يقدم مورغان هاوسل في كتابه نظرة عميقة في الأسس النفسية لسلوكياتنا المالية بهدف تعليمنا كيفية إدارة أموالنا بصورة فضلى. يتألف الكتاب من 20 فصلاً يفتتحها المؤلف بمقدمة عامة تتناول مفهوم علم نفس المال وأهمية دراسته ليستكشف بعدها الموضوعات الآتية: أسباب الجشع وأثره في الصحة النفسية، وأهمية التحكم في الإنفاق وإدارة المال بصورة رشيدة، وتحديد دور الثروة في تحسين جودة الحياة، فضلاً عن تحديد أهمية التبرعات والعطاءات في تحسين صحتنا النفسية.

يلجأ هاوسل في معالجته هذه الموضوعات إلى أمثلة عدة يستلهمها من رحم الحياة بغية توضيح المفاهيم والأفكار وتطوير المهارات في إدارة الأموال التي يزخر بها كتابه، جاعلاً منه سهل الفهم والتطبيق على أرض الواقع، ويختتمه بتقديم نصائح وإرشادات عملية تهدف إلى تحسين صحة النفس من خلال التعامل مع المال في عصر يعتبر فيه الوعي المالي وانعكاساته على الجوانب النفسية والعاطفية أكثر أهمية من أي وقت مضى، فبعد عرض تاريخي لعلاقة المجتمع بالثروة وتأثر القرارات المالية بالعوامل الاقتصادية المباشرة والتجربة الشخصية، يبحث هاوسل بالتغيرات الحديثة التي أصابت هذه العلاقة والتي توسعت لتشمل الاقتصاد السلوكي الدامج للمبادئ النفسية في اتخاذ القرارات المالية.

ويبرز كيف أن السياقات التاريخية والثقافية تشكل مواقفنا المالية، دارساً تطور مفهوم إدارة المال من الممارسات التجارية القديمة وانتقال الاقتصادات من الأعمال اليدوية إلى الوظائف الفكرية، مما جعل القواعد القديمة للاستثمار أقل فاعلية من استراتيجيات الاستثمار المعاصرة، مركزاً على دور العوامل النفسية فيها، فيبين لنا أن المشاعر والانحيازات المعرفية تؤثر في سلوكياتنا المالية أكثر من الحسابات العقلانية، وأن فهم هذه الأسس يساعدنا على تقدير سبب عدم كفاية النصائح المالية التقليدية في معالجة التحديات المالية الراهنة.

فكيف نتخذ قراراً مالياً؟ وما مفهوم الاستقلال المالي؟ وكيف يؤثر فيه علم النفس الفردي؟ كيف ومتى ينجح الإنسان في جمع ثروة؟… إلخ.

 عن هذه الأسئلة وغيرها يجيب إذاً كتاب “سيكولوجية المال” الذي يبدأ مؤلفه بالتشديد على أن تحقيق النجاح المالي لا يكون من طريق كسب المال أو الاستثمار بذكاء وحسب، بل أيضاً من طريق فهم المحفزات النفسية والقيود الشخصية والتفكير الطويل الأمد مقابل الإشباع الفوري، مناقشاً كيف أن رغباتنا الفورية غالباً ما تتعارض مع الأهداف المالية الصحيحة والمكافآت الكبيرة التي تستوجب الصبر والتخطيط على المدى الزمني الطويل، من دون أن ينسى الإشارة إلى دور الحظ والأخطار في تحقيق المكاسب المالية، مجادلاً أن المهارة والجهد مهمان، لكن الصدفة وعدم القدرة على التنبؤ بالأسواق المالية مهمان أيضاً.

دروس وأفكار

الكتاب عبارة عن مجموعة من الدروس والأفكار والنصائح تهدف إلى تحقيق التميز المالي ومعرفة إدارة الأخطار، وتبني نظرة تتعلق بتراكم الثروة، مما يسهل على القراء فهم النقاط الرئيسة وتطبيقها على استراتيجياتهم المالية، علماً أن إتقان سيكولوجية المال يتضمن ليس فقط تعلم الاستراتيجيات ولكن أيضاً تطوير عقلية يمكنها التعامل مع التقلبات الحتمية في الحياة المالية، فالنجاح المالي لا يعتمد بالضرورة على المعرفة، بل يعتمد على موقف كل فرد منا تجاه المال، مع الاعتراف أن تبني الموقف الصحيح ليس بالأمر السهل. ذلك أن إدارة المال بعرف هاوسل ليست مرتبطة دوماً بمعرفة الأسواق والعمليات وتحليل كيفية تطوير الشركات للاستراتيجيات والتعامل مع الأخطار واتخاذ القرارات وإدخال البيانات وتطبيق الصيغ لمعرفة كيفية التعامل مع الاستثمار والتمويل الشخصي والاستراتيجية الاقتصادية. فالإنسان لا يتخذ قراراته المالية أمام جداول البيانات، بل يتخذها على مائدة العشاء العائلية أو في قاعات الاجتماعات، إذ تتداخل قصصه الشخصية برؤيته للعالم، والمصالح التجارية بدوافع غامضة كالكبرياء والغرور، ففي كثير من الأحيان تؤدي العواطف والمشاعر إلى اتخاذ قرارات مالية خاطئة قد تؤثر في ثروة الفرد وتجلب له الشعور بعدم الرضا طوال حياته.

 يبدأ كتاب هاوسل برواية قصتين حقيقيتين تتحدث الأولى عن وفاة رونالد جيمس ريد سنة 2014 عن عمر يناهز 92 سنة. وريد ميكانيكي سيارات بسيط قضى معظم سني حياته في بلدة أميركية صغيرة، لكنه عند وفاته ترك ثروة قدرت بـ8 ملايين دولار، فكيف تمكن هذا الميكانيكي من جمع هذه الثروة؟ وكيف انتهى الأمر بريتشارد فوسكوني، المدير العام السابق في شركة الخدمات التمويلية العالمية ميريل لينش، مفلساً بعدما صُودرت ممتلكاته؟ من خلال هاتين القصتين الحقيقيتين اللتين تبدوان متناقضتين تماماً، يستخلص مورجان هاوسل 18 درساً حول علم نفس المال، تمثل 18 مهارة يجب على كل واحد منا إتقانها لفهم كيفية إدارة أمواله، يشرحها بالتفصيل على تتالي صفحات الكتاب 330، المذيل بملحق يحمل عنوان “تاريخ موجز يوضح سبب تفكير المستهلك الأميركي بالطريقة التي يفكر فيها حالياً” إضافة إلى كلمة شكر وعرفان.

أول هذه الدروس ألا أحد منا لديه التجربة نفسها مع المال، فلا يمكن إذا تعميم تجاربنا المالية على الآخرين كأنها حقيقة عالمية، فكل فرد منا يطور معتقداته الخاصة المتعلقة بإدارة أمواله سواء في الادخار أو الاستثمار أو الإنفاق، التي ترتبط بصورة وثيقة بتجاربه المالية وبالفترة الزمنية التي ولد فيها. ففي السبعينيات من القرن الـ20 مثلاً شهدت سوق الأسهم ارتفاعاً هائلاً في قيمتها، بينما شهدت هذه السوق عينها استقراراً مالياً في الخمسينيات دام لفترة 20 عاماً لم يحقق خلالها المستثمرون مكاسب تذكر، فما صح مالياً في الخمسينيات لم يصح في السبعينيات، ومن ثم فإن الانطباعات المالية المتعلقة بسوق الأسهم تختلف من زمن إلى آخر، فما وجده أحدهم فرصة ذهبية لكسب المال، كان مجرد مضيعة للوقت في زمن آخر، أما الحظ والأخطار فهما عاملان أساسان في جني المال.

صدفة مايكروسوفت

يخبرنا هاوسل أن بيل غيتس وبول آلان كانا عام 1968 طالبين في جامعة ليكسايد قرب سياتل، التي كانت آنذاك الجامعة الوحيدة في العالم التي تمتلك حاسوباً، فلولا هذه الصدفة لما وجدت شركة “مايكروسوفت”، لكن ما لا تخبرنا به القصة هو أن هناك طالباً ثالثاً يدعى كنت إيفانز كان أكثر ذكاءً من غيتس وآلان، توفي في حادثة تسلق جبال. لولا هذه الحادثة لربما كان إيفانز هو من أسس شركة مايكروسوفت صائراً بدل بيل غيتس أغنى رجل في العالم. فالحظ والأخطار هما عنصران لا يمكن قياسهما بسهولة عندما يتعلق الأمر بجني المال، مما يعني أن نجاحنا المالي ليس بالضرورة ناتجاً من مهارات وقرارات جيدة، لعله في بعض الأحيان مجرد ضربة حظ.

يروي مورغان هاوسل كذلك قصة راجات غوبتا، اليتيم الهندي الفقير الذي بدأ حياته من الصفر ليصبح في ما بعد الرئيس التنفيذي لشركة الاستشارات الشهيرة “ماكينزي” عند مغادرة غوبتا منصبه عام 2007، كانت ثروته تقدر بـ100 مليون دولار، لكنه لم يكن راضياً وقنوعاً بما حصله من أموال، بل أراد مزيداً منها، لذا عندما سمع بصفقة استثمار ضخمة لم يعلن عنها بعد، قرر بناءً على معلومات خاصة التداول بأسهم هذه الصفقة، مما أضاف إلى ثروته 17 مليون دولار… لكن هذه المكاسب دمرت سمعته وحياته المهنية، فقد خاطر غوبتا بفقدان كل ما لديه من أجل شيء لا يحتاج إليه، فكان كلما كسب المال ازدادت طموحاته المالية، لكن في مرحلة ما كان عليه أن يتعلم أن يقول “كفى”، ذلك أن الممتلكات المادية لا تجلب السعادة. دليل هاوسل على ذلك أنه منذ الخمسينيات من القرن الـ20 ازدادت معدلات الاستهلاك العالمي بصورة كبيرة بفضل نمو الثروات والعولمة التي سهلت التجارة الدولية.

لكن الاستهلاك المفرط واقتناء المنتجات الفاخرة لم يجعلا الناس أكثر سعادة من ذي قبل. فوفق عالم النفس الأميركي ألبرت أنغوس كامبل، ما يهم لتحقيق السعادة ليس الممتلكات المادية الفاخرة والباهظة الثمن، بل شعور الإنسان بالتحكم في حياته. والمال ليس الهدف، هو مجرد وسيلة لتحقيق الاستقلالية. وبما أن الثروة تمنح الإنسان استقلالية أكبر ومزيداً من الوقت، فهي تمكنه بمعنى ما من التحكم بوقته وحياته، مما يمنحه الشعور بالسعادة. والممتلكات المادية كالسيارة الفخمة وارتداء الملابس الراقية ذات العلامات التجارية الفاخرة والباهظة الثمن لن تجعل أي فرد منا أكثر جاذبية واحتراماً. ذلك أن الناس حين ينظرون إلى هذه الملابس والسيارات لا ينظرون إلينا، بل يتخيلون أنفسهم يرتدون هذه الملابس بدلاً منا ويقودون السيارة الفخمة مكاننا، وأن امتلاك منزل كبير لن يمنحنا الاحترام الذي نتوقعه، فهو لا يثير إعجاب أحد بقدر ما يثير إعجابنا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولعل كل ما تفعله هذه المظاهر هو إثارة رغبة الآخرين في أن يصبحوا أثرياء مثلنا، لذا إن كنا نسعى إلى الاحترام فعلى كل فرد منا اختيار التواضع والتعاطف واللطف، لأن الثروة الحقيقية ليست في ما نراه من سيارات فخمة ومنازل كبيرة وغيرها من مظاهر الثراء. بل إن الرخاء والسعادة غير مرئيين، لعلهما يكمنان في بعض المال غير المنفق الذي سيستخدم لاحقاً. العالم مليء بأشخاص يبدون متواضعين، لكنهم في الواقع أثرياء، كما أنه مليء بأشخاص يبدون أغنياء لكنهم بالكاد يستطيعون تغطية نفقاتهم الشهرية، لذا يجب ألا نخلط بين الثروة والرخاء، فقد يؤدي الرخاء إلى الثروة لكن العكس ليس بالضرورة صحيحاً.

كتاب مورغان هاوسل كتاب مليء بالحكم التي يمكن أن تغير طريقة تفكيرنا في جني المال وكيفية إدارته بذكاء عبر الزمن، فليس من الصعب أن نصبح أثرياء، بل أن نبقى كذلك.

يذكرنا هاوسل أنه للبقاء أثرياء علينا أن ندرك أن جزءاً من نجاحنا قد يكون مرتبطاً بالحظ، فلا يمكننا بالضرورة تكرار ما فعلناه سابقاً لربح المال، بل يجب علينا الانطلاق من قاعدة مالية صلبة قوامها عدم وضع كل أموالنا في استثمارات يمكن أن تفقد قيمتها إن انهار السوق، بل علينا الاحتفاظ دوماً باحتياط أمان يمكننا من مواجهة الأوقات الصعبة.

باختصار إن قراءة هذا الكتاب تساعدنا على فهم الأسباب النفسية وراء قراراتنا المالية، لعله “أحد أفضل الكتب المالية وأكثرها أصالة منذ أعوام” على ما كتب جيسون زويج في “وول ستريت جورنال” التي تقدم رؤى قيمة حول سيكولوجية الاستثمار الطويل الأجل، والعوامل البشرية التي تؤثر في قرارات الاستثمار وإدارة الأموال.

نقلاً عن : اندبندنت عربية