“نحصل هنا على سلة غذائية تكفينا لأيام عدة، على رغم أنها توزع مرة واحدة في الشهر، ولدينا خيمة مجانية نعيش فيها على مساوئها بيد أنها تأوينا، منزلنا في إحدى ضواحي دمشق دمر بالكامل، وليس لدينا أي عمل يمكنه أن يساعدنا في المصروف، ولا مال لإزالة أنقاض المنزل أو إعادة بنائه، لذلك قررنا البقاء في الخيمة حتى إشعار آخر، أو إلى أن تتهيأ الظروف التي تسمح لنا ببناء المنزل”.

هكذا يقول أبو محمد الرجل الخمسيني من أحد مخيمات ريف إدلب الشمالي إلى “اندبندنت عربية”. مضيفاً “في كل شتاء تغرق هذه الخيمة ونحاول إصلاحها ما استطعنا، نستخدم كثيراً من الأغطية للتدفئة، أما في الصيف فلا يوجد ما يمكننا استخدامه لتفادي الحر، لذلك تأقلمنا مع الواقع المرير وبات هو الأمر الطبيعي، المساعدات الأممية لا تفي بالغرض، هي تساعد أحياناً في سد الرمق لكن لا تكفي على الإطلاق، لا يوجد مدرسة هنا فأطفالي الثلاثة بلا تعليم مثلهم مثل آلاف الأطفال السوريين. لا يمكنني التعبير عن حال المخيمات، فالبشر الطبيعيون لن يستطيعوا تخيل ما نعيشه”.

كثيراً ما كان الاقتراب من الحدود التركية في الشمال السوري يوفر حياة أكثر أمناً مقارنة ببقية المناطق التي كانت تصلها الصواريخ والبراميل المتفجرة، لذلك لجأ إليها مئات الآلاف من السوريين، فكلما اقتربت من الحدود وجدت كثافة في المخيمات، وعلى امتداد ريفي إدلب وحلب الشمالي تنتشر مئات المخيمات التي تعج بالنازحين السوريين القادمين من مختلف المحافظات، والغالبية العظمى منهم هم عائلات، معظمهم نساء وأطفال أو رجال من كبار السن.

أرقام وإحصاءات

في يونيو (حزيران) 2024 أصدر فريق “منسقو استجابة سوريا” تقريراً حول عدد المخيمات في الشمال السوري، وأوضح الفريق المتخصص بتوثيق الحاجات الإنسانية أن عدد المخيمات وصل إلى 1904 مخيمات، فيما تجاوز عدد قاطنيها مليونين و27 ألف شخص، أكثر من 50 في المئة منهم أطفال، و26 في المئة نساء، و2.91 في المئة من ذوي الحاجات الخاصة، وأكثر من 918 مخيماً من هذه المخيمات لا تحصل على مساعدات غذائية، بينما تصل المساعدات بصورة متقطعة إلى 437 مخيماً.

 

ويتابع التقرير سرد الأرقام المرعبة فيشير إلى أن “أكثر من 1133 مخيماً لا تحصل على الخبز سواء المدعوم جزئياً من المنظمات الإنسانية أو الممنوح من قبلها بالمجان، بينما يعاني أكثر من 991 مخيماً عدم توافر المياه، ويحصل 318 مخيماً على المياه بصورة دورية ولكن بكمية غير كافية، وكذلك يفتقر 829 مخيماً إلى خدمات الصرف الصحي، إضافة إلى ذلك هناك 1378 مخيماً ليس بها نقطة طبية أو مستشفى ويقتصر العمل على عيادات متنقلة ضمن فترات متقطعة، كما يوجد أكثر من 1128 مخيماً غير مهيأ أو قابل للسكن، إضافة إلى 1289 مخيماً في حاجة إلى تركيب أو إعادة تأهيل الحمامات والمرافق الصحية، كذلك يحتاج أكثر من 997 مخيماً إلى تأمين خيام بديلة أو ترميم الأضرار في الخيام الحالية، أما المخيمات التي لا تحوي أي مرفق تعليمي فهي أكثر من 1000 مخيم، إذ يضطر الأطفال فيها إلى الانتقال لمخيمات مجاورة أو قرى قريبة لتلقي التعليم”.

فضلاً عن الوضع المأسوي لنازحي المخيمات، حيث لا تتوافر الخدمات الأساسية، وفي كل شتاء تتكرر مأساة غرق الخيام أو احتراق بعضها نتيجة استخدام أساليب خطرة للتدفئة، إضافة إلى الجوع وانعدام الغذاء والمرافق الصحية، تتعرض المخيمات لقصف مدفعي وصاروخي من قبل قوات النظام السابق بين الحين والآخر، على رغم أن المخيمات لا تحوي أية مظاهر مسلحة.

لماذا لم يعودوا؟

في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، سقط نظام بشار الأسد الذي كان السبب الأول في مأساة قاطني المخيمات وغيرهم، ومنذ اللحظات الأولى توجهت عدسات الإعلام والتركيز العالمي نحو العاصمة السورية دمشق وما تشهده من تطورات سياسية واجتماعية، فيما بقيت قضية المخيمات منسية بين طيات الأحداث المتسارعة التي تفرض نفسها.

غالب قاطني المخيمات ما زالوا في أماكنهم، ولم يتغير عليهم شيء بسقوط النظام سوى وقف القصف الذي كانوا يتعرضون له، كذلك إحياء الأمل بالعودة القريبة إلى منازلهم، إلا أن هذه العودة يبدو أنها تصطدم بمعوقات عدة أهمها عدم وجود منازل لهم في الأصل، أو تدمير هذه المنازل بصورة كلية أو جزئية، وعدم توافر القدرة المادية لسكان المخيمات لبناء منازلهم الأصلية، في حين لم تُتخذ حتى الآن خطوات على الصعيد الدولي تبشر النازحين بأن إعادة الإعمار قريبة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في حديثها إلى “اندبندنت عربية” تقول عضو مجلس إدارة الدفاع المدني السوري، ندى راشد، إن “هناك نحو مليوني إنسان مهجر قسراً في مخيمات الشمال السوري، والجزء الأكبر من سكان هذه المخيمات هم من مهجري ريف حماة الشمالي وإدلب الجنوبي وريفي حلب الجنوبي والغربي، وهذه المناطق بالتحديد هي من أكثر المناطق الريفية في سوريا دماراً، أما بالنسبة إلى المدن فهناك مدن أخرى مدمرة بصورة كبرى، لذلك فإن عودة سكان المخيمات مرتبطة بوجود منازل وبنية تحتية في قراهم وبلداتهم الأصلية، وهذا كله مفقود حتى الآن، ولا يمكن عودة السكان في ظل هذه الظروف إلا بعد إعادة إعمار القرى والبلدات والمدن الأصلية للمهجرين، فلا يمكن الحديث عن العودة من دون وجود منازل ولا أفران ولا مراكز صحية ولا مياه ولا كهرباء ولا مدارس ولا أية منشآت للبنية التحتية”.

وتضيف المسؤولة في منظمة “الخوذ البيضاء”، أن “الدفاع المدني ينفذ ثلاثة أنواع من الأنشطة في المخيمات، أولاً الأنشطة المرتبطة بحالات الطوارئ مثل الإسعاف والإطفاء، والاستجابة الشتوية للمخيمات مثل تنظيف قنوات الصرف الصحي والاستجابة لحالات الأمطار. وثانياً الخدمات المتعلقة بعمل متطوعات الدفاع المدني السوري مثل مراكز صحة النساء والأسرة، إذ تضطلع بجولات رعاية صحية على المخيمات وتقديم الخدمات الطبية الأساسية. أما الجانب الثالث فهو العمل على دعم البنية التحتية في المخيمات، حيث عملنا في بداية الشتاء في نحو 80 مخيماً، ومن بعض الخدمات التي قدمناها تعبيد طرق وشق قنوات صرف صحي، وغيرهما”.

فجوة المساعدات والحاجات

تؤكد راشد أن “الأولوية كانت وقف القصف والمعارك، وهو ما حدث بالفعل بعد سقوط النظام، وعلى رغم ذلك لا تزال هناك فجوة هائلة بين الحاجات والمساعدات المقدمة، فخلال الفترة الماضية كانت المساعدات قد تراجعت جداً، وهي وإن بدأت تعود أخيراً خصوصاً من السعودية وقطر وبعض الدول العربية، لكن حجم الحاجات هائل جداً ليس فقط في المخيمات، فهناك أكثر من 90 في المئة من السوريين تحت خط الفقر، وحتى المهجرين القادرين على العودة إلى منازلهم الأصلية إن عادوا فليس لديهم سبل للعيش، والآن نحن في حاجة إلى المساعدة في إعادة إعمار وتأهيل المنازل السكنية، وإعادة تأهيل البنية التحتية المدمرة كي تكون هناك إمكانية لعودة بعض المهجرين، وأيضاً نحتاج إلى تأمين سبل العيش للمهجرين الذين سيعودون، لأن تأمين السكن من دون سبل للعيش لا يكفي، وكذلك نحن في حاجة إلى إعادة تأهيل البنية التحتية الخاصة بالزراعة مثل قنوات الري وتأمين البذار وغيرها وإزالة الألغام ومخلفات الحرب، وأيضاً من الضروري دعم الطاقة مثل الكهرباء من أجل الصناعة والإنتاج، إضافة إلى الخدمات الأساس مثل الرعاية الطبية وغيرها”.

 

وفق تقرير أصدرته “وحدة تنسيق الدعم” السورية المدعومة دولياً من “مجموعة أصدقاء الشعب السوري”، فإن 208 مدارس فقط تنتشر في 1459 مخيماً. وبحسب التقرير الذي حصلت “اندبندنت عربية” على نسخة منه، فإن “22 في المئة من هذه المدارس عبارة عن خيمة، و21 في المئة من مدارس المخيمات عبارة عن غرف مسبقة الصنع أو ما يعرف بالكرفانات، و20 في المئة منها أسمنتية، أما المدارس النظامية فلا تتجاوز نسبتها من إجمالي مدارس المخيمات 15 في المئة بنحو 35 مدرسة”.

ويؤكد التقرير أن هناك ست مدارس لا يوجد فيها مياه على الإطلاق ويحضر الطلاب المياه معهم من منازلهم، و59 في المئة من المدارس في حاجة إلى مدافئ في الشتاء، ومن بين جميع المدارس 10 في المئة فقط تتوافر فيها حاجات التدفئة، وهناك 60 في المئة من المدارس لا تتوافر فيها كميات كافية من مواد التنظيف أو الصابون.

أما عدد طلاب المدارس في المخيمات فيتجاوز 84 ألف طالب وطالبة، 52 في المئة منهم من الإناث، في حين أن 69 في المئة من الطلاب هم من الفئة العمرية بين ستة و10 أعوام. في المقابل فإن عدد المدرسين في مخيمات إدلب وحلب يصل إلى 3091 مدرساً، 10 في المئة منهم لا يتقاضون رواتب.

بالنسبة إلى قاطني المخيمات تعد العودة إلى منازلهم في قراهم ومدنهم الأصلية أهم أهدافهم وأعلى أمانيهم، لكن هذه العودة مرتبطة بعوامل عدة، أبرزها إعادة إعمار تلك المنازل، وتأهيل البنية التحتية، وتحسن الاقتصاد لتوفير فرص عمل، وكل هذا مرتبط بالاستقرار السياسي الذي لا يزال غامضاً في ظل تأخر انعقاد مؤتمر الحوار الوطني، ولا مؤتمر في الأفق حول إعادة الإعمار، إلا أن هذا قد يكون أيضاً أمراً طبيعياً، لأن التغيير السياسي الذي حصل في سوريا هو تغيير تاريخي وتحتاج إدارة المرحلة الانتقالية إلى مزيد من الوقت، بيد أن هذا الوقت يمر قاسياً على مهجري الشمال.

نقلاً عن : اندبندنت عربية