يجلس رجلان على المسرح يرتديان بدلتين رسميتين ويتبادلان الضحك، وعلى اليسار تجلس شخصية معروفة، وهو قاضي المحكمة الأميركية العليا كلارنس توماس، أما الرجل على اليمين ذو الشعر الرمادي القصير والنظارات المستديرة فهو أقل شهرة بكثير، ومع ذلك لم يتردد توماس في الإشارة إليه بوصفه “ثالث أقوى شخص في العالم”.
في الأقل قد تكون مزحة من نوعاً ما، لكن هذا الرجل هو ليوناردو ليو الذي يعتبره كثيرون أحد المهندسين الرئيسين لحقبة ترمب الثانية المرتقبة، ويرتبط ليو بمشروع 2025 المثير للجدل والذي صاغه العشرات من مسؤولي إدارة ترمب السابقين والموالين له، وقد تلقى نحو نصف هؤلاء تمويلات غير معلنة المصدر من مجموعات مرتبطة بليو.
كما يُعد ليو المسؤول عن تعيين ثلث قضاة المحكمة العليا الحاليين وتوجهها نحو اليمين المحافظ، وفي ظل قربه من الرئيس المقبل دونالد ترمب صرح ليو بنفسه عن نيته “سحق الهيمنة الليبرالية” في الولايات المتحدة.
وقد يكون إبطال حكم “رو ضد وايد” التاريخي الذي ألغى الحق في الإجهاض في أميركا مجرد بداية، إذ يتجه ليو ومجموعاته المؤثرة الآن نحو حقوق مجتمع الـ “ميم” وتفكيك نظام المدارس الحكومية (لتوجيه التمويل نحو المدارس المسيحية الخاصة)، وتقييد الحصول على وسائل منع الحمل، ويقال إن أحد أهدافهم الرئيسة هو إبطال حكم “أوبرجفل ضد هودجز” الصادر عام 2015 والذي أقر المساواة في الزواج بين المثليين.
ولد ليوناردو في نيويورك عام 1965، وأثناء دراسته أطلق عليه زملاؤه لقب “فتى المال” لبراعته في جمع التبرعات لحفل التخرج، ودرس العلوم السياسية في جامعة كورنيل ثم عاد لدراسة القانون قبل أن يكرس وقته لتأسيس شبكة من المنظمات غير الربحية والمؤسسات المنحازة سياسياً التي استقطبت تبرعات ضخمة من كبار الأثرياء.
لكن إيمانه الديني ظل دائماً الدافع الرئيس وراء تحركاته، وفي هذا السياق يقول المسؤول في المنظمة غير الربحية ” Americans United for Separation of Church and State ” التي تركز على الفصل بين الكنيسة والدولة، أندرو سايدل، إن “ليو كاثوليكي شديد المحافظة وشديد التدين”.
وبحسب تحقيق أجرته مؤسسة “ProPublica” العام الماضي فإن خطة ليو للسيطرة على المحاكم وإبطال أحكام تاريخية مثل قصية “رو ضد ويد” لم تكن وليدة اللحظة، بل نتاج جهود بُذلت على مدى عقود، ويوضح التحقيق كيف “بدأ ليو في بناء أدوات لتحقيق هذا الهدف” من خلال نسج علاقات مع القضاة خلف الكواليس وقضاء العطلات معهم، وتعيين حلفائه في مناصب مؤثرة في قطاعات الحكومة الفيدرالية والسلك القضائي، ولتمويل كل ذلك، وفقاً لمؤسسة “ProPublica”، “أصبح ليو أحد أبرز جامعي التبرعات في السياسة الأميركية”.
ويصف سايدل، وهو محام ومؤلف كتاب ” The American Crusade: How the Supreme Court is Weaponizing Religious Freedom ” أو “الحملة الأميركية: كيف تسيّس المحكمة العليا الحرية الدينية”، يصف ليو بأنه “العنكبوت الذي نسج خيوط تأثيره داخل مركز شبكة الحركة القانونية المحافظة”، ويشير إلى أنه أثناء تأليف كتابه عن المحكمة العليا لفت انتباهه تصريح لأحد موظفي ليو السابقين الذي قال إن “ليو أدرك قبل 20 عاماً أن المحافظين خسروا الحرب الثقافية في قضايا الإجهاض وحقوق المثليين ووسائل منع الحمل، وأدركوا أنهم لن يحققوا النجاح إذا استمر الرأي العام في الانحياز ضدهم، وبالتالي قرروا التركيز على تعيين القضاة في المحاكم لتوجيه النظام القضائي بما يتماشى مع مصالحهم”.
وأدى ليو دوراً محورياً في تشكيل الترشيحات القضائية لترمب والتي يُنظر إليها كمفتاح لصياغة القانون الأميركي لأجيال قادمة، فقد صاغ قائمة القضاة المحتملين التي أعلنها ترمب خلال حملته الرئاسية عام 2016، وقدم له المشورة في اختيار نيل غورسوتش وبريت كافانو وإيمي كوني باريت (التي حلت محل القاضية الليبرالية روث بادر غينسبيرغ) للمحكمة العليا.
وقبل ذلك بأعوام أسهم في تثبيت القضاة المحافظين كلارنس توماس وجون روبرتس وصامويل أليتو، ويقول سايدل معلقاً على ذلك إن “الأمر الصادم حقاً هو اعترافه بلا مواربة بهدفه المناهض للديمقراطية، إذ يعتقد أن السيطرة على المحكمة هي السبيل الوحيد لمنع حكم الغالبية وإفشال نجاح الديمقراطية، لذلك انبرى لتدبير مخططه العدائي للسيطرة على المحكمة العليا”.
وفي كتابه “Opus: The Cult of Dark Money, Human Trafficking, and Right-Wing Conspiracy Inside the Catholic Churc” أو “أوبوس: عبادة غسيل الأموال والاتجار بالبشر والمؤامرة اليمينية داخل الكنيسة الكاثوليكية”، يخوض المؤلف البريطاني غاريث غور في عمق علاقة ليونارد ليو بجماعة “أوبوس داي” السرية، مفصحاً عن تفاصيل مثيرة للجدل حول تأثيرها في المشهد السياسي داخل أميركا.
ويقول غور إن “تجنيد ليوناردو ليو جاء ليوطد العلاقات بين أوبوس داي والمحكمة العليا الأميركية التي كانت تتطور منذ عقود، ولم يقتصر إسهامه في إعادة تشكيل المحكمة على مجرد تقديم قائمة بالقضاة المحافظين المناسبين، فبعد أسابيع من وفاة القاضي [أنتونين] سكاليا بدأ في حشد مئات الملايين من الدولارات لتحقيق حلمه في إعادة تشكيل المحكمة والمجتمع ككل.”
وفي حفل رسمي داخل المركز الكاثوليكي للمعلومات في واشنطن العاصمة، والذي يصفه غور بأنه الواجهة العامة الأبرز لجماعة “أوبوس داي” في أميركا، خاطب ليو الحضور قائلاً إن الكنيسة الكاثوليكية “تواجه البرابرة المنحلين أخلاقياً والعلمانيين والمتعصبين الذين خربوا وأحرقوا كنائسنا بعد إلغاء المحكمة العليا حكم ‘رو ضد ويد’، وهم يحضرون مثل هذه الفعاليات لمحاولة تخويفنا وإسكاتنا”.
ويواصل غور التحدث عن ذلك قائلاً “من دون سخرية أشار ليو إلى أن كل من حضر تلك الليلة هم أقلية مضطهدة، وبعضهم كان قد دفع ما يصل إلى 25 ألف دولار للطاولة الواحدة”، فما هي الخطوة التالية في أجندة هذا الرجل الذي يسعى، من وجهة نظره، إلى إعادة أميركا لـ “جادة الصواب”؟
غادر ليو “جمعية الفيدراليين”، المنظمة القانونية المحافظة والتحررية الأميركية، قبل أربعة أعوام ليؤسس مجموعة جديدة هي “CRC Advisors” التي تلقت عام 2022 تبرعاً بقيمة 1.6 مليار دولار من رجل الأعمال الثري باري سايد من شيكاغو، وهو مبلغ وصفته صحيفة “نيويورك تايمز” بأنه من أكبر التبرعات المقدمة لمؤسسة سياسية غير ربحية.
ويكتب غور أنه “بعد أن نظم ليو استحواذاً محافظاً وكاثوليكياً على المحكمة العليا، وجه ليو أنظاره نحو أهداف أوسع وحدد طموحاته لتنظيم ثورة مماثلة في قطاعات أخرى من المجتمع مثل التعليم والإعلام و’وول ستريت’ ووادي السيليكون”.
وينقل عنه قوله إن “تيار اليقظة في بيئة الشركات والتعليم والصحافة أحادية الاتجاه والترفيه تفسد شبابنا.”
ويقول سايدل لـ “اندبندنت” إن أحد أبرز مهارات ليو هي “إنشاء شبكة غامضة من المنظمات والجمعيات الخيرية لإخفاء ما يسعى إليه، ونعلم أنه إضافة إلى الأخوين كوخ ضخ أموالاً طائلة لدعم بعض المجموعات التي تقف خلف مشروع 2025″، في إشارة إلى المبادرة السياسية لتعزيز سياسات اليمين بهدف إعادة تشكيل الحكومة الفيدرالية بعد تولي ترمب الرئاسة.
ويقول سايدل “أتوقع أن يستمر تأثير [ليو] في قرارات اختيار القضاة، لكن الواقع أنه أنجز هذه المهمة بالفعل، والآن يتطلع إلى توسيع نفوذه ليشمل قطاعات أخرى من المجتمع كما فعل مع المحاكم الفيدرالية”، فما معنى ذلك تحديداً؟
وفقاً لسايدل فإن ليو وأنصاره “يستهدفون الثقافة” الآن، ويشير إلى أن محامين مقربين من ليو يجادلون بأن قانوناً صدر عام 1873 يجرّم توزيع وسائل منع الحمل عبر البريد أو بين الولايات يمكن تفسيره، على رغم تعديله على مدى عقود لاحقة، على أنه يجعل وسائل منع الحمل غير قانونية.
ويقول سايدل موضحاً إن”زواج المثليين مستهدف بالتأكيد، فهناك خمسة وربما ستة قضاة في المحكمة (العليا) حالياً سيصوتون لإلغائه”، مضيفاً أن “جماعة قومية مسيحية تدعى ‘ Liberty Counsel ‘ مقرها فلوريدا رفعت دعوى أمام محكمة الاستئناف للدائرة السادسة تجادل بأن قرار أوبرجفل غير دستوري.”
ويرى أستاذ العلوم السياسية في دالاس تكساس، والت بورجس، أن طموح ليو في النهاية هو أن يصبح شخصاً مؤثراً في القرارات، ويقول إن “معظم الأميركيين لا يدركون أن لويس باول، الذي عينه (الرئيس) ريتشارد نيكسون في المحكمة العليا، كتب ما نسميه اليوم مذكرة باول، وهي في الأساس إستراتيجية سياسية لتحييد المفاهيم الليبرالية في المحاكم.”
وكُتبت مذكرة باول عام 1971 في خضم صراع بين الشركات الأميركية والحركات الاجتماعية الصاعدة (مثل مواجهة شركات التبغ الكبرى مع الناشطين المناهضين لأخطار التدخين). ويضيف بورجس “لقد نجحت المذكرة في ذلك وكانت خريطة طريق لأعوام، فخطة ليو تسير على الدرب نفسه وستظل مهيمنة لأعوام أيضاً”.
ليس من دون سبب، على ما يبدو، أن مجلة “ذا نيشن” The Nation وصفت المذكرة بأنها “مشروع 2025 في عصر نيكسون”، ويقول سايدل إنه من الصعب عند تقييم كل ما حققه ليو وما يخطط له على ما يبدو، تجنب الظهور كمناصر لنظرية المؤامرة، لكنه يضيف “أحياناً تكون هناك بالفعل مؤامرات للاستيلاء على السلطة، وهذا ما نتحدث عنه.”
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي وقت سابق من هذا الأسبوع أفادت “اندبندنت” أن معهد السياسات الأميركية ” America First Policy Institute”، وهو مركز أبحاث يميني، سيحل محل مؤسسة هيريتاج ومشروع 2025 في تحديد مسار تركيز ترمب، وأفاد التقرير أن معهد السياسات الأميركية يروج لسياسات تتضمن تعيين موالين في مناصب السلطة التنفيذية، وإجبار أجهزة تنفيذ القانون المحلية وداخل الولايات على تنفيذ عمليات ترحيل جماعية، واتباع نهج تصادمي في العلاقات مع الصين.
ووفقاً لموقع “Monitoring Influence” المتخصص في تتبع المنظمات ذات الدوافع السياسية ومموليها، فقد قدمت منظمة ” America First Works ” عام 2020، وهي المنظمة الشقيقة لمعهد السياسات الأميركية، ما يقارب 5 ملايين دولار مخصصة تحديداً لمشروع “الانتخابات النزيهة” التابع لليوناردو ليو، وهي “مجموعة تعمل على فرض قوانين أكثر تقييداً للتصويت”.
وذكر موقع “Monitoring Influence” أن مشروع “الانتخابات النزيهة” “نشر معلومات مضللة قبيل انتخابات عام 2020 وعقد سلسلة من المؤتمرات عام 2021 مع مشرعي الولايات وجماعات الضغط المحافظة الرائدة لتدريبهم على تنفيذ تشريعات أكثر تقييداً للتصويت”.
وتنسج المنظمات المرتبطة بحركة اليمين الجديد شبكة معقدة، لكن مع بدء تبلور تداعيات فترة رئاسية ثانية محتملة لترمب فقد بدأت هذه الشبكة في الكشف عن نفسها والأشخاص الذين يحركونها ويوجهونها، وعلى رأسهم ليوناردو.
نقلاً عن : اندبندنت عربية