مرت هذا العام 40 عاماً على إعدام المفكر والسياسي السوداني محمود محمد طه زعيم “الحزب الجمهوري”، الذي كان يعرف بـ”الأستاذ”، ويعرف أتباعه بـ”الإخوان الجمهوريين”. اعتقله نظام الرئيس السوداني السابق جعفر النميري، ودانه بـ”الردة عن الإسلام”، وحكم عليه وأعدم في الـ18 من يناير (كانون الثاني) 1985، عن عمر ناهز 76 سنة، إثر معارضته النظام الحاكم.

آنذاك كانت آراء طه السياسية هي الأساس في خصومته مع تنظيم “الإخوان المسلمين”، واعتراضه على تطبيق “الشريعة الإسلامية” المعروفة بـ”قوانين سبتمبر” عام 1983 التي كان عرَّابها حسن الترابي حليف النميري في تلك الفترة. وكان طه ندد بهذه القوانين وعدها غير عادلة ومخالفة للروح الحقيقية للإسلام، وقال إن الفقراء كانوا مستهدفين بشكل غير عادل، وإن الهوجة التي تمت بها لم تكن دينية وإنما سياسية. نقل عن شهود حضروا تنفيذ الحكم أنه “عندما رفعوا الغطاء عن وجهه، نظر إلى منفذيه والقضاة، وابتسم لهم فقط”.

سعت الحركة التي أسسها طه إلى تثقيف الناس حول أفكاره الإصلاحية، والتزمت مبادئ وضعها، تمثلت في النشاط السلمي والنقاش الفكري والتجديد الروحي كأدوات للتحول المجتمعي في السودان. كما روج للاعنف والمشاركة الفكرية كوسيلة للإصلاح، كما نظم و”الإخوان الجمهوريون” محاضرات عامة ومناظرات ومنشورات لنشر أفكارهم، إذ كان يعتقد أن التغيير المجتمعي يجب أن يأتي من التجديد الأخلاقي والروحي، وليس الإكراه أو العنف.

وباعتبار محمود محمد طه شخصية مثيرة للجدل، فإن أفكاره لا تزال تناقش، فهناك من يعده صاحب رؤية ومفكراً تقدمياً وسابقاً لأوانه، وهناك من يعده “زنديقاً”. وأضفت شخصيته وملامحه المتسامحة سمة فريدة إلى شخصيته، فـ”الأستاذ” المولود عام 1909 في مدينة رفاعة بمنطقة الجزيرة الإقليم الخصب الذي يحتل وسط السودان، فقد والديه عندما كان لا يزال طفلاً، فنشأ تحت كنف عمته في بيئة اجتماعية مكونة من العائلة الممتدة التي تعلي من أصل العشيرة كما هي الحال في معظم مناطق السودان وحتى وقت قريب.

تعقيبات فلسفية

أورد المؤرخون أن محمود محمد طه ينتسب إلى الشيخ محمد الهميم، أحد أبرز رجال الطرق الصوفية في السودان. درس الهندسة في كلية غردون التذكارية (جامعة الخرطوم في ما بعد). وكان مهتماً بقضايا الفلسفة والمنطق وله تعقيبات على بعض الفلاسفة مثل ألفريد نورث وايتهيد وبرتراند راسل.

وقال المؤرخ السوداني عون الشريف قاسم في موسوعته إنه “بعد أن استقال طه، إذ كان يعمل مهندساً بمدينة عطبرة، كون الحزب الجمهوري حزباً للخاصة، فلم تتعد عضويته الأعضاء الـ10، وكان يعارض كل أفكار الأحزاب الأخرى، وأصدر المنشورات منذ عام 1945، مما دعا البوليس إلى ملاحقته وجرى حبسه عامين في سجن كوبر الشهير وخرج من السجن شخصاً آخر، إذ تصوف وبرز اتجاهه الديني، قرأ القرآن وعلق على المفسرين”.

 

 

دعا طه إلى إعادة تفسير شامل للإسلام من شأنه أن يستوعب التنوع الديني والإثني في السودان، وينهي أية ملامح للتمييز القانوني ضد غير المسلمين أو التقليدي ضد النساء. وتكمن نظريته في الصلاة في قلب مشروعه الإصلاحي، فقد شرحها عام 1966 باسم “رسالة الصلاة”، ونص مكمل بعنوان “طريق محمد”، نشر أيضاً في العام نفسه، إضافة إلى نص آخر هو “كيفية تعلم الصلاة”، نشر عام 1972.

في “الرسالة الثانية للإسلام” سعى تفسيره الجديد إلى التوفيق بين المبادئ الإسلامية والقيم الحديثة مثل الديمقراطية والمساواة بين الجنسين وحقوق الإنسان. وفي رأيه أنه لا بد من تطوير قوانين الإسلام في العصر الحديث “حتى يتسنى لنا بناء مجتمع جيد حيث يتم التوفيق بين الديمقراطية والاشتراكية، وحيث تسود المساواة الاجتماعية”. وزعم أن هذا النوع من المجتمع، إلى جانب الخضوع الكامل لله، يؤدي إلى الحرية الفردية المطلقة في هذه المرحلة “العلمية” من الإسلام. كما اقترح إعادة تفسير الشريعة الإسلامية على أساس مبادئ الرحمة والعدالة.

وهنا أوضح عون الشريف قاسم أن “محمود اشتهر بمذهبه في فهم الإسلام والقرآن، فهو يقسم القرآن إلى قرآن أصول في الفترة المكية وقرآن فروع في الفترة المدنية وأن الإسلام رسالتان، رسالة أولى هي الإسلام كما عرفه المسلمون ورسالة ثانية تقوم على قرآن الأصول يتجدد بها الإسلام وألف في ذلك عشرات الكتب والرسائل”.

نظرة إصلاحية

دافع تلامذة “الأستاذ” عن فكرته عن ختان الإناث المعروف بـ”الخفاض الفرعوني” (تشويه الأعضاء التناسلية للإناث) بأنه لم يكن يؤيده، وإنما وقف ضد سلطات الاستعمار الذي عمل على تفعيل قانون منع هذه العادة عام 1946، من منطلق “أن العادات لا تحارب بالقوانين، من ناحية، وباعتبار أن الاستعمار إنما يرمي إلى إظهار السودانيين كشعب بدائي غير متحضر مستحق للوصاية من ناحية أخرى”.

وكانت الحادثة مثار هذا الجدل أن سلطات الاستعمار اعتقلت إحدى السيدات بتهمة إجراء عملية ختان لابنتها، فألقى طه خطبة في مسجد رفاعة على مواطني المدينة الذين كانوا في حالة احتقان ضد السلطات، في أجواء مشحونة بالتوترات الناتجة من ممارساتها السياسية وضد الأعراف المجتمعية التقليدية، فخرج قائداً لاحتجاج شعبي، واستطاع اقتحام سجن رفاعة وإطلاق سراح المرأة، فأصدرت السلطات حكماً بحبسه لمدة عامين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

جسدت دعوة طه بالتزامه واستعداده لتحدي السلطات انتصاراً للمجتمع السوداني وحفاظاً على عاداته الراسخة وعدم تغييرها بالقوة، مما عكس حالة الصراع الأوسع بين نظرته إلى الإصلاح الاجتماعي وفكرته التقدمية التي تجسدت في تعليم المرأة، من ناحية، وقوة الممارسات الاجتماعية من ناحية ثانية كسلطة أخرى لم يستطع مكافحتها. وعارض تعدد الزوجات، ووصاية الذكور وغيرها بوصفها معايير ثقافية تؤدي إلى تهميش المرأة، ودعا إلى المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة في الزواج والعمل والتعليم. وألهمت دعوته إلى المساواة بين الجنسين أجيالاً من النساء السودانيات اللاتي يناضلن من أجل حقوقهن.

ومنذ إعدامه وتعليق نشاط حركته وهرب أتباعه وابنته أسماء إلى خارج السودان، وحتى انتفاضة ديسمبر (كانون الأول) 2018، وخروج حركته من السرية إلى العلن، ظل يستشهد بمقاومته وما لاقاه في سبيل دعوته الإصلاحية كرمز للمقاومة ومثال للأخطار التي يواجهها المقاومون لا سيما إذا تأسست وفق جذور أيديولوجية.

دائرة المناورات

كان طه ينتقد نظام الاستعمار بشدة، كما عارض الأحزاب السياسية بعد نيل السودان استقلاله عام 1956، خصوصاً الأحزاب التي دمجت بين الأيديولوجية الدينية والسياسة مثل “جبهة الميثاق الإسلامي”، نظام الإخوان المسلمين في ما بعد، وتلك التي دمجت بين الطائفية والسياسة مثل حزب “الأمة” و”الحزب الاتحادي الديمقراطي”. وفي ذلك جاء في كتاب المؤرخ محمد سعيد القدال “تاريخ السودان الحديث 1820 – 1955” أن “الحزب الجمهوري أخرج دعوة الاستقلال من محيط المناورات وطموح السيد عبدالرحمن المهدي، زعيم حزب الأمة، إلى نقاء العمل السياسي الحقيقي من أجل الاستقلال فألبسها دثاراً ناصعاً جعل منها دعوة يمكن أن تلهم جيلاً بأكمله. كذلك أخرج العمل السياسي من دائرة المناورات والتكتيك إلى رحاب العمل الفكري القائم على البرنامج الملزم المحدد الجنبات والآفاق”.

بدأت معارضته النظم الحاكمة منذ الاستعمار وبلغت ذروتها في مواجهته نظام النميري، إذ ظل ثابتاً على أفكاره الإصلاحية الجريئة حتى إعدامه. وفي ذلك قال الكاتب وجدي كامل إن إعدامه “أعد وطبخ بواسطة الممثلين الفكريين والسياسيين للإسلام السياسي والسلفي”. وأضاف، “لم يقع فقط بغرض ورغبة التخلص الفيزيائي من ’الأستاذ‘ محمود محمد طه بقدر ما رمى إلى قتل أفكاره ومضامين دعوته التحررية والتحريرية للعقل وتمجيد دوره في حياة المسلمين ومجتمعاتهم، بهدف منحها الاستحقاقات اللازمة للمشاركة الفاعلة في حركة التطور بعدم التخلف والنكوص عن أخذ زمام مبادراتها ومساهمتها الممكنة والمأمولة”.

 

 

وقال كامل “غير أن الخدمة العظيمة في مشروع ’الأستاذ‘ محمود وفي ما خص مجريات السياسة السودانية قد اتصلت بتصويبه نيران النقد وفضحه أساسات ومنطلقات وأغراض الفكر الإخواني أو الإسلام السياسي، بما ظل طامحاً وراغباً عليه لحكم السودان واستخدام القوانين المدنية أو الوضعية باسم قوانين الشريعة 1983 كأداة للقهر والتقييد والحرب السياسية على الخصوم السياسيين والفكريين ودعاة مشروع الديمقراطية والتحديث والحداثة تماماً، مثلما وصفها ’الأستاذ‘ في تعليقه الاعتراضي والمعترض عشية إطلاقها بأنها قوانين تستهدف قهر الشعب وإذلاله”.

“الغريب المثالي”

لا تزال الذكرى السنوية لإعدام محمود محمد طه مناسبة تتردد فيها أفكاره ومقولاته التي يحاول “الجمهوريون” نشرها عالمياً كتعاليم إصلاحية، تتفق فيها المبادئ الإسلامية مع القيم المعاصرة للمساواة والكرامة الإنسانية. أما في السودان فإن أفكاره محل جدل واختلاف بين فريقين على طرفي نقيض. ويرى كثر أنه عالج قضايا حقوق الإنسان ومفاهيم الديمقراطية من عناصر محلية تنطلق من داخل التقاليد الاجتماعية والصوفية السودانية، مبتعداً عن اتباع ما كان يراه تغريباً وهو ما كان يتمثل في مواثيق حقوق الإنسان.

يرى الباحث في شؤون السودان إدوارد توماس، الذي كتب سيرة ذاتية لطه بعنوان “الغريب المثالي للإسلام: حياة محمود محمد طه، المصلح المسلم في السودان”، ناقش فيها إرثه وأهمية أفكاره للنضال الحديث في السودان ضد الاستبداد العسكري. وذكر “استعان ’الأستاذ‘ بموضوعات داخل التصوف لاقتراح نوع من الإسلام شامل، يقضي على بعض أشكال التمييز ضد المرأة وضد غير المسلمين، التمييز الذي أصبح سمة من سمات النسخ القانونية والاستبدادية”.

وحاول توماس عقد مقاربة بين مقاومة “الأستاذ” الاستعمار والنظم العسكرية، وما يمكن أن يتنزل من مبادئه على نشاط “لجان المقاومة” للمجلس العسكري بعد خلاف الفريق عبدالفتاح البرهان مع القوى المدنية، “اعتاد الأستاذ على التواصل مع الناس من خلال الوعظ في زوايا الشوارع وتوزيع المنشورات التي كانت تطبع في المنزل. الآن أصبح لدى الجميع هواتف ذكية وهناك كثير من الوصول إلى المعلومات والوصول إلى أفكار جديدة. أعتقد أنه ربما تنجذب لجان المقاومة إليه”.

وختم، “هذه المجموعات من الشباب الذين يرفضون بشكل قاطع استمرار حكم الجيش وسيطرته على الحياة اليومية والحياة الاقتصادية. قوتهم تكمن في رفضهم الثابت للتسوية. لذا، أعتقد أنه ربما كان وفقاً لهذا الاعتقاد أنهم يؤمنون بأنفسهم، وهم مستعدون للتضحية من أجل ما يؤمنون به، وهذه قوة مخيفة للغاية بالنسبة إلى هذا النظام العسكري السوداني المثير للانقسام”.

نقلاً عن : اندبندنت عربية