في دول عدة حول العالم، بلغت المرأة مراحل متقدمة في مجال العمل السياسي واستطاعت أن تثبت وجودها وكفاءتها في مراكز صنع القرار. أما في العالم العربي، فبدأت تقوم بدور منذ عام 2011 في الحركات الاجتماعية، وأيضاً في الحياة السياسية حتى أصبحت عنصراً فاعلاً. لكن بقيت مسألة مشاركة المرأة في الحياة السياسية جدلية على رغم التغيير الحاصل. وسُجّل تطور في بعض الدول وباتت المرأة حاضرة في مجالس وهيئات وبرلمانات وحكومات بعد أن أُفسح المجال لها، ولو بوجود عوائق عدة، واستمرت دول أخرى في المقابل بعدم الاعتراف بدور سياسي للمرأة، لذلك لا تزال مشاركة المرأة خجولة في العمل السياسي في دول عدة، على رغم التحسن النسبي، وتستمر التساؤلات حول أداء المرأة ومدى قدرتها على التأثير في الحياة السياسية والحزبية.
في لبنان، على رغم التقدم الذي حققته المرأة في العمل السياسي، يلاحظ غيابها عن الترشيحات لمنصب رئاسة الجمهورية بعد قرابة 15 عاماً على إقرار المؤتمر العالمي الرابع للمرأة عام 1995 بضرورة مشاركة المرأة في عملية صنع القرار وتولي المناصب السياسية.
حضور خجول في المشهد السياسي عامة
على رغم التقدم الملحوظ الذي يُسجل في مجال مشاركة المرأة في الحياة السياسية بالمقارنة مع عقود مضت، لا يزال حضورها وتمثيلها في السلطات الثلاث محدوداً في الدول العربية عامة، وفي لبنان خصوصاً، حتى إن تمثيلها في المجالس النيابية يعتبر الأدنى بين الدول العربية بالمقارنة مع دول العالم. في القضاء أيضاً، يبقى حضورها محدوداً، وتمنع بعض الدول توليها مناصب قضائية حتى اليوم، فيما تسمح دول أخرى بذلك من فترة قريبة.
أما في لبنان، فاستطاعت المرأة أن تنتزع مراكز معينة من الرجل بعد أن احتكرها طوال عقود، وأصبح حضورها أهم خلال الأعوام الأخيرة في المشهد السياسي، وكانت الوزيرة السابقة ريّا الحسن أول وزيرة داخلية عربية. وفي المناصب القضائية، بات عدد النساء يفوق تقريباً عدد الرجال، وفق ما أوضحته رئيسة الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية كلودين عون التي تشير إلى أنه “على رغم كل الجهود التي بُذلت والبرامج التي وضعت، لا يزال وجود المرأة في المشهد السياسي خجولاً. وحتى تصل المرأة إلى رئاسة الجمهورية، لا بد من وجودها أولاً بصورة أقوى في الحياة السياسية. فحتى اليوم لا يزال حضور الرجل غالباً كما في معظم القطاعات، وإن كانت المرأة استطاعت أن تخترق كثيراً منها وسجّلت حضوراً لافتاً. قد يكون السبب في نية المرأة ورغبتها في التوجه إلى مجالات معينة وقطاعات بسبب الظروف الاجتماعية والثقافية السائدة، فالتحديات كثيرة أمام المرأة حتى تتمكن من خوض غمار العمل السياسي بأكمل وجه، والعوائق لا تعدّ ولا تحصى خصوصاً في حال انعدام الدعم العائلي. في الواقع، هي مرغمة على القيام بحسابات كثيرة على رأسها واجباتها ومسؤولياتها كأم وزوجة وربة منزل، حتى إن التعديات التي تتعرض لها ضمن عملها في الحياة السياسية لها علاقة بالجندر، ولا ترتبط بقيامها أو بتقصيرها في عملها كما من المفترض أن يحصل في حال التخاذل أو التهاون”.
وأضافت عون أنه “في ثقافتنا، هناك أنماط معينة وأفكار مسبقة سائدة، وليس سهلاً على المرأة أن تفرض وجودها في الحياة السياسية وسط المنافسة الشديدة، ما دام أن ثمة إجحافاً بحقها ولا تقرّ القوانين بحقوقها. وهي لا تعتبر مواطناً من الدرجة الأولى في القوانين لأنها لا تساويها بالرجل. وثمة فجوات كثيرة في الفكر السائد، وتنعدم المساواة أيضاً بسبب الثقافة السائدة والنظرة إلى المرأة. أحياناً، تقع المسؤولية على المرأة، لكنها في كل الحالات تحتاج إلى وقت وتغيير حتى للوصول إلى مراكز صنع القرار عامة، لو رغبت في الدخول إلى الحياة السياسية، كما تحتاج عندها إلى الدعم المعنوي والمساندة من المحيط حكماً، ويتطلب منها ذلك كثيراً من الجهد”.
القانون المنصف أهم الشروط
حتى تبلغ المرأة مرحلة الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية، تحتاج إلى أن تكون موجودة بحضور بارز وبمعدلات كبرى في الحياة السياسية، بدءاً من البلديات والمنظمات غير الحكومية والأحزاب السياسية مع ضرورة وجود برامج لتمكينها، لكن الرجل ليس دوماً السبب وراء التحديات التي تواجهها، بل إن المشكلة في أن المرأة تشكك في قدراتها مما يشكل عائقاً أمامها، وذلك يعود للقوانين والأنماط السائدة في البلاد. وتعتبر عون أن “المسألة ترتبط بفرصة متكاملة للمرأة ضمن برنامج متكامل، إضافة إلى قانون منصف وثقافة الناس التي يجب أن تتغير، حتى يقتنعوا ويغيروا من سلوكهم. فلا يمكن الاعتماد على عنصر معين على حدة. من جهة أخرى، على مستوى العالم، ارتبطت المساواة بين الجنسين بالازدهار الاقتصادي. كما أن الأمن والسلام في الدول من العناصر التي ترتبط بوصول المرأة إلى مراكز صنع القرار، كما حصل في أوروبا الشرقية حيث شاركت المرأة في مفاوضات السلام، لكن المطلوب هنا، إدارة وقوانين تراعي كل فرد في المجتمع. في لبنان، حتى الأحزاب لا تنصف المرأة وهذا ما يرتبط أيضاً بدورها في المجتمع ومسؤولياتها العائلية التي تعتبر عوائق أمامها دائماً”.
وتابعت عون أنه “على رغم كل الصعوبات، يمكن أن تصل المرأة إلى أي منصب شرط وجود بيئة داعمة، وليس هناك مستحيل عندها. فكما لها دور الأم، للرجل دور الأب، وهما يتشاركان الأدوار في العائلة ويتقاسمانها لينجحا معاً، ويجب ألا يأخذ أي منهما دور الآخر لتُعطى الفرص المتساوية للجنسين”.
في لبنان، سُجّل حضور المرأة في الحكومات السابقة، وأثبتت قدرتها على أخذ القرارات وأنها تتمتع بكفاءة، ولا يرتبط وجودها بأنها امرأة. لكن في كل الحالات، التغيير مطلوب حتى لا يستمر تقييمها على أساس جنسها، بل على أساس عملها ومهماتها، وهذا التقييم لا يمكن أن يحصل بهذا العدد المحدود من النساء في الحياة السياسية، وما دام أن ليست هناك مناصفة في صنع القرار، لذلك صدر بالإجماع القرار 1325 ليقلب المقاييس، فشكل القرار الأول الذي اعترف بدور المرأة القيادي في تحقيق الأمن والسلام الدوليين وإسهاماتها في منع النزاعات وحفظ السلام، ودعا إلى مشاركة المرأة في جميع مستويات صنع القرار، وفي عمليات حل الصراعات والمشاركة في قوات حفظ السلام والمفاوضات، وحصل ذلك بعد إثبات أهمية وجود المرأة ودورها الأساسي الذي أثر في عملية السلام وإحلاله، إلا أن التغيير على نطاق أوسع في لبنان يتطلب وقتاً من دون شك لأنه يتعلق بجوانب عدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مقاييس تحدد وصول المرأة
ووفق ما أوضحه النائب السابق الناشط في مجال حقوق المرأة غسان مخيبر في الدستور اللبناني، “لا يحصل أصلاً ترشيح لمنصب رئاسة الجمهورية، بل تطرح أسماء، وأخيراً بات هناك أفراد يعلنون ترشحهم للمنصب في مؤتمرات صحافية. أما المرأة، فلم تكُن غائبة تماماً ضمن الأسماء المطروحة وكانت ترايسي شمعون من بينها، لكن كانت الحظوظ قليلة. والمنافسة في الحياة السياسية لا ترحم، لذلك هناك سيدات نجحن في المجال، خصوصاً عندما وجدت ست وزيرات في حكومة واحدة، وأخريات فشلن من دون أن نذكر أسماء. المطلوب هنا هو تحقيق مساواة بالكامل، بما أن المنافسة السياسية شديدة جداً، ولو وجدت كوتا نسائية، ويجب أن تتحضر المرأة لها لتكون هناك نماذج ناجحة ويستمر العاملون في المجال السياسي بالاختيار على أساسها، إذ يجب أن تكون المرأة أهلاً لتبوّء هذه المناصب، بغض النظر عن الجنس، وأن تكون مستعدة للمنافسة التامة والمحاسبة على أساس أدائها لا على أساس جنسها، لكن غالباً ما تصل المرأة إلى أعلى المناصب في الحياة السياسية نسبة إلى رئيس سابق رحل مثل أنديرا غاندي (سياسية هندية). وتقوم الأحزاب بدور جوهري في الدعم، كما حصل في الولايات المتحدة الأميركية التي بلغت أعلى مستويات التطور في مجال المساواة بين الجنسين. فالأحزاب التي دعمت كامالا هاريس وهيلاري كلينتون أوصلتهما، إضافة إلى أن الأخيرة زوجة الرئيس السابق بيل كلينتون. لذلك يمكن التأكيد أن المرأة لا تصل إلى سدة الرئاسة في أي دولة كانت عن طريق الصدفة، وينطبق ذلك على الدول المتقدمة، ومن المفترض بها أن تكون أيضاً ناشطة في العمل السياسي. وكانت هاريس مثلاً مدعية عامة، وهي مخضرمة في العمل السياسي والانتخابي”.
وحتى في الدول المتقدمة، قد يصعب على المرأة الوصول إلى هذا المنصب ما لم تبرز أولاً في المجال السياسي، والمطلوب منها أن تتناول المواضيع كافة في عملها السياسي من دون التركيز على قضايا المرأة حصراً، بحسب مخيبر، “وعليها أن تكون على معرفة عميقة بكل المسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية على نطاق واسع لتتعاطى معها كلها بالصورة المطلوبة. لكن في كل الحالات، لا ينكر أن المرأة تواجه دوماً عقبة أساسية بسبب ضيق وقتها ومسؤولياتها كأم وزوجة، مما يزيد من صعوبة خوض غمار العمل السياسي. لذلك، بالأرقام تبقى أعداد النساء اللواتي يستثمرن وقتهن في المجال السياسي أقل دوماً، إضافة إلى دور الأحزاب الداعمة الأساسي في كل الحالات لاعتبارها تشكل الرافعة للنيابة والوزارة وللبروز في الحياة السياسية، مما لا يتوافر غالباً للمرشحات لمراكز صنع القرار. وحتى اللحظة، هناك صعوبة في منافسة المرأة للرجل في الوزارات والبرلمان، وبقي التقدم الأهم الذي حققته في إطار البلديات”.
وشدد مخيبر على ضرورة “أن يستمر الحديث في موضوع المساواة والدعم للمرأة في العمل السياسي لتبقى هذه المسألة موضوع نقاش دائم، حتى تصل إلى أعلى المناصب ومن بينها رئاسة الجمهورية. فلا بد من طرحها حتى لا تُستبعد ولتغيير الفكر الثقافي. أما عدم وجود كوتا نسائية فقد لا يكون السبب الوحيد وراء الحضور الخجول للمرأة، لكنه يقوم بدور مهم بما أن ما يوصلها إلى مراكز صنع القرار نظام كوتا كخطوة مهمة تسهم في اعتياد المجتمع على فكرة أن المرأة يمكن أن تتبوّأ المناصب السياسية، كما حصل في الدول المتقدمة حيث كانت الكوتا النسائية المفتاح لتجاوز العقبات الاجتماعية والفكرية والثقافية”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية