اتفق الأولون على أن الرصيف هو ذلك المساحة المخصصة لاستخدام المشاة، وهو تلك المساحة الآمنة والمريحة التي يمكن للجميع الوصول إليها، ويجري فصل الأرصفة عن الطريق أو الشارع ضماناً لسلامة المارة. واتفق القدماء على أن الأرصفة مملوكة للبلديات، لكن غالب قوانين دول العالم تلزم مالك العقار أو المحل المقابل بصيانة الرصيف، وعلى رأس مفهوم الصيانة يأتي التأكد من خلوه من العوائق والعراقيل التي قد تمنع مرور الأفراد، أو تسبب لهم ضرراً أو خطراً.
لكن في مصر، يرتبط الرصيف بصورة شبه شرطية بمفهوم “الغزو” ومعنى “الاحتلال”، لكنه غزو من نوع خاص واحتلال من النوع الذي بات المصريون على شبه وفاق معه، أو ربما اعتياد. كثير من دول العالم، وبخاصة الثالث، يعاني ضياع الحق في الرصيف. وعلى رغم أن المواطن هو من يغزو الرصيف ثم يحتله ومن ثم يعلنه منطقة محررة من سطوة القانون وسيادة الدولة، فإن المواطن هو نفسه أيضاً ضحية هذا الاحتلال.
هذه الآونة في مصر يندر وجود رصيف ناج من الاحتلال، إن لكم يكن عبر “فرشة” أدوات منزلية وملبوسات وأكسسوارات رخيصة أو “نصبة” شاي وقهوة وسحلب شتاء وليمونادة صيفاً، فبطاولات ومقاعد تعلن أنها امتداد للمقهى أو صناديق وبرادات هي امتداد لكشك بدأ صغيراً ثم تعملق. وإن لم يكن كل ما سبق في المناطق الشعبية والأحياء التجارية، فإن أصحاب فيلات وملاك عمارات خصوصاً في التجمعات السكنية الجديدة يعدون أرصفة عقاراتهم امتداداً طبيعياً لممتلكاتهم.
المدن السكنية الجديدة عامرة بفيلات وعمارات فاخرة بلا أرصفة، بعد أن أصبح الرصيف حديقة غناء جميلة محاطة بسور شجري رائع، لكنها حكر على أصحاب العقار، أما الرصيف فبات في خبر كان.
إشغالات “أكل عيش”
المدن السكنية القديمة التي نجا بعض من أرصفتها من إشغالات “أكل عيش” باعة الأرصفة، أو “التوسع في أكل العيش” من قبل أصحاب المحال، أو “ساعة لقلبك” بضمان صحاب المقهى ورضا رواده، تجد أرصفتها المتبقية في مواجهة بين الدين والمتدينين من جهة، وأعداء الدين وكارهي المتدينين من جهة أخرى. إنها “غزوة” الصلاة والمصلين على الأرصفة. فإما المسجد الواقع على مرمى حجر أو حجرين على أكبر تقدير بعيد ولا مانع من إقامة الصلاة على الرصيف لعل أحدهم نسي الصلاة فينضم إلى مصلى الأرصفة، أو لأن مشهد المصلين على الرصيف الواقع بين مسجدين ربما يكون سبباً في أن يهتدي أحدهم إلى الإسلام.
وقبل بضعة أعوام، تناقل مصريون فيديو لشابة قررت أن تصلي على رصيف القطار في محطة طنطا (شمال مصر)، وتحول أثير السوشيال ميديا وكذلك الإعلام التقليدي إلى فريقين متصارعين بين مجموعة ترى في الصلاة على الرصيف من أحلى المشاهد وأروع الأعمال، وآخر يرى في احتلال الرصيف بغرض الصلاة سفهاً وضرباً من النزق والمزايدة الدينية.
اللافت أن الجهة الرسمية الوحيدة التي ضلعت في الصلاة على الرصيف كانت دار الإفتاء التي لم تتطرق من قريب أو بعيد إلى احتلال الرصيف، بل صال عدد من رجال الدين في الدار وجال في مسائل تتعلق بمدى جواز صلاة امرأة أمام الرجال، وحكم ترك امرأة الصلاة لعدم وجود مكان مناسب، وهل صلاتها على الرصيف جالسة وهي ترتدي الحذاء يجوز أم كان عليها الوقوف وخلع الحذاء. أما احتلال الرصيف فلم يأت ذكره أو السؤال عنه.
السؤال عن الرصيف في غالب المدن صار سؤالاً غريباً عجيباً قلما يطرأ على بال أحد، وإن طرأ فإن قائمة طويلة من المبررات الاقتصادية والحجج الاجتماعية والأسانيد الدينية والشماعات الشعبوية تمطر رؤوس السائلين، ومنها ما يصل إلى درجة اتهامهم بقسوة القلب أو طبقية الفكر أو معاداة الدين أو كل ما سبق.
يطرح كتاب ومثقفون أسئلة تتعلق بالرصيف ومآله بين الوقت والآخر. وتشن الدولة حملات في مواسم أو تحت ضغط مطالبات أو من منطلق الرد ودحض اتهامات بالتقاعس أو التجاهل أو اللا مبالاة، بما في ذلك تلك الواردة من أجهزة الدولة الأخرى إضافة إلى البرلمان.
وبين الحين والآخر يناقش البرلمان “إشغالات” الرصيف. وتدور مناقشات وتجري استجوابات وتُطرح مقترحات وتُوجه مناشدات وتُطلق قرارات، بل ربما تسن قوانين وتدشن حملات، ثم يعود حال الرصيف إلى ما كان عليه وربما أكثر. وقبل ثلاثة أعوام طالبت لجنة الإدارة المحلية في مجلس النواب بضرورة التصدر لأزمة إشغالات الطرق، والتعامل السريع مع الانتشار غير المسبوق للإشغالات والباعة الجائلين، أو بالأحرى مفترشي الأرصفة في مختلف أرجاء مصر.
وجرى عرض تقرير برلماني تضمن مقترحات مثل إنشاء أسواق بديلة، والتنسيق بين الوحدات المحلية والجهات الحكومية الأخرى صاحبة “الولاية” على الأراضي الفضاء، لتوفير أماكن مناسبة للأسواق وتبني حملات إعلامية للتوعية والتعريف بحق المواطنين في الأسواق الآمنة والأرصفة الخالية من الإشغالات، وغيرها من المقترحات والتوصيات، وفقط.
حملات لكن موسمية
عادة تعقب مثل هذه المناقشات النيابية التي تصل أخبارها إلى وسائل الإعلام حملات مكثفة من قبل الجهات الرسمية المسؤولة عن رفع الإشغالات، وهي الحملات التي تحتل مكانها هي الأخرى في وسائل الإعلام ثم تعود الأمور إلى ما كانت عليه.
ويعرف المصريون جيداً صيحة “البلدية جاية” التحذيرية التي يطلقها أحدهم في أي من الشوارع، وبخاصة تلك التي تحولت إلى أسواق شعبية عشوائية، أو التي اختلفت أرصفتها وجزء من حرم الشوارع أمام زحف الإشغالات.
ويتلقى أحدهم هذا “إخبارية” وغالباً ما تكون اتصالاً من شخص ما يخبره أن قوات تطبيق القانون الخاص بإشغالات الطرق في طريقها لرفع الإشغالات، والذي يقوم بدوره بإطلاق الصياح التحذيري، فيهرع الجميع في تحويل البضائع إلى مداخل العمارات وتتبخر طاولات ومقاعد المقاهي في غمضة عين في المخازن، وتدخل البضائع المعروضة إلى حرم المحال، ويكتشف الجميع أن في الشارع رصيفاً!
وتأتي البلدية لتلتقط الصور التي تبين رونق الشارع وجمال الرصيف، وربما يصادف أن تكتشف “البلدية” وجود بائع أو اثنين لم يتمكنا من رفع بضائعهما فتجري مصادرتها، وأحياناً قذفها بخشونة لتستقر مهشمة على شاحنة البلدية.
خشونة التعامل غالباً ينجم عنها قدر وافر وبالغ وواضح من التعاطف الجماهيري مع الباعة. المواطنون أنفسهم الواقع عليهم الضرر من احتلال الأرصفة والمضطرون للمشي في عرض الشارع، يبالغون في تعاطفهم مع المواطن في مواجهة “الحكومة”، إذ يرى بعض أن هذا التعاطف يختزل ويرمز ويعبر عن ضغوط وأثقال تعانيها القاعدة العريضة من الناس لأسباب عدة أبرزها اقتصادي، أي إنه نوع من الانتقام الرمزي!
والبعد الاقتصادي حاضر بشدة في احتلال الأرصفة. فخروج الأرصفة من المظلة الرسمية أو انفلاتها من مظلة الدولة كثيراً ما يمكن تفسيره وتحليله باعتباره سبباً ونتيجة للأوضاع الصعبة والنمو الاقتصادي والمؤسسي المحدود.
تشير أطروحة ماجستير للباحثة في مجال التخطيط الحضري المتكامل والتصميم المستدام دينا علاء عبدالله (2022) إلى أن 70 في المئة من القوى العاملة، و30 في المئة من الإنتاج في الدول النامية غير رسميين، ومصر ليست استثناء.
وتشير في الأطروحة وعنوانها “عن عدم رسمية الأرصفة: تأثير الممارسات غير الرسمية المخالفة للقواعد على قدرة الناس على المشي”، إلى أن التعدي على الأرصفة ظهر في الشوارع والأرصفة والأماكن العامة في مصر بصورة عامة، وهو تعد يحدث من خلال الامتدادات في الشوارع باستخدام أنواع مختلفة من الهياكل الدائمة أو الموقتة، مثل مقاعد المقاهي وأكشاك الطعام والشراب وبيع الملابس والسلع بأنواعها وتمديد بضائع المحال خارجها، وتضاعف أعداد باعة الشارع ليس فقط على الأرصفة بل في المناطق المخصصة لانتظار السيارات، وحرم الشارع الذي تسير فيه المركبات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتقول الباحثة إن هذه الممارسات إما أنشطة اجتماعية ثقافية أو اقتصادية جزئية، لكن سمة “عدم الرسمية” باتت ظاهرة تتجاوز الصورة النمطية المعروفة للفقر والخروج على القوانين، فهي تؤثر في الحياة اليومية، وأصبحت منظومة من التفاعلات المكانية المتكررة وجزءاً “مقبولاً” و”معتاداً” من سلوكات الناس.
وبحسب “البنك الدولي” ينتهج كثر من أصحاب المحال والشركات الصغيرة والأفراد في مصر نهج “اللا رسمية” في التعدي على الأرصفة، إذ يمكنهم الاستفادة من عواقبه الإيجابية متجاهلين حقيقة أن هذا التعديل يؤثر فيهم وفي محيطهم سلباً. ومن وجهة نظرهم، الجانب الاقتصادي الإيجابي الناجم عن تجنب عبء احترام اللوائح والقوانين يخلق فرصاً اقتصادية مرنة.
كل منهم يتخذ قراراته بحسب ما يتراءى له، ويختار موقعه بحرية كاملة، ويعتمد على موارد يحدد مقاييسها ومعاييرها دون تدخلات، وينافس في سوق مع آخرين ضاربين عرض الحائط مثله بالقوانين واللوائح.
ما جرى هو أن هذه التعديات وانتشارها وتوسعها وتحولها إلى أسلوب حياة، أدت إلى “إعادة اختراع الأرصفة بناء على حاجات قطاع من المصريين، يؤثر في صورة الشارع وفي السلوك الاجتماعي العام، ويغير من خاصية وقابلية استخدامات الأرصفة من قبل بقية المواطنين”.
توليفة من الأسباب التقليدية
يبدو أن بقية المواطنين اعتادوا أو تقبلوا أو تجاهلوا أو تواءموا مع منظومة غياب الرصيف واحتلاله. وتشير الباحثة إلى أن بعض أنشطة الأرصفة غير الرسمية في مصر أصبحت “تتبع نمط الاستحواذ، وتحولت إلى ممارسات غير رسمية ثابتة”. وأصبح جزء من عقلية المصريين وبخاصة النساء وكبار السن مبرمجة بصورة واضحة على أنه كلما كان هناك مقهى ممتد إلى الرصيف أو محل مستحوذ عليه أو باعة يحتلونه، فإن عليهم النزول إلى عرض الشارع للمشي وسط السيارات، وكأن الرصيف هو حق لهذه الأنشطة وليس حقاً لهم.
الكاتبة الصحافية كريمة كمال تتطرق في مقال عنوانه “ما بعد الرصيف” (2024) إلى ما آلت إليه أوضاع الناس والأرصفة، قائلة “لم يعد الرصيف للمارة وما زالت المقاهي والاستاندات (فرشات البيع) تحتله. والنتيجة أن المارة صاروا يسيرون في نهر الشارع ولا تستطيع أن تلومهم، فلا يوجد رصيف ليسيروا فوقه، والأسوأ ليس أن السيارات باتت لا تستطيع المرور في نهر الشارع بسبب سير المارة فيه، بل إن المقاهي زحفت لتحتل جزءاً كبيراً من نهر الشارع”، متسائلة “أين حق المواطن في أن يسير على رصيف آمن؟ أو أن يقود سيارته في كامل مساحة نهر الشارع؟ ليس من حق القائمين على الأحياء أن يجوروا على الحقوق الأساس للمواطن”.
وسبقها إلى الشكوى وطرح الأسئلة الكاتب الصحافي إبراهيم العشماوي في مقال عنوانه “ثقافة احتلال الأرصفة والشوارع” (2019)، الذي أشار فيه إلى تحول السير في عرض الشارع إلى عادة دائمة لدى المصريين، وذلك بعد أن استسلموا لحقيقة أن الرصيف لم يعد لهم وأنه صار محتلاً، وصار لهذا الاحتلال شرعية الاستمرار، مضيفاً أن “التعدي على حرم الطريق أصبح ثقافة متأصلة وعادة يعدها بعض حقاً مكتسباً، ونمطاً سلوكياً يقوم على الاستهتار بالمرافق العامة ومصلحة الغير”.
وفي كل مرة يجري فيها رفع إشغالات الأرصفة والشوارع تدور جدلية الفقر وانعدام الرحمة والحرمان من أكل العيش في مقابل هوية الرصيف في الأصل، باعتباره ملكية عامة للصالح العام، وحقاً للمارة وأماناً للمشاة.
ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية وزيادة عدد الباحثين عن عمل أو زيادة الدخل أو فرصة تحقيق ربح من دون ضرائب أو رقابة أو لوائح، توسع هامش الاحتلال وزادت أعداد المحتلين للأرصفة، وأمعنت الجهات المتخصصة في غض الطرف عن التعديات.
وتراوح التفسيرات ما بين التيسير على المواطنين في ضوء الأوضاع الصعبة أو البحث عن قدر أوسع من الرضا الشعبي أو في الأقل خفض حدة الغضب أو التململ، إضافة إلى توليفة من الأسباب التقليدية مثل اللا مبالاة والتقاعس وشن الحملات موسمياً فحسب.
ويضاف إلى ذلك عوامل مستجدة منها اعتياد غياب الرصيف والتأقلم مع التعايش السلمي مع سير المشاة وسط السيارات، وتضاؤل أو اختفاء مفهوم الرصيف باعتباره حقاً، والتعامل معه باعتباره إما رفاهية لا قبل لنا بها أو سمة غربية لا تناسب عاداتنا وأحوالنا.متلازمة الفقر والبؤس والجهل وضيق ذات اليد مع تقبل ومباركة احتلال الرصيف تقف عاجزة أمام احتلال الأرصفة من قبل الأثرياء والمتعلمين من أصحاب سعة ذات اليد، وهو ما يرجح كفة غياب مفهوم الرصيف دون شرط الفقر والبؤس، وشيوع ثقافة الإشغالات التي لا تفرق بين غني وفقير ومتعلم وأمي، إلا بحجم الاحتلال ومكونات الغزو.
نقلاً عن : اندبندنت عربية