزمة بها”، ويختم الباحث السوري حديثه بالقول إن الحكومة السورية الجديدة قد “تجري مفاوضات مع الروس في ما يتعلق بقاعدة حميميم وبأي علاقات أخرى، وأعتقد أن روسيا ستكون حكيمة في التعامل مع سوريا القادمة لتفتح صفحة جديدة مع الشعب السوري، وتبني علاقات أكثر دبلوماسية وتخدم صالح الشعبين الروسي والسوري في المستقبل”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ثلاثة سيناريوهات

ميدانياً على الأرض، دعمت كل من روسيا وإيران النظام السوري، والطرفان وقعا معه اتفاقات بمجالات مختلفة، وسقوط النظام تزامن مع خروج إيران الكامل من سوريا باستثناء بعض موظفيها في السفارة بدمشق، أما روسيا فلم تسحب قواتها بصورة كاملة، وإنما ركزت وجودها في قواعدها العسكرية بالساحل السوري، ولم تتعرض القواعد الروسية لأي هجمات من قبل إدارة العمليات العسكرية في سوريا، كما لم يصدر بيان رسمي من دمشق يطالب روسيا بمغادرة سوريا، وهذا لم ينطبق على إيران التي تتعرض لانتقاد من قبل السلطات السورية الجديدة، لكن في المقابل، لم يتم التعليق بصورة رسمية على المصير النهائي للقواعد الروسية بسوريا، ولا على الاتفاقات الموقعة بين روسيا والنظام السابق، ويبقى مستقبل هذه الاتفاقات منحصراً في ثلاثة احتمالات:

-السيناريو الأول: المحافظة على الاتفاقات السابقة، ولا سيما أن تحافظ الحكومة السورية الجديدة وتلتزم الاتفاقات والمعاهدات ومذكرات التفاهم كافة الموقعة بين النظام السابق وموسكو، وهذا السيناريو مستبعد، لأن غالبية الاتفاقات كانت تصب في مصلحة النظام السابق من دون أن تراعي المصالح الوطنية السورية، إضافة إلى ذلك فإن الحكومة السورية اليوم خرجت منتصرة، وهي ليست في حاجة إلى إرضاء روسيا كون دمشق اليوم تتجه للتقارب مع واشنطن وبروكسل والرياض، ولا يعد المعسكر الشرقي هدفاً لحكومة أحمد الشرع، لذلك من غير المتوقع أن توافق الحكومة السورية الجديدة على التزام الاتفاقات السابقة.

-السيناريو الثاني: إعادة مناقشة الاتفاقات من جديد، وهذا السيناريو هو الأقرب إلى الواقع في الوقت الحالي، ويتضمن أن تشكل لجان روسية – سورية جديدة تفتح كل الاتفاقات السابقة، ومناقشة بنودها بنداً بنداً، وإجراء تعديلات بين حذف وإضافة بنود، حتى يُتوافق على صيغة ترضي الطرفين وتراعي مصالح روسيا في المياه الدافئة، وأيضاً تراعي مصالح سوريا الوطنية وحاجتها إلى مزيد من الدعم لبناء الدولة التي كانت على وشك الانهيار.

-السيناريو الثالث: إلغاء الاتفاقات كلياً، وهذا السيناريو مستبعد لكنه وارد، مستبعد لأن الحكومة السورية الجديدة تبحث عن دعم من أي طرف مهما كان، إضافة إلى علاقات روسيا مع تركيا، والأخيرة تتمتع بعلاقات قوية مع الحكومة الجديدة، وقد سبق أن تحدث مسؤولون أوروبيون عن ضرورة عدم وجود أي دور لروسيا وإيران في سوريا، لذلك قد تفكر دمشق في إلغاء الاتفاقات مع روسيا مقابل رفع العقوبات الغربية والحصول على اعتراف دولي.

نقلاً عن : اندبندنت عربية