شكل الانهيار المالي محطة فاصلة في مسار عنوانه “نهاية أيام العز” على مستوى القطاع المصرفي في لبنان، وهو عماد الاقتصاد المحلي. وتعد خطوة “إعادة هيكلة القطاع المصرفي” وتفعيل دور البنوك في عمليات التسليف والادخار بمثابة المدماك لعودة انتظام الحركة الاقتصادية.

لكن يبقى هذا الطرح موضع الريبة، وتحديداً من قبل موظفي القطاع المصرفي الذين تراجعت أعدادهم خلال أعوام الأزمة من نحو 23 ألف عامل إلى 13 ألفاً حالياً، بسبب عمليات الصرف والاستقالة أو الدفع للاستقالة، إذ يعيش هذا القطاع حالاً من “تصريف الأعمال” التعاقدي بعد انتهاء عقد العمل الجماعي بين جمعية المصارف واتحاد موظفي المصارف في لبنان، الذي كان يشكل حالاً استثنائية على مستوى علاقات العمل، ويؤمن امتيازات ملحوظة للعاملين فيه.

منتهي الصلاحية

علمت “اندبندنت عربية” استمرار المفاوضات بين جمعية المصارف واتحاد موظفي المصارف في لبنان، من أجل وضع اللمسات الأخيرة على عقد العمل الجماعي الذي يضمن استمرار واستقرار هذا القطاع المهم. ويتحفظ رئيس اتحاد موظفي المصارف جورج الحاج عن الخوض في تفاصيل مفاوضات العقد الجديد لكي لا تفسر سلباً على أنها صورة من صور الضغط العلني على أصحاب العمل، إذ تقدم الاتحاد بورقة مطالب قد يطرأ عليها تعديلات.

ويلفت الحاج إلى أن “المسألة تحتاج إلى أسابيع قليلة لاتخاذ القرارات في شأن تجديد هذا العقد”، مشيراً إلى أنه “وفق قانون عقود العمل الجماعية تستمر العقود لمدة عامين، وعند بدء مرحلة التفاوض يظل العقد القديم سارياً إلى حين الاتفاق على العقد الجديد”، إذ تتجه المطالبة إلى تعديل المنح المرتبطة بالعقد كافة كمنحة الزواج ومنحة الولادة ومنحة الوفاة، وتعويض الانتقال والمنح المدرسية وتعويض نهاية الخدمة.

وشهدت قائمة المنح انهياراً عام 2020، وباتت ضحية مباشرة لانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي من 1507 ليرات قبل عام 2019 إلى 89500 ليرة حالياً، وهو ما تسبب في خسائر كبيرة لحقت بالموظفين والمودعين على حد سواء. وتهدف المفاوضات إلى إعادة بعض المنافع إلى حيز الوجود، ويقول جورج الحاج “نريد تعديل المنح لكي تكون ذات قيمة وليست اسمية”.

في الموازاة يكشف موظفون لـ”اندبندنت عربية” أنهم باتوا يتقاضون من مؤسساتهم الحد الأدنى للأجور الذي يساوي 18 مليون ليرة داخل القطاع الخاص، أي 200 دولار تقريباً، إضافة إلى “منحة اجتماعية” تستنسب المصارف في قيمتها، إذ يقدم كل مصرف الدعم على قدر ما يراه مناسباً، وهو ما يفقد علاقة العمل داخل القطاع الطابع الجماعي. ويصف أحد الموظفين ويدعى حسن ما يتقاضاه من أحد المصارف بـ”الصدقة”، ذلك أن “ما يتقاضاه مدير فرع بعد 30 عاماً من الخدمة يعادل ما يحصل عليه عامل خدمات التوصيل”.

ويضم الاتحاد أربع نقابات لموظفي المصارف في محافظات الشمال وبيروت والبقاع والجنوب. ويوضح الحاج موقفهم من طرح إعادة هيكلة القطاع المصرفي بوصفه ممثلاً للعمال، إن لناحية دمج مصارف عدة في شركة واحدة، أو حتى عمليات صرف لما تعده المؤسسات فائضاً. ويتحدث عن “تقديم اقتراح لتعديل المادة الرابعة من قانون الإندماج المصرفي من أجل رفع الحد الأدنى للتعويض التي كان حدها الأقصى 24 شهراً في حال الصرف، لتصبح أعلى بسبب الشعور بالخطر الداهم على العمال”، إذ “يشعر موظف المصرف بأنه يعمل خارج مظلة حماية اجتماعية، وفي ظروف سيئة نتيجة انهيار سعر صرف العملة الوطنية، وتوترت العلاقة العمالية بين الأجير وصاحب العمل”.

ظروف سيئة

ويعيش موظفو المصارف حالاً من عدم اليقين بسبب عدم وضوح معالم مستقبل القطاع في انتظار عقد العمل الجماعي الذي يضمن العطاءات للموظفين في البنوك كافة، ومن ثم الخروج من مرحلة التوصيات التي لا تلتزمها المصارف جميعها. ويكشف التواصل مع مديري فروع وموظفين عن جملة معطيات، إذ ازدادت منح التعليم بصورة نسبية، فيما تراوح الأجور ما بين 400 و700 دولار لموظفي الفروع.

وشهدت المصارف استقالات بالجملة، إذ يقول مدير أحد الفروع “غادر الموظفون الشباب ممن هم دون 30 سنة، وهذا أمر مفهوم لأن الأجور تراوح ما بين 500-600 دولار، أما من تجاوز حد سن التأقلم مع الغربة أو العمل الجديد فقد اضطروا إلى البقاء لأنه لا حول لهم ولا قوة، مع شعور عام بأنهم القطاع الوحيد الذي لم يطاوله التعافي على خلاف باقي مكونات القطاع العام. ويستمر هؤلاء بالعمل على أمل تغيير ما، وتحديد كيفية التعاطي مع الدولارات الفريش”، متمسكين بمعادلة تقاضي أجر 16 شهراً، وهو ما لن يؤدي إلى عبء على المصرف، لأن أساس الراتب محدد بالعملة اللبنانية، وهو منفصل عن بدلات النقل والمنح بالدولار. كما يشكو هؤلاء من ضياع ودائعهم على غرار باقي المودعين الصغار الذين لم يحظوا بامتيازات سحب. وفي المقابل، لمست المصارف حماسة لدى الناس لجهة إمكانية عودة الإقراض من أجل تحريك سوق السيارات والعمل الإنتاجي، ناهيك بالسؤال المتكرر حول مصير الودائع المستنزفة.

عقود في خطر

يعد عقد العمل الجماعي في القطاع المصرفي صورة عن نظام قانوني حمائي آخر، شكل انعكاساً لقيامة القطاع النقابي والعمالي في البلاد. ويؤصل المحامي المتخصص ويليام الغريب في كتابه “قانون عقود العمل الجماعية والوساطة والتحكيم اللبناني” الأسباب التي أدت إلى ظهور هذا النموذج من العقود الذي ينتمي إلى نظام علاقات العمل الجماعية، “ويهدف إلى تحقيق وتعزيز العدالة الاجتماعية، واحترام حقوق الإنسان الأساس، وبفضل هذه الصيغة دخلت إلى مجتمع العمل أنظمة وقواعد تتعلق بالمفاوضات الجماعية، وعقود العمل الجماعية، والوساطة والتحكيم، وإقفال المؤسسة”.

ويضيف الغريب “يتمثل الوجه الإيجابي لهذا النظام المستحدث، أولاً في نجاح التفاوض الإرادي الحر بين طرفي الإنتاج، ثم في الوصول إلى اتفاق أو عقد جماعي بينهما ينظم شروط وظروف العمل ويكيفها لتكون أكثر ملائمة لواقع الحال في المؤسسة أو المهنة أو القطاع الإنتاجي. ويظهر وجهها السلبي في النزاعات التي تقع بين هذين الطرفين حول مصلحة مشتركة لها علاقة بالعمل وظروفه، والتي تؤدي غالباً إلى التوقف عن العمل أو إلى إقفال المؤسسة من قبل أصحابها”.

ويرى الغريب أن “الاتفاق أو عقد العمل الجماعي يقلل من احتمالات حدوث نزاعات جماعية، ويعد بالتالي بمثابة صك للسلام الاجتماعي داخل المؤسسة أو القطاع الإنتاجي أو على المستوى الوطني”.

ومع صدور قانون عقود العمل الجماعية والوساطة والتحكيم في لبنان عام 1964 دخلت علاقات العمل مرحلة جديدة من التنظيم، فقد عرف المشرع اللبناني عقد العمل الجماعي باتفاق تنظم بمقتضاه شروط العمل بين طرف يمثل نقابة أو أكثر من نقابة أو اتحاداً أو أكثر من اتحاد نقابات الإجراء، وطرف آخر يكون فيه رب العمل أو ممثل هيئة مهنية أو أكثر من هيئة أو اتحاد أو أكثر من اتحاد مهني أصحاب العمل”.

وجاء القانون الجديد متفقاً مع القانون الفرنسي الذي أكد صفة التمثيل للنقابات العمالية على المستوى الوطني والتي تمتلك صلاحية التفاوض، ليكرس المادة 173 من قانون الموجبات والعقود التي أقرت “عقد الجماعة”، وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى أن القانون اللبناني أشار إلى ضرورة أن تمتلك الهيئة التمثيلية تفويضاً من 60 في المئة من الإجراء في الأقل من الإجراء اللبنانيين المعنيين، ونص آخر يقضي بموافقة غالبية الثلثين من أعضاء الجمعية العمومية للنقابة على العقد الجماعي، وهذا ما تعارضه منظمة العمل الدولية، إذ رأت لجنة من الخبراء الدوليين في منظمة العمل الدولية في تقرير رفعته إلى الحكومة اللبنانية أن التشريع اللبناني بوضعه نسباً عالية إما لمناقشة عقد العمل الجماعي أو تصديقه، لا يشجع ولا يعزز إجراءات التفاوض بغية تنظيم أحكام وشروط الاستخدام باتفاقات جماعية، من ثم يقتضي خفض هذه النسب.

دفع ذلك واضعي مشروع قانون العمل الجديد إلى خفض النسبة لتصبح 51 في المئة في الأقل من الإجراء المعنيين. وأصبحت الموافقة على العقد بغالبية ثلثي الأعضاء المشاركين في جلسات الجمعيات العمومية للنقابات أو الهيئات التي هي طرف فيه، وبحضور أكثر من نصف الأعضاء لتوافر النصاب في الجمعيات العمومية. 

في البدء، استُقبل هذا القانون بمعارضة قوية من قبل أصحاب العمل قبل أن يكتشفوا إيجابياته لهم وللإجراء على حد سواء، ومزاياه العديدة التي تسهم في فرض السلم الاجتماعي نتيجة الاستقرار في العلاقة بين طرفي الإنتاج، وتشجيعه مبدأ التشاور والتحاور بين الشركاء الاجتماعيين الذي يساعد على قيام نوع من توازن القوى بين هؤلاء، مما يعد مدخلاً لتحقيق التنمية الاجتماعية”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عزلة قطاع العمل

يشكل المصير المجهول لعقد العمل الجماعي للقطاع المصرفي امتداداً لضعف القطاع النقابي العمالي في لبنان، والذي افتضح أمره أكثر فأكثر مع الانهيار المالي والاقتصادي. وهو ما استرعى انتباه المحامي المتخصص كريم نمور الذي يشبه وضع عمال لبنان بأنه كالوباء في ظل التفشي المتسارع لحالات الصرف من الخدمة في لبنان، إذ صرف عام 2019 وحده قرابة 160 ألفاً في الحد الأدنى تزامناً مع بروز تحدي الانهيار الاقتصادي، فيما تهافت كثير من أصحاب العمل لتقليل أجور العمال تحت ذريعتي “الأسباب الاقتصادية” و”القوة القاهرة” (كورونا)، وذلك غالباً من دون مراعاة أحكام قانون العمل لناحية وجوب إبلاغ وزارة العمل والتشاور معها.

ويعتقد نمور أن ما حدث “ما كان ممكناً لولا تعميم ثقافة الاستهتار بالنصوص القانونية في فضاء النيوليبرالية العدائي، مقابل ضعف سبل الحماية المؤسساتية للعمال في لبنان، إن على مستوى النقابات العمالية أم وزارة العمل أو حتى القضاء”.

ويشدد على أن وظيفة قانون العمل تؤسس لنظام عام اجتماعي حمائي للعمال يدرأ من خلال تعسف صاحب العمل الذي يستغل قوته ضد الإجراء، متخطياً قواعد قانون المدني التقليدية والمبادئ العامة التي تنص على تطبيق الأحكام الأكثر فائدة للعمال، بعيداً من الاستثناءات القانونية الجائزة في العلاقات القانونية المدنية العادية، والتي قد تسيء إلى وضع العمال في حال غياب النظام العام الاجتماعي الحمائي. وهذا ما حصل في مختلف القطاعات العمالية بفعل غياب الحركة النقابية القوية التي تفاوض وتدافع عن الإجراء، وتستخدم طرق الاحتجاج المحمية بالدستور، والإضراب أحد أدواتها المعهودة بغية تحسين الأوضاع المهنية للإجراء.

نقلاً عن : اندبندنت عربية