إذا كان جورج لويس بورخيس قد سره دائماً أن يردد، نقلاً عن لوتريامون، أن كل أحداث الكون وكل تفاصيل التاريخ وأفعال البشر تبدو لنا وكأنها وجدت لكي ينتهي أمرها بين دفتي كتاب، فإن في إمكاننا في الوقت نفسه أن نقلب الآية لنقول:… وأيضاً إن كل ما في الكتب من إبداع مخيلات المؤلفين وكبار الشعراء يبدو لنا وكأن الأمر سينتهي به يوماً إلى أن ينتقل من صفحات الكتب وألوان اللوحات إلى رحابة الواقع. ذلك أن دراسات معمقة ومقارنة لكثير مما توقع الكتاب – ولا سيما كتاب الخيال العلمي – حدوثه، حتى إن لم يؤمنوا في أزمانهم بإمكانية ذلك، تأتي لتقول لنا إن كثيراً كثيراً مما توقعوه عاد وتحقق فعلاً، في صورة أو أخرى. بل إن هذا ينطبق حتى على “خيالات” جول فيرن وهـ ج ويلز، علماً أن كثراً مستعدون اليوم ليقولوا لنا: حتى “تنبؤات نوستراداموس” تحققت، لكن هذه حكاية أخرى. حكايتنا هنا هي تلك الخيالات العلمية – الأدبية التي كانت مخيلة فنان، أو مخاوفه كما يمكننا أن نلاحظ، تبتدعها لتصبح، ولو بعد أزمان، حقيقة واقعة. والأسوأ من هذا: حقيقة أيديولوجية واقعة.
ينطبق هذا الكلام، خصوصاً هنا، على أعمال من طينة “1984” لجورج أورويل… وينطبق – بين أعمال أخرى – على عمل أساس لواحد من معاصري أورويل، وهو آلدوس هاكسلي، الذي لا نجد غضاضة في العودة مرة بعد مرة إلى روايته “أفضل العوالم” التي كانت من علامات القرن الـ20 الأساسية. والمقاربة بين رواية أورويل ورواية هاكسلي طبيعية، ما دام الاثنان، وكلاً على سجيته، تعاطيا مع بعد أساس من أبعاد حياة الإنسان في القرن الـ20… واحد من طريق نص مباشر في سياسته، وسيتبدى مصيباً حتى في دقة توقعاته “1984” والآخر من طريق نص يغوص في ما يسمى الآن “تشييئية الإنسان” وإخضاعه لمقاييس محددة تنفي عنه أية عفوية أو خلق، أو أي استقلال عقلي وعاطفي.
عام 632 بعد ميلاد فورد
بالنسبة إلى آلدوس هاكسلي، لن يحدث هذا في زمننا الراهن، بل تحديداً في عام 632 بعد ميلاد “سيدنا فورد” – من ناحية كقياس لغوية على التاريخ الميلادي الذي يسمى إنجليزياً – “سيدنا اللورد”، ومن ناحية ثانية، استناداً إلى فورد مخترع السيارة الذي به يبدأ التأريخ للأزمان المقبلة. إذاً تحدث وقائع رواية هاكسلي في ذلك الزمن المقبل، حيث تكون الآلة سادت كل شيء، وحددت للإنسان، الأعزل من كل ما يمت إلى إنسانيته بصلة، تفاصيل حياته اليومية، وأسلوب عيشه وتفكيره وحبه وزواجه وإنجابه، علماً أن الإنسان، بالتزاوج، لن يكون الوحيد في الكون، عند ذاك، الذي ينجب الذرية… إذ في ذلك الزمن “البعيد” ستكون عمليات استنساخ البشر أضحت نشاطاً يومياً في المصانع، بحيث يضيع المرء أي كائن أمامه هو الحقيقي، وأي كائن هو المستنسخ.
في ذلك الزمن المقبل، الذي تصبح فيه الفاعلية مقياس كل شيء، تُنتج الكائنات الحقيقية، ما دامت هذه بدورها تخضع لعمليات التقييس البافلوفية نفسها التي تقوم على مبدأ أن تكرار أمر ما أكثر من 62 ألف مرة يجعله حقيقياً، راسخاً ومعتمداً… وهذا التكرار تقوم به الآلات من مراكز تأهيل دائمة الحركة، ما يوحد بين الكائنات جميعاً، ويجعلها خاضعة لمتطلبات الإنتاجية في مجتمع يصبح فيه “الكم” هو “الكيف”. ولسنا في حاجة إلى التأكيد هنا أن عالماً مثل هذا يفرغ فيه المرء من كل عاطفة وفكر مستقل، تسود فيه السعادة مهيمنة على الجميع. وهكذا إذ يموت الأفراد وهم في نحو الـ60 من عمرهم، لمجرد أن يخلوا الأماكن لآخرين قادمين، يموتون سعداء لا هم يشغلهم، ولا قلق يعتريهم: لقد تحمل المجتمع عنهم كل أعبائهم وليس لهم، هم، إلا أن يعيشوا وينتجوا في سعادة ما بعدها سعادة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
جرثومة إبداع
ولكن الإنسان… هو الإنسان، إذ حتى في خضم ذلك العالم المنتظم، الهادئ، السعيد، الذي تزول فيه أسباب الحروب والمنافسة، ثمة جرثومة إبداع تطلع بين الحين والآخر لتحرك وجدان شخص ما… مؤكدة أنه إذا كانت المجتمعات راضية بأن تعيش من دون تاريخ في نهاية التاريخ كما سيتصورها موظف الخارجية الأميركية فوكوياما بعد كتابة هاكسلي كتابه بأكثر من ثلثي قرن، فإن ثمة أفراداً يفشلون في ذلك. ومن بين هؤلاء الأفراد المدعو برنارد ماركس الذي – ويا لغرابة الأمر – يقع ذات يوم في غرام امرأة ويشعر – وأيضاً لا لغرابة الأمر! – بالشوق إلى الحرية. وهكذا تنوجد “البذرة الفاسدة” في ذلك المجتمع الوديع الهادئ الذي تسير أموره تبعاً لحسابات رياضية منتظمة ونظيفة. لكن برنارد ماركس يكتشف في الوقت نفسه أنه ليس وحيداً
في أفكاره الضالة المنحرفة… فهناك كذلك جون “المتوحش” الذي ينتمي إلى الاحتياط المولج برنارد برعايته… ووحشية جون هذا تقوم في أنه، اغتذى سراً، وطوال حياته من نصوص شكسبير التي، منذ بدأ يطلع عليها ويقرأها، لم يعد في وسعه نسيانها. ومن هنا راحت الأحلام والعواطف تملأه… وبدا لاحقاً مستغرباً، حين قال له واحد من رؤسائه في كل بساطة: “يا بني إن عالمنا الذي نعيش فيه اليوم، ليس ثمة مكان فيه لعطيل”. والمصيبة أن هذه الفكرة لم تكن لتخطر على بال جون المتوحش، فيبدأ صراعه الداخلي يمزقه، وهو الذي إذ يتأمل كلام الرئيس ينظر إلى المجتمع من حوله فيلاحظ حقاً أنه مجتمع مستقر، سعيد، منتظم، لا مكان فيه لأمور دخيلة طفيلية مثل الحب والفن والسعادة والإبداع. وهكذا، يتضافر تمزق جون، مع رغبات برنارد المكبوتة أولاً ثم المرمزة لاحقاً، لزرع الفتنة في ذلك العالم الأبيض النظيف… الذي هو، استناداً إلى كل الطوباويات التي بناها الإنسان لنفسه منذ بدأ يفكر نفسه إنساناً مستقلاً في قراراته، أفضل العوالم.
من الواضح هنا أن آلدوس هاكسلي 1894-1963 المتحدر من عائلة كان غالب أبنائها من العلماء العقلانيين بدءاً بجد زميل لداروين، وصولاً إلى عالم البيولوجيا جوليان هاكسلي شقيق آلدوس والحائز جائزة نوبل، من الواضح أنه إنما يريد أن يندد بكل يوتوبيا، تحاول أن تفقد الإنسان/ الفرد حس المبادرة والتفرد لحساب أفكار جماعية كأداء وكئيبة، تجرد الفرد من إنسانيته لحساب تكنولوجيا طاغية وقمع سياسي يساندها همها الأساس توفير أقصى فاعلية لمجتمع همه الإنتاج أكثر وأكثر، من دون أدنى اعتبار للسؤال حول: لمن ننتج ولماذا ننتج؟ ولقد كتب هاكسلي هذه الرواية في عام 1932، في وقت كانت فيه البشرية تقف على مفرق طرق حائرة بين التكنولوجيا والأيديولوجيا معتقدة أن عليها الاختيار بينهما، حتى أتى كتاب هاكسلي ليقول إن المسألة ليست مفاضلة بين الاثنين، بل بين تحالفهما من ناحية، وإنسانية الإنسان من ناحية ثانية. ولقد أثار الكتاب يومها ضجة كبيرة، وبدا بعض ما فيه خيالاً في خيال – ولا سيما فكرة الاستنساخ – ثم أتت نهاية القرن الـ20 لتقول إن الرعب الذي يملأ صفحات الكتاب مبرر ومنطقي… وإن الحياة غالباً ما تقلد الفن، ولا سيما في أمور تمس الحياة وتعزلها عن إنسانيتها.
نقلاً عن : اندبندنت عربية