يرتبط محمد علي اليوسفي فضلاً عن انخراطه المبكر في الترافع الإبداعي عن القضايا الإنسانية، وجدانيا ًبسوريا لأسباب عديدة، أولها أنه عاش فيها فترة مهمة من حياته وهي فترة الشباب، إذ درس داخل جامعة دمشق وتخرج في قسم الفلسفة والعلوم الاجتماعية، قبل أن يواصل دراسته العليا في الجامعة اللبنانية.
وحين اختار أن يمارس الصحافة الثقافية كانت وجهته الصحف السورية واللبنانية والفلسطينية. كما أن معظم أعماله في مختلف حقول الكتابة كانت تصدر تباعاً في بلدان الشام. ومن يتابع المشروع الثقافي لمحمد علي اليوسفي يدرك حجم جديته وإيمانه بالكتابة، ونزوحه إلى المناطق المأهولة بالأدب والجمال، وهدوءه وحكمته وتوجسه الدائم من ضجيج الحياة الثقافية.
ألف اليوسفي أعمالاً مهمة وعديدة في الشعر والرواية والترجمة والنقد والسينما وأدب الرحلة. لكن حوارنا معه في “اندبندنت عربية” مخصص لكتابه الجديد “أحدب الثورة السورية وقصائد أخرى”، الصادر حديثاً عن دار الكتاب بتونس.
يستهل محمد علي اليوسفي مجموعته الشعرية الجديدة “أحدب الثورة السورية” بالجملة التالية “ثم جاءت الحرب، لتطلقنا من سجون كنا نعيش فيها، ولا نراها”. ألا يبدو هذا تنبؤاً صريحاً وواضحاً بما وقع خلال الأيام الأخيرة؟ ويجيب الشاعر “هو ليس تنبؤاً، بل قراءة تخرج اليومي المعتاد من غلالة الدعة والسكينة والمهادنة إلى الحذر البيولوجي للكائن. ومن السجون المعتادة إلى السجون غير المرئية التي تحتاج إلى صدمة”.
سألناه أيضاً إن كان الشاعر ما زال رائياً في هذا الزمن الذي تضببت فيه معظم الرؤى، فأجاب “يشترك الشاعر مع المفكر والمؤرخ والمحلل في مثل هذه الرؤيا التي تتأتى من رؤية. وتكون ناجمة عن تجارب سابقة وأحاسيس مرهفة ومقارنات ممكنة”. ويؤمن اليوسفي بأن الحياة تهب للمبدعين مثل هذه الإمكانات بسبب ما راكموه من تجارب وخبرات واختبار للمشاعر والأحاسيس.
في “أحدب الثورة السورية” يرى اليوسفي أن الحرب “تساعد الروائيين وتربك الشعراء”. ويعلل لنا هذه الفكرة على النحو التالي “لأن الشاعر يهجم على الحدث الساخن وقد تكتوي به قصائده ولو بعد فترة قصيرة، بينما يحتاج الروائي إلى فتح ورشة قد تلتهمها الأحداث فيضطر إلى التأمل والتعديل وإعادة الصياغات”.
الوجع السوري
عنون الشاعر أحد نصوصه المؤثرة بالعنوان التالي “منطقة رمادية اسمها سوريا” حيث نساؤها كن جميلات، وصرن جميلات على وجع”. ثم استحضر الأندلس في النص ذاته. وحين تساءلنا معه إن كانت هذه مقارنة أم مفارقة، رد علينا “أنت تشير إلى هذا المقطع من تلك القصيدة المطولة “ديلاندا كارتاجو! فلتهدم قرطاج!/ ديلاندا داماسكو!/لم نعد في حاجة إلى رثاء الأندلس./القنيطرة، اسم التصغير المهدم،/ بعدها كبرت القناطر،/ بالغت في رثاء أندلسها البكر،/ وفي انتظار وحدة واهمة،/ اكتملت عزلة،/ منذ شهقة الأخت الصغرى، فلسطين!”.
لم تكن مقارنة إذاً بل سخرية من رثائنا لكل ما يسقط، وقد نكون مشاركين في سقوطه حتى ثقافياً ومعنوياً.
لم تعد تعرف السوريين، فقد قسمتهم الحرب إلى قسمين أو إلى خصمين. هل تغير هذا الالتباس لديك بعد الأحداث الأخيرة؟ كان هذا سؤالنا المباشر للشاعر، فكان رده “لا لم يتغير الالتباس، في البداية كان الخصمان مختلفين في الانتماء إلى الحاكم أو الخروج عليه (وبينهما يوجد من لا ينتمي لا إلى هذا أو إلى ذلك)، والآن وبعد الأحداث الأخيرة بدأ الاختلاف يتجلى حول النتائج. هل هذه ثورة؟ هل كانت واضحة؟ من صنعها أو من شارك فيها؟ كل ثورة تأتي بوعود وبخيبات، وهذه حررت الألسنة وحررت المعتقلين حتى الآن، لكن جاءت ملتبسة. وأرى أنها تخفي ما هو ملتبس بإعلانات استباقية تخص التسامح بالدرجة الأولى”.
يستطرد صاحب “ليل الأجداد”، “وبعد البدء بماذا ستفاجئنا؟ بالحجاب والسفور، بتشدد الثورة الإيرانية مثلاً من الانفتاح على التيارات اليسارية والعلمانية ثم الانقلاب عليها وطردها وتهجيرها؟ نعم هناك ضغوط على إخوان سوريا من الجهات الداعمة لكن إلى متى؟ وغير القرارات الإلزامية من القياديين علينا أن نتذكر الضغط الذي تقوم به العناصر غير القيادية في الحياة اليومية”.
الموت كثير الحضور
في “أحدب الثورة السورية” يبدو الموت أمراً معتاداً. هل تخشبت مشاعر الناس إلى هذا الحد؟ أم أن صدمة الموت خففها كثرة حضوره؟ ويجيبنا اليوسفي “نعم بات الموت كثير الحضور. منذ فلسطين إلى اليوم، بل حتى الغد. ولم تتخشب مشاعر الناس بل تلبستها درجات من اليأس فذهبت إلى شؤونها الأولية: الأمان والرغيف والحرية المحلية”.
إن تناول شاعر تونسي للمسألة السورية يجعلنا نتساءل: أما زال بإمكان الشعر استيعاب القضايا الكبرى؟ أما زال بإمكانه تطويع السياسة والدخول بالشاعر والقارئ على السواء إلى مناطق الشأن العام؟ ولا يملك اليوسفي جواباً جاهزاً، فهذا شأن شديد التعقيد حسب تعبيره. ويقول الشاعر “القصيدة قد تنجح أو تخفق في الصراخ السياسي أو صياغة المضمون السياسي بلغة شعرية شفافة. ومع الأسف تظل القصائد الصارخة هي المطلوبة أكثر، ولهذا نجدها تخمد ثم تبعث من جديد كلما تدهورت الأوضاع مجدداً”.
في أحد نصوصه يخاطب “لاجئة فوق سطح العالم”. سألناه عن تأثير هذه الموضوعة الجارحة “اللجوء” عليه، فكان رده “اللجوء يجعلك تفقد مكانين، الأول الذي تركته والثاني الذي لجأت إليه. فتجد اللاجئ يعيش الحلم مشروخاً. قد يعايش بعض الطمأنينة في مكانه الجديد لكنه يحن إلى الحياة التي فقدها. ولن يشفى من هذا الشرخ إلى الجيل الثالث من سلالته”.
ناقشنا مع صاحب “شمس القراميد” مستقبل الظلم الإنساني، هل سيتغير العالم نحو الأفضل؟ أو في الأقل نحو قسوة أخف؟ فلم نستشعر أملاً كبيراً في جوابه “لا لا أبداً… هذا هو الإنسان، من إنسان الكهوف إلى إنسان الذكاء الاصطناعي. إنه يتقدم في المعارف لكنه سرعان ما يستثمرها في حروبه، وقد يكفر عنها بجائزة كما عمل نوبل، أو يغني لها في الفنون والآداب رافعاً شعار القيم الإنسانية”.
ذهبت الأيام بصاحب “حافة الأرض” إلى وجهات مختلفة، وتوزع باكراً بين أمكنة متنافرة، لكن المكان في مجموعته الشعرية الجديدة يحضر بما هو رمز يمكن تجاوزه، لا الحنين إليه والارتباط به في الضرورة. ويعلل اليوسفي هذا الأمر بطريقته “ذلك بعض ما فعلت بي الغربة، كانت طوعية نسبياً، أحببت كثيراً لكنني كلما أحببت يأتي الفقد ويعيدني إلى ما مضى كما كان شأن غراب إدغار ألان بو، فلا أرى إلا الخراب”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتعمق هذا الشعور لدى الشاعر حين يقول مثلاً “كل المدن قاسية”. لماذا هذا الحزم وهذا التعميم؟ يجيبنا صاحب “بيروت ونهر الخيانات”، “نعم قلت ذلك لكني أكملت: كل المدن قاسية/ وقد تخفي أسرارها،/ لكن قسوتها تنتهي بأن تعلمنا:/ تناولنا فؤوساً من قطيفة ورفوشاً من رأفة/ لنبحث فيها عن مخابئ الحنان”.
الحب في سجن صيدنايا
سألنا اليوسفي عن المرأة التي كتب لها وهو ذاهب إلى السويداء إلى جانب عسكري وأمامه حاجز أمني، ثم تساءلنا معه: أما زال الحب يعيش حصاراً في عالمنا العربي اليوم؟ فصرح لنا بأن الحب “قد يعيش الحصار لكنه طائر ملعون يعرف كيف يفتح المسارب، ويخترق العادات المتزمتة، والحروب التي تجعله يتوهج بدوره، ويسارع إلى مقارعة هجوم ثناتوس ابن آلهة الليل”.
وفي قصيدته القصيرة “سلطان القطيع” يقف عند هذه المفارقة: كيف تستطيع الجماعة في عالمنا العربي أن تخنق الفرد؟ وكيف يستطيع الفرد في المقابل أن “يركب” الجماعة؟ لذلك سألناه إن كان الشرق ما زال مقيماً في كهوفه وفق تعبيره، فأجابنا “تلك آفة مجتمعاتنا الآتية من فقه الجماعة وعبادة الفرد، والمفتقرة إلى الديمقراطية. حتى لنجد الدهماء تدافع على سنن الأسلاف وأكثر من ذلك نجد طيفاً من المثقفين أيضاً ينخرطون في ما تريده الدهماء”.
في قصيدة “بهلوانيات بطربوش ثوري” يكتب اليوسفي مقاطع قصيرة عن البلدان العربية التي عرفت ثورات واحتجاجات موسعة. لكنه يكتب بروح غير منخرطة في الحماسة. هل قدر الشاعر أن يظل على مسافة من كل شيء ومتوجساً من كل شيء؟ ويجيب الشاعر “كنت أبعد ما أكون عن الحماسة لثورة تونسية مجوقلة افتخر التونسيون بأن الكونغرس الأميركي قد صفق لها وقوفاً. وخلالها نشرت ديواني السابق بعنوان غامز (رقصة الكونغرس). لقد سقطوا عن ثوراتهم فقالوا عنها إنها (خطفت)… شايفيني وأنا مخطوفة؟”.
وفي قصائده “السوريات” و”رمان دمشقي” و”شهرزاد الساحل السوري” وغيرها تحضر المرأة المعشوقة. وتساءلنا مع الشاعر: ماذا تركت الحرب للحب؟ فأجاب “يحبون حتى وهم خائفون، حتى وهم خلف سجون صيدنايا. الحب هو زغلولهم الخائف. ينامون بعد جلسات التعذيب وهم يحتضنون ذلك الحب الهش”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية