إذا كان للفكر العربي جناحان، أحدهما في المغرب، والآخر في المشرق، فيمكننا القول، بلا تعسف، إن الجناح المغربي يحلق بمحمد عابد الجابري، والجناح المشرقي بمحمد جابر الأنصاري. ولعل في تقارب كلمات الاسمين إشارة دالة إلى ما يميزهما، لجهة الجهد المعرفي الخلاق الذي انخرط كلاهما في إشادة معماره.
رحل الأنصاري، المفكر البحريني الأعرق على مستوى الخليج العربي، تاركاً إرثاً غنياً يتميز بالشجاعة والريادة والجرأة، لا سيما وهو يعيد قراءة التاريخ العربي الإسلامي، ويفكك هواجسه، ويقترب من حرائقه، وأحياناً مقدساته التي تصلي بنارها من يقترب منها، لكنه لم يخف، ولم يتردد، وظل يغرس سيف رؤاه في لحم القضايا الشائكة، كأنما تنكّب العاصفة. وصدق الشاعر والدبلوماسي السعودي غازي القصيبي حينما وصف فكر صديقه البحريني بأنه بمثابة “صدمات كهربائية للعقل العربي”، وبأن كتابات الأنصاري “كرة ملتهبة بالأفكار”.
وما مكّن الأنصاري من اقتحام “عش الدبابير” الفكري المتصل بالتراث العربي الإسلامي، وأسئلة الراهن، ونقد الهزيمة، وتشريح “التطرف الجهادي” هو المقدرة العلمية ودقة المنهج والمهارة المنطقية والبرهانية، وسؤال الضرورة الأخلاقية، فضلاً عن البحث الموسوعي الذي جعل المفكر الراحل يقرأ الواقع العربي في سياقاته المتعددة، وبخاصة اعتماده منهج النقد الفلسفي والثقافي المفتوح ذا المروحة الواسعة التي يرى المتأمل في أطيافها فتوحات علم الاجتماع ممهورة بالتصورات النقدية الحداثية، مع المتابعة للواقع الثقافي العربي، علاوة على الاشتباك مع الحدث السياسي، الذي كان يفصح عنه في مقالاته الصحافية التي كانت مرصعة بالغلالات الفلسفية الموجهة للمتلقي العادي.
رفض الأنصاري “اتهامات” بعض النقاد الذين أخذوا عليه نزعته “التوفيقية”، وكذلك “التبسيطية” في عرض أفكار بعض كتبه. فيرى أن أطروحاته التي توفق بين العصبية أو القومية والدين، والحداثة والإسلام، والتطور الحضاري والتخلف الاجتماعي، يلظمها نسيج من تقريب الأفكار، وامتحان قدرتها على الصمود أمام الجدل.
التوفيقية الخلاقة
قدم الأنصاري نموذجاً لما يمكن تسميته “التوفيقية الخلاقة” في كتابه “لقاء التاريخ بالعصر” الذي يدافع فيه عن عالم الاجتماع العربي المفكر ابن خلدون، وعن مفهوم العصبية لديه الذي اُستقبل بطرق مغلوطة. ويكشف الأنصاري أن العصبية تعني “الرابطة الاجتماعية الطبيعية التي تجمع بين مجموعة متجانسة من البشر بصلة الولاء، وتدفعهم جميعاً إلى الحركة والفعل والبناء والدفاع عن النفس ضد العدوان”، مضيفاً أن ابن خلدون “اكتشف دور الرابطة القومية في التاريخ، كما اكتشف دورها الحيوي في نشر الرسالات الدينية بخاصة، من خلال طرحه لمفهوم العصبية كمحرك للتاريخ”. إلى أن يصل للقول إن أطروحة ابن خلدون استطاعت أن تجمع وتوفق إيمانه الديني الراسخ وعلمه الديني الواسع، وبين أفكاره العلمية الاجتماعية التقدمية في العامل القومي والعامل الاقتصادي ونحوهما”.
أما عن “التبسيطية” فيقول الأنصاري، في إحدى مقابلاته التلفزيونية، إنها أمر مقصود، خصوصاً في كتبه التي جمع فيها مقالاته الصحافية ذات الموضوعات المشتركة. وأكد أنه يتقصد أن تأتي بلغة مبسطة، لأنها موجهة لعموم القراء، وليس للمتخصصين في الفكر والفلسفة، لافتاً إلى أن من مهام المفكر أن يطرح تصوراته بطرق تجعلها تصل للناس، لأن عزلة المفكر والمثقف والفنان تجعله مقيماً في برج عاجي.
كتب الأنصاري في ميادين عديدة، نظراً لتعدد انشغالاته، فقد بدأ حياته صحافياً ينقد الكتب الجديدة ويبشر، كما قال، في حوار تلفزيوني آخر، بالكتّاب الجدد والأقلام الواعدة في البحرين، كما أسس أول فرقة مسرحية في الخليج، ثم انتقل للتعليم المدرسي والجامعي، ثم عمل برتبة وزير مسؤول عن الإعلام في المرحلة التي سبقت استقلال البحرين، فضلاً عن عمله السياسي والدبلوماسي، حيث كان (حتى وفاته) مستشاراً ثقافياً لملك البحرين.
نقد الفكر العربي
وفي ضوء هذه الانشغالات المعرفية التي تمزج الفكر النظري بالخبرة العملية، من الصعب أن يفاضل المتابع بين كتاب للأنصاري دون غيره، لكنه سيتوقف أمام مشروعين كبيرين أنجزهما، يتمثل الأول في “نقد الفكر العربي”، والثاني يروم “نقد الواقع العربي”، وقد أفرد لكل مشروع ثلاثة كتب، لتكون الكتب الستة في هذين المشروعين، أكثر البراهين على تميز المنهج النقدي في المعمار الفكري الأنصاري، الذي كان يصبو إلى إعادة قراءة التراث الفكري العربي الإسلامي بعين جديدة تلتقط الجوانب العقلانية في هذا التراث (بما فيه النصوص المقدسة)، والبناء على العقل من أجل تشييد عمارة الحضور العربي في الحي الإنساني الفسيح.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بيْد أن الباحث المصري محمد نعمان جلال يرى أن رحلة الانصاري الفكرية تتجسد في ثلاث مجموعات هي: “تحولات الفكر والسياسة في المشرق العربي”، و”مساءلة الهزيمة”، و”الفكر العربي وصراع الأضداد: تشخيص اللاحسم في الحياة العربية”. أما الثانية فتشمل “تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القُطرية”، و”التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام: لماذا يخشى الإسلاميون علم الاجتماع؟” و”العرب والسياسة. أين الخلل؟ جذر العطل العميق”.
أما المجموعة الثالثة، كما يقول نعمان في كتابه “الواقعية الجديدة في الفكر العربي: المشروع الفكري للأنصاري نموذجاً”، فتتضمن كتب الأنصاري “تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها” و”انتحار المثقفين العرب” و”رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية وشواغل الفكر بين الإسلام والعصر”.
كُتب الانصاري ومؤلفاته (التي صدر أكثرها عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت) تشبهه شخصياً، وتشبه بلاده البحرين، ولها سمات مستمدة من طبيعة الخليج العربي، فهو، كما أعرب في مقابلة تلفزيونية ثالثة، ينتسب لثقافة محلية تحب الاستماع، وليس التسميع. وهذه دماثة تتعدى كونها صفة شخصية محببة، بل لها صلة وثيقة بالمنهج والتفكير والبحث العلمي. لذلك لا تجد شخصية المفكر الأنصاري طاغية في أحكامها الجازمة، وتصوراتها النهائية، وفي وثوقيتها التي تجعلها أقرب إلى البحث العلمي المحض، فهو متشكك بطبعه، يشكو من اللاحسم، يقلب الأفكار على وجوهها المختلفة، ويترك هامشاً واسعاً للحكم عليها من لدن المتابعين والقراء الذين أفسح لهم الأنصاري ركناً من رؤاه وصنيعه.
نقلاً عن : اندبندنت عربية