سباق تطوير وتوطين تقنيات الذكاء الاصطناعي يشبه سباق التسلح النووي خلال القرن الحالي.
أطلقت شركة Mistral AI الفرنسية الناشئة أخيراً نسخة محسنة من مساعدها الذكي “لي شات”، المصمم لتعزيز الإنتاجية في الحياة الشخصية والمهنية، والمتاح على تطبيقي iOS وAndroid.
قدرات متقدمة
مع ميزاته المبتكرة ونهجه المتمحور حول المستخدم، يتموضع “Le Chat” كلاعب رئيس في سوق المساعدين الأذكياء، مقدماً بديلاً قوياً وفعالاً للحلول الحالية. ولكونه مفتوح المصدر، يضمن استمرارية تطويره وتحسينه من خلال إسهامات المجتمع العالمي.
يقدم “Le Chat” إجابات سريعة، إذ يمكنه معالجة ما يصل إلى 1000 كلمة في الثانية مما يجعله من أسرع مساعد ذكي متاح. ويشبه “تشات جي بي تي” (ChatGPT) لكنه يتميز بإمكانية تحليل المستندات المعقدة، بما في ذلك ملفات PDF وجداول البيانات والصور، فضلاً عن دعمه لإضافة البرامج النصية وإجراء التحليلات العلمية، وإنشاء التصورات البيانية مباشرة داخل التطبيق. ويمكن لـ”Le Chat” إنشاء صور فوتوغرافية وإنتاج محتوى إبداعي بناءً على مدخلات المستخدم.
وعن أهمية توفير الإجابات السريعة، يوضح المستشار في تكنولوجيا المعلومات زياد بن سند أن “السرعة العالية في معالجة الكلمات، مثل 1000 كلمة في الثانية، تحسن تجربة المستخدم من خلال تقليل زمن الاستجابة، مما يجعل التفاعل مع الذكاء الاصطناعي أكثر سلاسة وطبيعية. ومع ذلك، هناك حدود تقنية مرتبطة بقدرة المعالجات والذاكرة على التعامل مع كميات هائلة من البيانات دون فقدان جودة الإجابات. ولتحقيق توازن بين الأداء والجودة، تعتمد النماذج المتقدمة على استراتيجيات مثل تحسين كفاءة المعالجة المتوازية وضبط آليات الترشيح والتنبؤ، بهدف تقديم إجابات دقيقة دون تأخير أو استهلاك مفرط للموارد”.
ويتيح “Le Chat” الوصول إلى معلومات موثوقة ومحدثة بفضل شراكته مع وكالة الأنباء الفرنسية (AFP)، مما يضمن أن تكون الإجابات مستندة إلى مصادر دقيقة وحديثة دون تأخير. ويمكن تحميل “Le Chat” واستخدامه على الأجهزة دون الحاجة إلى الاتصال بالإنترنت، مما يعزز من إمكانية الوصول والاستخدام.
انفتاح بفضل المصدر المفتوح
يعتمد “Le Chat” على مبدأ المصدر المفتوح، مما يضمن مستوى عالياً من الشفافية وقابلية التخصيص، إذ يتيح للمطورين والمستخدمين فهم آلية عمله وإجراء تعديلات وفقاً لحاجاتهم الخاصة. ويتيح الترخيص المفتوح دمج “Le Chat” بسهولة في مختلف المنصات والتطبيقات، مما يسهم في انتشاره الواسع وتعزيز تطويره المستمر بفضل إسهامات المجتمع.
وفي هذا السياق، أوضح الرئيس التنفيذي لشركة “Mistral AI” آرثر مينش أن بعض التحديثات الأخيرة لمنصة “DeepSeek” الصينية، استندت جزئياً إلى التقنية التي وفرتها شركته كمصدر مفتوح خلال عام 2023.
توطين الذكاء الاصطناعي
ويشير المستشار زياد بن سند إلى أن “Le Chat” يمثل خطوة استراتيجية لفرنسا في تعزيز مكانتها ضمن مجال الذكاء الاصطناعي، مما يقلل الاعتماد على المنصات الأميركية والصينية. فإطلاق نموذج محلي بهذا المستوى سيعزز السيادة الرقمية لأوروبا، ويدفع الابتكار داخل الشركات الناشئة والقطاعات الصناعية، خصوصاً في المجالات التي تتطلب معالجة دقيقة للغة الفرنسية. وأن نجاحه قد يشجع الحكومات الأوروبية على الاستثمار بصورة أعمق في تطوير نماذج منصات ذكية خاصة بها، مما يعزز تنافسية القارة في هذا المجال.
وفي ظل التطور السريع لهذا القطاع، أصبح من الضروري تطوير حلول “Artificial Intelligence” تتماشى مع الخصوصيات الثقافية واللغوية والتشريعية لكل دولة. ويسهم توطين الذكاء الاصطناعي في بناء بنية تحتية رقمية متكاملة تضمن حماية البيانات وسرية المعلومات، إذ يمكن تكييف الأنظمة لتتوافق مع القوانين الوطنية والمعايير الأمنية المحلية. ويساعد هذا التوجه في تقليل الاعتماد على التقنيات الأجنبية، معززاً قدرة الدول على التحكم في بيانات مواطنيها مما يضمن مستوى أعلى من الثقة باستخدام هذه التقنيات في الحياة اليومية.
إلى جانب ذلك، يحفز توطين الذكاء الاصطناعي النمو الاقتصادي من خلال دعم البحث والتطوير المحلي وخلق فرص عمل جديدة في مجالات التكنولوجيا المتقدمة. وبتطوير نماذج وحلول متوافقة مع اللغة والثقافة المحلية، يتمكن المطورون والباحثون من ابتكار تقنيات تلبي حاجات المجتمع بصورة مباشرة تعزز القدرة التنافسية للدولة عالمياً.
وبذلك، لا يعزز توطين الذكاء الاصطناعي الكفاءة التقنية والأمن الرقمي فحسب، بل يسهم أيضاً في بناء مجتمع رقمي يتسم بالاستدامة والابتكار. ومن خلال تبني هذا النهج، يمكن للدول تحقيق تكامل أفضل بين التكنولوجيا والخصوصيات المحلية، مما يفتح آفاقاً واسعة لمستقبل أكثر إشراقاً في عالم الذكاء الاصطناعي.
نماذج لغوية كبرى
تعد النماذج اللغوية الكبيرة (LLMs)، والتي يعد “شات” أحدها، حجر الأساس لعصر الذكاء الاصطناعي، إذ تلعب دوراً محورياً في فهم اللغة الطبيعية ومعالجتها، مما يمهد الطريق لتطوير تطبيقات ذكية متقدمة في مجالات متعددة، مثل الترجمة الآلية والأنظمة الحوارية والتحليل النصي. وباعتبارها المرحلة الأولى من هذا العصر، تشكل (LLMs) البنية التحتية التي يُبنى عليها عدد من الحلول الرقمية المستقبلية، مما يجعل تحسينها وتكييفها أمراً بالغ الأهمية.
وفي المقابل، فإن عدم سعي الدول إلى توطين تقنيات الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى استخدام أنظمة غير متكيفة مع اللغات واللهجات، والعادات الثقافية الخاصة بالمجتمع المحلي، وقد يسفر ذلك عن سوء فهم أو تفسير للبيانات والمعلومات، مما يقلل من فعالية النظام واعتماديته لدى المستخدمين المحليين. كما أن الاعتماد الكامل على الحلول والأنظمة التي توفرها شركات أجنبية يمكن أن يؤدي إلى فقدان السيطرة على البيانات الحيوية، وزيادة الأخطار الأمنية والسياسية، إذ قد تتأثر سياسات الدولة بقرارات خارجية مدمجة في الأنظمة لا تخدم مصالحها الوطنية، إضافة إلى ذلك قد يتسبب هذا الوضع في تباطؤ الابتكار المحلي وتراجع القدرة التنافسية في السوق العالمية، مما ينعكس سلباً على ثقة المستخدمين في تقنيات الذكاء الاصطناعي، ويؤدي إلى خلل في توافق الأنظمة مع القيم والمعايير المحلية.
تحديات تحقيق العوائد من الذكاء الاصطناعي
حتى الآن، تنحصر العوائد الأكثر وضوحاً للشركات من الذكاء الاصطناعي في رفع كفاءة العمل وتحسين إنتاجية الموظفين، إلى جانب الأرباح التي تحققها شركات تصنيع الشرائح وأجهزة البنية التحتية ومراكز البيانات. وعلى رغم اندفاع الشركات نحو تطبيق الذكاء الاصطناعي، فإن تحقيق عوائد مجزية من ذلك يعتمد على عوامل عدة يجب دراستها.
ويذكر المتخصص زياد بن سند في هذا السياق “لتقييم العائد المالي والاستراتيجي من الذكاء الاصطناعي، يجب على المؤسسات قياس تأثيره من خلال الإنتاجية وخفض الكلف وتحسين تجربة العملاء، والعائد على الاستثمار (ROI) عبر مقارنة الكلف بالعوائد، مع الأخذ في الاعتبار مؤشرات مثل نسبة الأتمتة وتقليل التدخل البشري وسرعة ودقة اتخاذ القرارات والأثر على تنافسية المؤسسة في السوق، ونسبة تقليل الاعتماد على الحلول الخارجية ومدى دعم الاستقلالية التقنية على المدى الطويل”.
ومن المتوقع أن تظهر مصادر جديدة للعوائد من الذكاء الاصطناعي مع انتشاره في مجالات وتطبيقات محددة، مثل سيارات الأجرة ذاتية القيادة وصناعة الأدوية والروبوتات.
وإلى أن يتحقق ذلك يبقى السؤال الأهم، هل الإنفاق الحالي من قبل المؤسسات والدول مبرر اقتصادياً، أم إنه استثمار في المستقبل وسباق سيادي؟
سباق الذكاء الاصطناعي… التسلح النووي الرقمي خلال القرن الحالي
يمكن تشبيه سباق تطوير وتوطين تقنيات الذكاء الاصطناعي، لا سيما النماذج اللغوية الكبيرة (LLMs) بسباق التسلح النووي في القرن الماضي، إذ باتت هذه التقنيات تمثل حجر الأساس للاستقلالية والقوة الاستراتيجية في العصر الرقمي. ومع تزايد أهميتها، تسارع الدول إلى تطوير بنى تحتية متقدمة لهذه التكنولوجيا، مما يجعلها عنصراً محورياً في موازين القوى المستقبلية، تماماً كما كانت الحال مع الأسلحة النووية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي المرحلة الحالية، يشهد العالم سباقاً تأسيسياً يتمحور حول بناء الأسس التقنية الأولية للذكاء الاصطناعي، في مشهد مشابه لبدايات سباق التسلح النووي عندما ركزت الدول على فهم المبادئ الأساس وإجراء التجارب الأولية. وفي هذا السياق، تسعى الحكومات إلى تطوير نماذج لغوية محلية تتلاءم مع السياقات الثقافية واللغوية الخاصة بها، مما يمنحها ميزة استراتيجية تتمثل في تحقيق السيادة الرقمية وتعزيز الابتكار الوطني.
أما المراحل المقبلة، فستشهد تطبيقات واسعة النطاق لهذه التقنيات وتزايداً في التنافس على التفوق التكنولوجي. وستعمل الدول على دمج الذكاء الاصطناعي في مجالات حيوية مثل الدفاع والأمن القومي والاقتصاد والتعليم، مما قد يفضي إلى سباق عالمي على الهيمنة التقنية. وسيشهد العالم تطورات في مجالات متقدمة مثل الحوسبة الكمومية والأمن السيبراني وتحليل البيانات الضخمة، في مشهد يعيد إلى الأذهان مراحل متقدمة من سباق التسلح النووي عندما انتقلت الدول من التجارب إلى بناء ترسانات استراتيجية.
وعلى المدى البعيد، قد يصبح الذكاء الاصطناعي عاملاً حاسماً في رسم ملامح موازين القوى العالمية، مما يستدعي وضع إطار تنظيمي دولي مماثل لمعاهدات الحد من انتشار الأسلحة النووية. فمن دون حوكمة فعالة، قد يؤدي هذا السباق غير المنظم إلى تداعيات غير محسوبة، تهدد الاستقرار العالمي. وبينما يشكل التقدم التكنولوجي فرصة لتعزيز التنمية المستدامة، فإن تحقيق توازن دقيق بين المنافسة والضوابط التنظيمية سيظل أمراً جوهرياً لتفادي سيناريوهات قد تعيد إلى الأذهان كوابيس الحرب الباردة، وربما ما هو أسوأ.
نقلاً عن : اندبندنت عربية