في اليوم السابق لمغادرته البيت الأبيض عام 2021 تعهد دونالد ترمب أن يظل قوة يحسب حسابها في المشهد السياسي الأميركي، وقال في مقطع فيديو لتوديع أنصاره آنذاك “الحركة التي بدأناها ليست إلا بداية”. وما بدا حينها وعوداً وهمية يبدو الآن نبوءة تتحقق.

ترك ترمب المنصب وهو مهزوم ومعزول وممنوع من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ومرفوض من زملائه الجمهوريين الذين كانوا يعملون في إدارته. وكان الكونغرس الذي هزه هجوم من أنصار ترمب على مقره في السادس من يناير (كانون الثاني) 2021 يستعد لمساءلة ثانية لعزله.

يعود ترمب (78 سنة) إلى الرئاسة الإثنين المقبل أقوى من ذي قبل، ويواجه عدداً أقل من العراقيل في طريق مساعيه إلى تنفيذ سياسات تطيح الأعراف والمعايير وتقلب واشنطن رأساً على عقب وتزعزع استقرار العالم.

والآن يعود إمبراطور العقارات السابق الذي كان أول منصب يتولاه بالانتخاب هو رئاسة الولايات المتحدة، للبيت الأبيض باعتباره الشخصية السياسية المحورية في أوائل القرن الـ21.

وقال أستاذ التاريخ بجامعة برينستون جوليان زاليزر، “لا يبدو وكأنه كان منبوذاً في يوم ما. باتت سياسات الجمهوريين التي يتبناها سائدة أكثر من أي وقت مضى”.

نصر تاريخي

على عكس ولايته الأولى التي بدأت عام 2017 يعود ترمب بنصر انتخابي واضح بعد فوزه بأصوات المجمع الانتخابي وفي التصويت الشعبي.

واستبدل ترمب المعاونين الذين سعوا في ولايته السابقة إلى كبح جموحه بمساعدين يدينون له بالولاء ويتوقون لإخضاع واشنطن لإرادته. كما دفع المتشككون في سياساته من الحزب الجمهوري إلى الانسحاب، وتمسك بحلفاء حريصين على دفع مقترحاته عبر الكونغرس. وقضت محكمة عليا مؤيدة له، ثلثها معين من قبل ترمب، بالفعل بأنه سيكون لديه سلطة تقديرية واسعة للقيام بما يريد.

ويتنافس عمالقة وادي السيليكون الذين حافظوا على مسافة منه فيما مضى، على خطب وده الآن. وتطوع أغنى شخص في العالم، وهو الرئيس التنفيذي لشركة “تيسلا” إيلون ماسك لمساعدة ترمب في إصلاح الحكومة. وسيكون لمارك زوكربيرغ الرئيس التنفيذي لشركة “ميتا” وجيف بيزوس مؤسس “أمازون” حضور بارز في حفل التنصيب.

 

 

ويمكن أن يعول ترمب، نجم تلفزيون الواقع السابق، أيضاً على شبكة من مقدمي البرامج التي تبث على الإنترنت (بودكاست) والمؤثرين المؤيدين له في إبراز رسالته، في وقت تعاني فيه وسائل الإعلام التقليدية من تراجع عدد المشاهدين.

وحظيت مقابلته مع أشهر مقدمي برامج البودكاست الأميركيين جو روجان على “يوتيوب” في أكتوبر (تشرين الأول) بنحو 54 مليون مشاهدة، وهو ما يقترب من 67 مليوناً شاهدوا مناظرته التلفزيونية مع منافسته الديمقراطية في انتخابات الرئاسة كامالا هاريس.

ويرث ترمب اقتصاداً قوياً وحدوداً جنوبية هادئة مع انخفاض حالات اعتقال المهاجرين خلال ديسمبر (كانون الأول) 2024 مقارنة بما كانت عليه عندما ترك منصبه.

ومع ذلك قال إنه يخطط لفرض تعريفات جمركية باهظة على الشركاء التجاريين وترحيل ملايين المهاجرين الذين دخلوا البلاد بصورة غير قانونية، وهي سياسات قد تؤدي إلى زيادة التضخم وتضغط على أسعار الأسهم التي يتابعها ترمب من كثب.

وقد تفرض سوق السندات قيوداً محتملة على طموحاته في حال شعور المستثمرين بالفزع إذا زاد حجم الديون الأميركية، البالغة 36 تريليون دولار، بصورة كبيرة أو تعثر الكونغرس في رفع سقف الاقتراض. وقد تتفاعل الأسواق أيضاً بصورة سلبية إذا لم ينفذ وعده بخفض الضرائب وتقليص الإنفاق الحكومي.

رجل من فلوريدا

عندما أطلق ترمب حملته الثالثة على التوالي للترشح لانتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة عن الحزب الجمهوري من مزرعته في ولاية فلوريدا في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، كانت فرصته في الفوز ضعيفة بعد خسارة عديد من مرشحيه المفضلين في انتخابات التجديد النصفي بالكونغرس الأميركي ووسط عدة قضايا جنائية ومدنية تلاحقه.

واجتذب منافسوه في الترشح للانتخابات الرئاسية عن الحزب الجمهوري، ومن بينهم حاكم فلوريدا رون دي سانتوس، تأييد أعضاء الحزب الساعين إلى تجاوز عصر ترمب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتعليقاً على إطلاق حملته الانتخابية نشرت صحيفة “نيويورك بوست” تغطية ساخرة بعنوان “رجل من فلوريدا يصدر إعلاناً”، في إشارة إلى سخرية واسعة طاولت ترمب بعد أنباء عن تغييره مقر إقامته إلى ولاية فلوريدا وشبهته بشخصية في مسلسل تلفزيوني يدعى “رجل من فلوريدا”، لكن الناخبين الجمهوريين التفوا حول ترمب بعد اتهامه في قضية جنائية في مارس (آذار) 2023 بالتستر على دفع أموال لشراء صمت نجمة أفلام إباحية، ثم تدفقت التبرعات إلى حملته وحصل بسهولة على ترشيح الحزب الجمهوري.

ولعبت الأحداث اللاحقة لصالحه وسط سخط من الناخبين الأميركيين عموماً تجاه استجابة الرئيس المنتمي إلى الحزب الديمقراطي جو بايدن لارتفاع الأسعار والهجرة غير الشرعية. وانسحب بايدن من انتخابات الرئاسة في يوليو (تموز) 2024 بعد أداء كارثي في مناظرة أمام ترمب، مما منح كامالا هاريس القليل من الوقت لتقديم برنامجها الانتخابي للأميركيين.

وتمكن ترمب من توظيف الملاحقات القانونية لصالحه واصفاً إياها بحملة اضطهاد سياسي، ليشن حملة مضادة دفعت المدعين الاتحاديين في نهاية المطاف إلى إسقاط قضيتين من بينهما قضية تدخل في الانتخابات. وفي واقعة كانت فيديوهاتها وصورها من بين الأبرز خلال 2024 أصيب ترمب في محاولة اغتيال خلال يوليو من العام نفسه قبل أن يرفع قبضته ويردد بصوت عالٍ “قاتلوا.. قاتلوا.. قاتلوا”.

وأسهم في فوزه بمنصب الرئاسة في نوفمبر الماضي تفوقه في دوائر انتخابية وبين فئات تميل عادة للديمقراطيين، ومن بينها الشباب والأميركيون من أصل لاتيني. وتجاهل الناخبون إدانته في قضايا جنائية وتحذير الديمقراطيين من أن ترمب الذي رفض الاعتراف بهزيمته في انتخابات 2020 يشكل تهديداً للديمقراطية.

 

 

وهدد ترمب بترحيل المهاجرين غير الشرعيين ولوح بالاستعانة بوزارة العدل في مواجهة خصومه السياسيين، كما أشار إلى إمكانية رفض صرف أموال يخصصها الكونغرس لأوجه إنفاق معينة، مما قد يؤدي إلى نزاع دستوري.

وتبنى الرئيس المنتخب أجندة توسع إقليمي تشمل شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك والسيطرة على قناة بنما، مما يشير إلى احتمال أن تشوب ولايته الثانية في البيت الأبيض اضطرابات مثل فترته الأولى.

إعادة تشكيل المشهد

أعاد ترمب تشكيل المشهد السياسي في واشنطن بالفعل حتى قبل أن يتولى مهامه رسمياً في الـ20 من يناير الجاري، إذ أصبح الجمهوريون والديمقراطيون على حد سواء يتبنون نهجه العدواني إزاء الصين، وموقفه المتشكك في اتفاقات التجارة الحرة.

وأصبح خفض مخصصات برامج الرعاية الصحية والمعاشات غير مطروح بعدما كان في السابق من البنود الأساسية في مقترحات الجمهوريين للموازنة. وأبقى بايدن عديد من الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب كما هي، وعمل على تقليل اعتماد الولايات المتحدة على أشباه الموصلات المصنوعة في الخارج.

وبعد أن كان دخيلاً على الوسط السياسي في الولايات المتحدة، أصبح ترمب يرسم مسار السياسة الأميركية. وهنا علق ماثيو كونتينتي الباحث في معهد أميريكان إنتربرايز، وهو مركز بحثي محافظ، “من الواضح أننا في عصر ترمب منذ 2015… الأمر لم ينتهِ بعد”.

نقلاً عن : اندبندنت عربية