ليس ثمة علاقات تسلسلية بين روايات او حلقات “الملهاة” المختلفة، بل ثمة استقلالية نسبية لكل حلقة عن الأخرى، ولعل الرابط الأهم فيما بينها هو حضور الموضوعة الفلسطينية في كل منها، بصورة مختلفة عن الأخرى، مما يجعلنا إزاء حضورات متعددة بتعدد الحلقات. لا تحضر فلسطين بصورة مباشرة في “مصائد الرياح”، فالأحداث لا تتمحور حولها، بل تحضر بصورة مداورة على مسافات متباعدة. ويتمظهر هذا الحضور في: فلسطينية بطل الرواية، وتحدر صديقته أحلام من أصول فلسطينية، وتضامن صديقته ليديا البريطانية مع القضية وانتظامها في تظاهرات مؤيدة لها، وممارسة الضابط البريطاني العدائية في عهد الانتداب، واهتمام الصديقة إميلي بالرواية الفلسطينية، والحفل الموسيقي والأغنيات، والخيول العربية، وتعلق الجدة ببحر يافا، ومقاومة محاولات محو الشعب الفلسطيني، وعودة البطل إلى يافا، وسواها من الوقائع المتناثرة على صفحات الرواية.
رياح ونسائم
لمعنى الحقيقي، اختراع قديم لتحويل الرياح اللاهبة إلى نسائم باردة بهدف تبريد المنازل، وبالمعنى المجازي، هي تحويل الأزمات والمصاعب والعوائق إلى حلول وانفراجات وتسهيلات. وهو ما يتحقق بالكتاب، والأغنية الشعبية، والمقطوعة الموسيقية، والقصيدة الشعرية، والفيلم الجميل، واللوحة التشكيلية، والرقص التعبيري وغيرها، “كلها مصائد لتحويل الرياح اللاهبة إلى نسائم، والرياح اللاهبة التي لا تكف عن الهبوب علينا ما إن ندرك وجودنا في هذا العالم”، على ما ورد في الرواية (ص 218).
في المتن، تقوم شخوص الرواية باصطياد الرياح، ومواجهة الموضوعة الفلسطينية، كل على طريقته، فبطل الرواية، الفيزيائي والكاتب، يواجه بكتابة الرواية. والصديقة البريطانية ليديا تواجه بالهتاف في التظاهرات، وحمايته من الشرطة، وتشجيعه على مواصلة الكتابة. والزميلة الجامعية إميلي تواجه بتصفية الحساب مع جدها الضابط في عهد الانتداب وكشف تهافت سرديته، وإعداد الدراسات حول الرواية الفلسطينية، والمشاركة في المؤتمرات الأدبية. والصديقة الفلسطينية الأصل أحلام تواجه بالتعلق بالخيول، والحنين إلى الوطن، والانجذاب إلى البطل. وجميع هذه المواجهات تتم في إطار التعالق بين الشخوص المختلفة.
شبكة علائقية
في هذا الإطار ينسج إبراهيم نصرالله شبكة من العلاقات الروائية المتمحورة حول بطل الرواية. غير أنه، ويا للمفارقة، يمنع عن بطله الاسم في وقت يمنحه فيه للآخرين من الشخوص بمن فيهم الخيول. ولعله يفعل ذلك لتقاطعه مع البطل في نقاط عدة، فكلاهما فلسطيني وروائي ويتخذ من الموضوعة الفلسطينية مادة أولية لرواياته، مما يجعل من البطل قناعاً له ويقتضي عدم تسميته. وهو ما يفعله مع الراوي العليم الذي يحوله إلى شخصية روائية، مما يشكل إضافة نوعية إلى وظيفته. والمفارق أن نصرالله يضم الخيول إلى شخوصه، ويمنح بعضها أدواراً روائية، ويطلق عليها الأسماء. بالتالي، لا يقتصر التعالق على بني البشر مما دأبت عليه الرواية التقليدية، بل يتعداهم إلى الحيوانات، وقد يؤنسن بعضها كما يحيون بعض البشر في فضاء علائقي يتخطى النوع الواحد إلى سائر الأنواع.
تجري أحداث الرواية في عاصمة عربية على هامش مؤتمر أدبي يستمر أربعة أيام هي زمن الوقائع المعيشة. وتشكل إطاراً لاستعادة مجموعة ذكريات تحصل بين مانشستر ولندن، وتعود لسنوات طويلة، هي زمن الذكريات، وتعد بمثابة مقدمات تفضي إلى نتائج محددة، هي الوقائع المعيشة في الرواية. ومن خلال الوقائع والذكريات، تطرح الرواية، بصورة مداورة، السؤال الفلسطيني. وتطرح، بصورة مباشرة، السؤال الفني المتعلق بالعلاقة بين الروائي والراوي العليم، وسؤال العلاقة بالآخر، المختلف والمؤتلف. وهي تفعل ذلك في إطار شبكة علائقية تتمحور حول شخصية محورية، هي شخصية الفلسطيني العصامي الذي يدرس الفيزياء في جامعة مانشستر البريطانية، ويعمل في دكان شاورما لتسديد دين نفقات السفر والدراسة، ويتوج دراسته بشهادة الدكتوراه، ويشغل موقعاً متقدماً في ترؤس قسم الفيزياء في الجامعة، ويكتب الرواية بالإنجليزية، ويبلي فيها البلاء الحسن، مما يجعله موضع تكريم في المؤتمر الأدبي المعقود في عاصمة عربية. على أن هذه الشخصية تنتظم في علاقات نسائية يمكن تصنيفها بين العلاقة مع الآخر المختلف، من جهة، والآخر المؤتلف، من جهة ثانية. والرواية هي مسارات هذه العلاقات ومآلاتها. غير أنه قبل الكلام على هاتين العلاقتين المختلفتين، لا بد من الكلام على العلاقة بين الشخصية المحورية باعتبارها كاتباً روائياً وبين الراوي العليم الذي يسند إليه مهمة الروي، مما يطرح إشكالية الراوي العليم، عبر تاريخ هذا النوع الأدبي. وأظن أن نصرالله استطاع أن يضيف إلى وظيفة الراوي العليم الجديد الذي لم تعهده الرواية العربية، على حد علمي، حتى تاريخه.
الراوي العليم
في هذا السياق يصدر روايته بنص يتوجه به الراوي العليم إلى القارئ، يتحدث فيه عن وصف النقاد له بالعليم باعتباره يعلم كل ما له علاقة بالشخصيات والأحداث، وعن حاجة الكتاب إليه واستعانتهم به للتوغل في داخل الشخصية، لا سيما أنهم لا يرون منها سوى الخارج. وبذلك، يعي الوظيفة التاريخية المسندة إليه من قبل هؤلاء الكتاب. أما ما يضيفه إبراهيم نصرالله إلى الراوي العليم فهو أنه يجعل منه شخصية روائية، وبهذه الصفة يروح يتدخل مع الشخصيات الأخرى، ويتمظهر تدخله في تولي الروي بصيغة المخاطب، انتظامه في حوارات ثنائية مع بعض الشخوص، إسداء النصح للشخصية الروائية، تبصيرها بمآل الأمور، معاتبتها، ومشاكستها، مما يجعلنا إزاء شخصية روائية تضاف إلى الشخصيات الأخرى، وتتفاعل معها بصورة أو بأخرى، مما يجعلنا إزاء راوٍ عليم تفاعلي بامتياز.
العلاقة بين الشرق والغرب في الرواية تراوح ما بين إنسانية تتخطى الفوارق القومية والإثنية والدينية، وأخرى مشوبة بالرواسب التاريخية وسوء الفهم. ولكل منهما مساره ومآله في الرواية، يتمظهر النمط الأول في العلاقة بين بطل الرواية الفلسطيني الذي يحضر الماجستير في جامعة مانشستر وزميلته ليديا البريطانية التي تحضر الدكتوراه في الجامعة نفسها، وتروح هذه العلاقة تنمو بين الاثنين، في إطار إنساني، بمعزل عن الرواسب التاريخية بين بلديهما، من خلال المشاركة في الأنشطة والاشتراك في الهموم نفسها وتفاعل كل منهما مع الآخر، هي تشارك في التظاهرات المؤيدة للقضية الفلسطينية، وتنتظم في الهتاف بصوتها الجميل، وتشكل درعاً له يحول بينه وبين الشرطة. وهو يقدم الاهتمام بها خلال مرضها على العمل في أطروحته، ويشكل حاضناً لتفريغ ما يزعجها من العالم، في صورة نوبات غضب، مما يؤدي إلى تحسن صحتها. وإذ يبلغ نمو العلاقة الذروة في حب غير معلن بين طرفيها، يأتي موتها ليحول دون تحول ذلك الحب من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، وليبقيها في داخله امرأة وحيدة تقف بينه وبين الأخريات، ولعل هذا ما يفسر تردده وإحجامه عن التقدم في علاقته بإميلي وأحلام. وبذلك، نكون إزاء علاقة إنسانية راقية بين الشرق والغرب تتم فيها المشاركة في النشاط والاشتراك في الهم والتفاعل في الإنسان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
النمط الثاني في العلاقة بين الشرق والغرب، المشوب بالرواسب التاريخية، يتمظهر في التعالق بين بطل الرواية، حفيد جد فلسطيني مولع بتربية الخيل وزميلته البريطانية إميلي، حفيدة ضابط بريطاني متقاعد مولع بالحصول عليها بغض النظر عن الوسيلة. وهي علاقة ملتبسة تبدأ بسوء فهم حين تقتحم مكتبه غاضبة، بعد قراءة روايته، وتتهمه بتشويه صورة جدها بنسبة أعمال الاحتجاز والقتل والسلب إليه. وإذ تكتشف تهافت سردية الجد وصحة سردية الرواية، تحاول ترميم العلاقة معه من خلال الزيارات واللقاءات والدراسات، غير أن محاولاتها تبوء بالفشل، بسبب انشغال قلبه بليديا وامتلاء ذاكرته بالإرث الاستعماري الثقيل ما يحول دون تجسير الفجوة بينهما وبلوغ العلاقة خواتيمها المنشودة. هي تحاول أن تخرجه من الزاوية التي يحشر نفسه فيها. وهو يصر على عدم التجاوب معها رغم ما يكنه لها من مشاعر. ولعل محاولاتها ترميم العلاقة معه تندرج، في جانب منها، في إطار التكفير عن ذنب جدها، خلال عهد الانتداب، وهو الذي احتجز جده مع فرسه ومهره في زنزانة واحدة وقتل الأولى وسلب الثاني، ونسج سردية كاذبة للواقعة. وبذلك، تبين الرواية تهافت سردية المستعمر وشعوره المتأخر بالذنب، من جهة، وتثبت صحة سردية المستعمر وشعوره المتقدم بالظلم، من جهة ثانية. وعلى رغم ذلك، لا يتوانى البطل في نهاية الرواية من التصريح بجبنه في عدم التعبير عن مشاعره نحوها، فيشكل تصريحه جائزة ترضية لها واعترافاً متأخراً بالحب تكتفي به.
العربي المؤتلف
في مقابل العلاقة مع الغربي المختلف، ثمة في الرواية علاقة مع العربي المؤتلف، تتمثل في التعالق بين بطل الرواية وبين أحلام، الفتاة الفلسطينية الجميلة المشاركة في إدارة أعمال المؤتمر. وهي علاقة ملتبسة بدورها، بين طرفين يجمع بينهما الهوية الواحدة والشغف بالخيل والحنين لفلسطين، ويفرق بينها الزمان والمكان. وعلى رغم انجذاب أحدهما إلى الآخر وتعدد لقاءاتهما وتنوع أنشطتهما المشتركة، طوال أيام المؤتمر، فإن هذه العلاقة لا تؤتي ثمارها المرجوة، ولعل السبب يكمن في عدم التكافؤ العمري بينهما، وفي خوضه تجارب عاطفية ناقصة، وفي استحواذ شخصية الأب الراحل عليها. وقد يكون انجذابها إليه يعود، في جانب منه، إلى أنها رأت فيه صورة الأب الراحل، واستطراداً الوطن المحتل. ولعل هذا ما حدا بها، لحظة الوداع، إلى أن تحمله السلام إلى يافا. والمفارق في هذه العلاقة وفي غيرها هو أنها جميعها يتم إجهاضها في نهاية المطاف لأسباب تختلف من علاقة إلى أخرى، على رغم أن جميع الأطراف في هذه العلاقات من الشخوص الإيجابية. فهل الظروف السلبية المحيطة بها هي التي أدت إلى إجهاضها وحالت دون تحولها من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، حسب التعبير الفلسفي؟
أياً يكن الأمر، فإن إبراهيم نصرالله، وهو الروائي المحترف، عرف كيف يضع هذه العلاقات المجهضة في نسيج روائي محكم النسج، يفرد هامشاً واسعاً للتجريب، وكيف يصوغها بلغة روائية جميلة تفرد هامشاً واسعاً للشعر والأفكار العميقة، مما يجعل روايته مستحقة للقراءة، وما يجعله صياداً ماهراً للرياح.
نقلاً عن : اندبندنت عربية