فرنر هترتزوغ هذا الذي يتحدر من جبال بافاريا حمله الفضول منذ بداياته إلى السودان حيث أنجز أفلامه القصيرة الأولى وهو لا يزال مراهقاً. اليوم، بعد مرور قرابة ستة عقود، أصبح له في رصيده السينمائي أكثر من 80 فيلماً بأنواع وأنماط مختلفة. فقط في الأعوام الـ15 الماضية، وبعد انتقاله من السينما الروائية إلى السينما الوثائقية وتكريس معظم وقته للأخيرة، أنجز أسطورة السينما الألمانية نحو 15 فيلماً، انطلاقاً من أماكن مختلفة، مثل كهف في منطقة أرديش الفرنسية أو بركان في اليابان، أو شخصيات مثل غورباتشوف أو مواضيع على غرار القلق على المستقبل في العصر الرقمي… هذا كله وجد مكاناً صريحاً في الشمس أمام كاميراه المصابة دائماً بلهفة وشوق نقل كل ما هو مستجد ومثير من حوله. حاجته إلى الاكتشاف حملته إلى الصحارى والأدغال وألاسكا، مأخوذاً دائماً بتلك الرغبة في التماهي مع الراديكالية وتخطي الأطر التقليدية في الفن بحثاً عن الحرية.
كثيراً ما وضع نفسه داخل معمعة الأشياء التي يصورها، متورطاً فيها قلباً وعقلاً وجسداً، مع تعليق صوتي بالإنجليزية مسجّل بلكنته الألمانية المحببة. والهدف دائماً وأبداً البحث عن الحقيقة في نظام دولي يحاول طمسها انطلاقاً من مصالح سياسية وعقائدية، مع التذكير بأن الحدود عنده بين الروائي والوثائقي ليست بذلك الوضوح، مما يتبدى جلياً في “رومانس عائلي”، الفيلم التائه بين الواقعي والخيالي، ومثل هذه الأعمال فائدتها هي أن نتساءل عن ماهية الواقع والفرق بينه والحقيقة. في إحدى المقابلات، يقول هرتزوغ إن “بعض الناس يعتقدون بأنني أنجز الوثائقيات، ولكن هذا غير صحيح، معظمها أفلام روائية متنكرة بالوثائقي”، رافضاً بهذا التصريح أي فصل بين الروائي والوثائقي، وهو الأمر الذي آمن به هذا الفنان الأنثربولوجي الذي يبحث عن الحقائق خلف الوقائع. ظواهر تعكس الطبيعة البشرية التي ينظر إليها بعين الشخص الحكيم الطامح إلى فهم آلية عملها.
هرتزوغ هو سينمائي العظمة واللامحدودية والجنون، الحريص على قيم التنوع وحس المغامرة واستكشاف العالم من أطرافه المتعددة، خصص له مركز بومبيدو في باريس الشهر الماضي استعادة لأعماله التي أنجزها منذ عام 2010، للمرة الثانية بعد الاستعادة التي كان حظي بها عام 2008 وعُرض له آنذاك 55 فيلماً. إلى باريس، عاصمة نوادي السينما وصالات “الفن والتجربة” التي تبدو وكأنها حصن منيع أمام هجمة منصات البث التدفقي، حضر المخرج الكبير للمشاركة في ندوات ونشاطات ولقاء الجمهور، معبّراً عن تأثره العميق بعرض فيلمه “كهف الأحلام المنسية” (2010) في فرنسا، بالتزامن مع مرور 30 عاماً بالتمام على اكتشاف ذلك الكهف الواقع في منطقة أرديش.
صرح هرتزوغ بانه شعر بالرغبة في رؤية باريس مجدداً، فالعيش في لوس أنجليس أبعده من جذوره الأوروبية. قال “إني مهتم لمعرفة كيف تطور الجمهور. في السنوات الـ15 الماضية، تغير كل شيء بسرعة، لا سيما مع التحول الكبير نحو منصات البث. فكرة إقامة عرض استعادي لا تزعجني، على رغم أنني لا أعود للوراء أبداً، لا في حياتي ولا في أفلامي. لستُ من الأشخاص الذين يعيدون مشاهدة أعمالهم السابقة. التفكير في مسيرتي الفنية، ببساطة هذا لا يخطر في بالي، ولا فكرة التقاعد”.
فيلمه الأحدث، “النار في الداخل”، مهدى إلى عالمي البراكين الفرنسيين كاتيا وموريس كرافت اللذين قضيا في تدفّق بركاني حارق في جبل أونزن (ناغازاكي) الياباني عام 1991، تاركين خلفهما لقطات أرشيفية في منتهى الجمال والروعة. يقول هرتزوغ إن هذه اللقطات تعكس لا فقط اهتماماتهما العلمية، ولكن أيضاً فهمهما الكبير للطبيعة السينمائية لهذه البراكين. الفيلم رد اعتبار من المخرج، كما الحال في كثير من أفلامه، لإرثهما. هرتزوغ الذي لطالما أدهشته البراكين، سبق له ان أنجز فيلمين عنها. في السبعينيات، أنجز فيلماً في جزيرة غوادلوب عن بركان لا غراند سوفريير، مصوراً المدينة التي تم إخلاء سكانها في انتظار انفجاره. كما أنه تعاون مع عالم البراكين كلايف أوبنهايمر في فيلمه الوثائقي “إلى الجحيم (2016)”.
في هذا الصدد، يقول “ما يثير اهتمامي ليس الجيولوجيا نفسها، بل الجودة السينمائية للبراكين. هذا الفيلم الجديد هو أكثر من مجرد تكريم لعمل كاتيا وموريس كرافت، إنه احتفال بالسينما نفسها. أنا آتٍ إلى مركز بومبيدو للاحتفال بالسينما”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعتقد هرتزوع بأن العمل الفني عابر للزمن، معبراً عن إحساسه بأن كتاباته وأفلامه وكل نتاجه سيعيش من بعده، بل حتى سيُعاد اكتشافه على ضوء جديد. لهذا السبب ربما، نشر أخيراً كتاب مذكراته الذي عنونه “كل إنسان لنفسه والله ضد الجميع”. على صفحاته، يستعيد الماضي في خليط من الذكريات الحياتية والمهنية، منذ طفولته في ريف بافاريا واهتمامه المبكر بالتزلج، وصولاً إلى علاقته الإشكالية مع ممثله المفضل كلاوس كينسكي، مروراً باعتناقه الموقت للكاثوليكية وتأثيرها في أفلامه وارتباط المواضيع التي يختارها بتجاربه الشخصية. أنهى هرتزوغ الكتاب في منتصف جملة، طارحاً إياه كورشة لا تنتهي، متباهياً بأنها سابقة في تاريخ الأدب، “هذا الانقطاع ليس لعبة أسلوبية. كل ما في الأمر أنني كنت أنظر من شباكي فرأيتُ طيراً وقررتُ أنني سأنهي هنا”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية