في الكتاب الجديد، (450 صفحة) الصادر حديثاً عن دار نلسن- بيروت، بعنوان “نصوص من خارج المجموعة” (1934-1987) للشاعر يوسف الخال، يكشف الأب أماتييس الساليزياني وجهاً آخر للشاعر، مؤسس مجلة “شعر” (1957-1970)، كان لا يزال كامناً أو متوارياً تحت كمّ هائل ومتفرق من المقالات، والأعمال والمداخلات والمحاضرات في الجامعة الأميركية – بيروت، حيث تلقّى دروسه في الفلسفة، وغيرها من الإسهامات النثرية، وكان سبق للراهب الساليزياني نفسه أن أعدّ أربعة كتب عن الشاعر، وهي “يوسف الخال ومجلته شعر”، و”صدى الكلمة_ مقابلات مع يوسف الخال”، و”يوسف الخال، الجدول المتسلسل زمنياً لأهمّ وقائع حياته وكتاباته” وكتاب عن وقائع وجلسات خميس مجلة “شعر”، وجميعها تتصل تباعاً بسيرة الخال وبأعماله الشعرية وبالمواد الأدبية التي تشكّلت من خلال الأنشطة الأدبية والثقافية والفنية.

وهنا، لا بدّ من كلمة وفاء لهذا الراهب الذي تنكّب القيام بما توجّب على مؤسسات البلد (لبنان) الثقافية أن تؤدّيه، بأن أخذ على عاتقه وعاتق جمعيّته الدينية، البحث الدؤوب عن نصوص يوسف الخال النثرية التي توإلى نشرها على صفحات الجرائد والمجلات، وفي سجلات الجامعة، والمدارس حيث كان للخال حضور، وذلك على امتداد 53 عاماً (1934-1987).

مضامين القسميْن

وبالعودة إلى الكتاب، يتشكّل من قسمين كبيرين؛ الأول خصّه الباحث بالخلاصات أو الاستنتاجات التحليلية برؤوس أقلام هي قابلة لأن تُستعاد، من قبل باحثين مختصّين آخرين غيره، وذلك بعد تفحصه المئات، بل الآلاف من متون الصفحات المتفرقة والسجلاّت التي وقع عليها، سواء في مجلّة “شعر”، ومجلة آفاق، وثمرة الفنون، والشباب، والمكشوف، والنهضة، والكلّية، والنشرة، وصوت المرأة، والهدى، وغيرها الكثير. وقد شكّلت هذه المصادر المتفرقة ما يسميه علم اللسانيات الحديث بالمدوّنة الكبرى، التي عاد إليها الباحث لاستنطاقها حول مفاصل رؤيته النقدية، وتبيّن مصادر موسوعيته الفكرية والفلسفية التي أتاحت له أن يكون رائداً كبيراً من رواد الحداثة في الشعر العربي، أواسط القرن الـ20، ومحفّزاً لها، إضافة إلى كونه شاعراً ذا حضور مميز، وصاحب رأي مؤثّر في اللغة العربية والمحكية، نعود إليه في سياق استعراضنا لأهم مضامين القسم الأول.

أما القسم الثاني من الكتاب فيخصه الباحث بالنصوص، أي المدوّنة الكبرى، التي كانت موضوع درس الأب أماتييس الساليزياني وتفحّصه، والتي سوف تكون مادة دراسية خصبة لعدد من الباحثين-لاحقاً- في شؤون لها صلة برؤية يوسف الخال، وبمصادر فلسفته، والمؤثّرين في تكوين أسلوبه، وآرائه النقدية.

توصيف الأدب اللبناني

وأول تلك العناوين التي انطوى عليها القسم الأول، توصيف الأدب اللبناني، أواسط القرن الـ20، بالاستناد إلى مقال سابق لأحد النقّاد يُدعى نسيب عازار، صاحب كتاب “نقد الشعر في الأدب العربي” الصادر عام 1939، وفيه يصف الخال “النشاط الأدبي في لبنان” بأنه لا يزال، إلى حينه، يراوح في التقليد، وأنّ لا أحد ممن تسلّقوا ذروة الشعر اللبناني الحديث في تلك المرحلة قد تعدّاها إلى مرحلة تقدّمية أخرى، فالشعر ما برح حيث كان منذ ربع قرن”. ويروح يقارن حاله بما بدر في الشعر الأوروبي مع ت. إس. إليوت وغيره.

 وفي مقالات أخرى تحدّث يوسف الخال عن كيفية العبور إلى مرحلة الحداثة، فيعرّج في سبيله على نظرية أفلاطون في الشعر، باعتبارها أحد المنطلقات الفلسفية التي ينبغي للشاعر العربي أن يتبنّاها حتّى يقوى على الخروج من الجمود الذي كان يحيق بالشعر العربي، في حينه. وههنا، أثر من إعداد يوسف الخال الفلسفي، في الجامعة الأميركية ببيروت، وعلى يد الفيلسوف شارل مالك، الباحث في فلسفة وايتهيد وهايدغر، والمسهم في وضع شرعة حقوق الإنسان.

أما المدخل الإلزاميّ إلى الحداثة، بنظر الخال، فيتمثّل في تعرّف الشاعر العربي إلى الاتّجاهات الأدبية الحديثة، سواء الفرنكوفونية منها أو الإنكلوفونية، عبر التعرّف إلى آراء كبار الشعراء والنقّاد الغربيين، أمثال كولردج، وسانت بوف، وأرنولد، وفاليري، وأناتول فرانس، وكارليل، وغيرهم، ومن هذا القبيل رأى لزاماً عليه أن يخصص باباً يكاد يكون ثابتاً، في مجلّة “شعر” لترجمة آثار هؤلاء الشعراء والنقّاد، إلى العربية، فيكسب فضليْن في آن؛ أن يغتذي شعراء المجلّة من هذه الترجمات، فيندفعوا إلى مغامرة التجديد، وأن يفيد منها القرّاء العرب للتعرّف إلى الاتجاهات الأدبية الجديدة في الشعر والنثر والنقد.

وما إصرار الشاعر (يوسف الخال) على استنطاق أرسطو حيناً، وأفلاطون حيناً آخر، في شأن فنّ الشعر سوى تمهيد نظري لتشكيل مرجع فلسفي غربيّ لحداثة شعرية يدعو إليها، إلاّ نوعاً من الصدى لما قدّمته الفلسفة الأرسطية والأفلاطونية من خدمات جليلة للنهضة العربية الأولى (في القرن السابع الميلادي).

في مفاهيم شعرية نظرية

ويواصل الباحث الأب أماتييس السالزياني استخلاص المواضيع والأفكار التي تشكّل نظريّته في الشعر، طبعاً من خلال نصوص المدوّنة الكبرى التي سبقت الإشارة إليها، فيقول إنّ يوسف الخال أفرد عدداً من التعريفات التي تدخل في تكوين الشعر، وإن يكن في رده على عدد من النقّاد والشعراء المعاصرين له، من أمثال نسيب عازار وغيره. ومن تلك التعريفات مفهومه لغاية الشعر، وهي الفنّ؛ إذ لا يكون الفنّ فنّاً ما لم يتّصل بالحياة رامياً إلى تهذيب النفس البشرية، وخلق جيل صالح يرتكز على المثُل العليا في الحياة”.

أما تعريفه للقالب والمادة في الشعر، فينقله عن الشاعر والناقد الإنكليزي كولردج، وهو ما سماه بالحياة الاتّساقية، والحياة العاطفية، والحياة الذهنية كما يعيها الشاعر، ويُلزم نفسه التعبير بمقتضاها شعراً. ولئن يأخذ يوسف الخال على الرمزيين تطرّفهم في تفضيل الحياة الاتّساقية، أي الألفاظ وموسيقاها ونبرتها وقصرهم الشعر عليها، فإنه يرى أنّ الحياة الحقّة بأبعادها النفسية والفكرية والمادية أولى من غيرها بالاعتبار لدى تشكيل الشاعر قصيدته.

وفي تحديده لمفهوم طبقات الشعراء- طبعاً في معارضته لمفهوم طبقات الشعراء لدى ابن سلّام الجمحي- يروح يوسف الخال يقارن بين الشعراء الغربيين الذين يشكّلون ثلاث طبقات: الغنائيين، والبطوليين، والتمثيليين. ولدى تفحّصه نتاج الشعراء العرب لا يجد سوى الغنائيين، إلاّ الشاعرين سعيد عقل وأحمد شوقي اللذين كانت لهما تجربة في كتابة الشعر التمثيلي.

ومن ثمّ كانت للخال التفاتة إلى مفهوم الأغراض الشعرية المتعددة داخل الشعر العمودي القديم، الذي اعتبره عائقاً دون صلاح الفكرة وبناء القصيدة بنياناً سليماً، وقال في المقابل، بضرورة التزام الشاعر بالفكرة الواحدة شرطاً لنماء الأفكار في القصيدة الواحدة والتعمّق فيها، وهذا ما لمحه يوسف الخال الناقد في نتاج الشعراء اللبنانيين، والعرب، لزمن ما بعد الحرب العالمية الأولى، وما قبل الثانية، بتأثير من دعوات الرابطة القلمية وأبوللو وغيرهما إلى التجديد، إلاّ أنّ هذا التجديد الذي لاحظه الخال في قصائد أبي شبكة، وخليل مطران قبله، وشعراء الرابطة القلمية، لم يبلغ بنظره حدّ الحداثة الذي تطلّبه، إذ بقي جلّهم ملتزماً بالقافية وبأوزان البحور الخليلية، خلافاً لما انتهى إليه الشعراء الغربيون الذين تخلّوا عن الأوزان التقليدية، وآثروا بنية الشعر الطليق أو الحرّ في نظمهم القصائد.

في تكوين الشعر

ومما استخلصه الأب الباحث من المدوّنة الكبرى أيضاً عدد من المفاهيم التي تدخل في تكوين الشعر، ومنها الكلمة في الشعر؛ إذ قال إنّ الشعر وسيلته الكلمة. وهذه ميزة طبيعية إنسانية، وهي تحمل في ذاتها معنى. وما دامت الكلمة كذلك في الشعر، اعتبر هيغل الشعر أرقى الفنون، ويستلزم هذا الأمر أن تكون كلمات الشعر في القصيدة حاملة تجربة الشاعر الإنسان العميقة.

ولدى تداوله قضية الشكل في الشعر، ارتأى الخال أنه ليس ثمة قواعد معيّنة يحسن بالشاعر الالتزام بها حتّى يبدع قصيدة، أي حتّى يخرج الأثر الفني إلى الوجود، وإنما المبدأ الأول والأخير للخلق الفني هو الموهبة. لذا، لا شكل سابقاً للقصيدة يمكن للشاعر اعتماده ليبني شعره على أساسه، لذا، لا قواعد موضوعة سابقاً للخلق الشعري، وإنما لا ننفي وجود قواعد لاحقة تسمى صفات يتّسم بها الأثر الشعري، على حد اعتبار يوسف الخال الناقد.

أما في كينونة القصيدة فقال بما معناه أنّ القصيدة قيمة مخلوقة لا تخضع للحكم الموضوعي، وإنما للحكم وهي مزيجٌ من الموضوعية والذاتية، وهي بناء موضوعيّ يتميّز بالتضمين وتلاقي الأضداد وبالتلميح، في حين أنّ حجارة البناء الموضوعي هي الألفاظ، بيد أنّ الألفاظ في الشعر تومئ إلى ما وراء المعاني المباشرة والمضمرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي السياق نفسه، تطرّق الخال إلى وحدة القصيدة العضوية التي رآها شرطاً لازماً لضمان التعبير عن وحدة تجربة الشاعر الذاتية، وبانتقاله للكلام على شعراء النهضة عندنا، قال الخال- استناداً إلى النصوص من خارج المجموعة أي المدونة الكبرى- إنهم لم يقووا على خلق قصيدة عربية بهذا المفهوم؛ فهم لم يراعوا وحدة القصيدة العضوية، ولم يخرجوا عن نطاق العموميات والكلّيات شأن الفلسفة، وفاتهم التركيز على الخصوصيات والجزئيات التي هي من أعمال المخيّلة الفنّية والشعرية، والتي تكفل جدّة النظرة إلى الموضوع المعالج، وتثبّت أصالته في آن. ولئن اعترض يوسف الخال، بحسب الأب أماتييس، على الرومانسية الغربية لكونها تركّز على المعاني والمشاعر، فإنه اعتبر أنّ القصيدة “وليدة مخيلة خلاقة لا تعمل عملها إلا باللغة”، ولهذا نراه يولي اهتماماً متوازناً بالأفكار والمشاعر، من دون إغفاله اللغة ومفرداتها الموحية.

أما في الإيقاع والوزن فيردّ الشاعر الناقد يوسف الخال باقتراح مفهوم شعري جديد ينطوي على استخدام أدوات ووسائل تعبير جديدة تستوعب التجربة الشعرية الحديثة؛ ومن تلك الأدوات الصور الشعرية والأساطير والإيقاع الخالي من القوافي والأوزان التامة، ما دامت تقيّد المعاني، على حدّ قوله.

أين موقع النقد عند الخال الشاعر؟

وبعدُ، هل يُعتبر النقد شرطاً أو عنصراً موازياً لقيام تجربة الشاعر الشعرية، كما بيّنها الباحث أماتييس الساليزياني، من خلال المدوّنة الكبرى التي أشرنا إلى بعض خلاصات الباحث؟ بالطبع لا، ولئن كان تسنّى للشاعر يوسف الخال إعداد أكاديميّ جلّه في الفلسفة، صنو الأدب ورديفته ومنبع الكثير من توجّهاته، فإنّ عمارة النقد تأتّت له بالثقافة المعمّقة حول الأدب أولاً، وبشروعه في إطلاق مجلّته “شعر” التي تتطلّب منه قدراً من الموسوعية الفكرية والنقدية لم يكن متوفّراً لدى غالبية الشعراء الذين انضووا في حلقته، لاحقاً، وإن سعى البعض منهم (أدونيس، مثلاً) إلى التمكّن الأكاديمي لمزيد من الدفاع عن رؤيتهم الشعرية الحديثة.

وأياً يكن فإنّ مدونة يوسف الخال الكبرى التي جهد الباحث في إعدادها، والتي صارت في متناول مجتمع المعرفة، في العالم العربي وغيره، أتاحت للباحثين مادة لا أغزر ولا أكثر موضوعية لدراسة خطاب يوسف الخال النقدي؛ منهجه النقدي، والمؤثرات الكبرى في شعره، ودوره الريادي في تشجيع الأدب الحديث، والفنّ الحديث، ومكانة الترجمات الشعرية وغيرها في نظرته النقدية، وغيرها.

نقلاً عن : اندبندنت عربية