طرحت الهزائم المتتالية التي ألحقها الجيش السوداني بقوات “الدعم السريع” في جبهات القتال المختلفة، فضلاً عن استرداده مدن عدة آخرها ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة، ثمة تساؤلات عن الأسباب التي أدت إلى تراجع “الدعم السريع” إلى الدرجة التي وصفها بعض بالانهيار التام، وهو ما يعني الوصول إلى النقطة الفاصلة بقرب حسم هذه الحرب المندلعة منذ منتصف أبريل (نيسان) 2023.
معارك فاصلة
قال المتحدث الرسمي السابق باسم الجيش السوداني محمد بشير سليمان “معركة استعادة ود مدني بواسطة الجيش يمكن حسابها في إطار المعارك الفاصلة، باعتبارها خلاصة العمليات العسكرية في الاتجاه الاستراتيجي الجنوبي، إذ جاءت بحكم بُعدها الاستراتيجي بعد عدة عمليات فرعية عقب تحرير مدينة سنجة نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي”.
وأشار سليمان إلى أنها تهدف إلى مسح كل الاتجاهات انطلاقاً من ود مدني وصولاً إلى الحدود مع جنوب السودان (جنوباً) وإثيوبيا (جنوب شرقي)، وبما يؤمن ظهر القوات التي أعدت لاسترداد عاصمة الجزيرة تكاملاً مع التأمين الذي أُنجز في عدد من المحاور، فضلاً عن تأمين الجسور مما جعل الميليشيات في وضع شبه دائري (حصار تام)”.
ولفت المتحدث إلى أن الجيش تقدم نحو ود مدني بضغط عملياتي متواصل مع عمليات جوية ونيران مدفعية مركزة أدت إلى إرهاق واستنزاف هذه الميليشيات (قوات ’الدعم السريع‘)، وفقدان توازنها وضعف قدراتها القتالية وروحها المعنوية، في ظل انقطاع خطوط إمدادها ونقص الذخائر وافتقادها لقوات الفزع لإسنادها، مما أدى إلى تدميرها بصورة كبيرة.
وتابع المتحدث “مؤكد أن ما حدث سيكون له تأثير بالغ على هذه القوات المتمردة خلال الفترة المقبلة، والتي ستواصل فيها القوات المسلحة السودانية عملياتها للمحافظة على اندفاعها حسب الخطة المتكاملة، فضلاً عن مطاردة الميليشيات في كل المواقع التي تنفتح أو تنتشر فيها استغلالاً لموقف الوهن والضعف الذي تمر به، وافتقادها روح القتال التي يأتي مؤشرها في كثرة انسحابات وتسليم أفرادها لقوات الجيش وهرب بعض”.
وكشف سليمان عن عزم الجيش استئصال هذه الميليشيات والعمل على نظافة وتطهير ولاية الخرطوم بما فيها مصفاة الجيلي، فضلاً عن حماية المواطنين من القصف المدفعي بعيد المدى الذي تقوم به “الدعم السريع”، إضافة إلى تطهير منطقة البطانة والمناطق الواقعة في الاتجاه الجنوبي لولاية نهر النيل، واستعادة التصنيع الحربي، إلى جانب متابعة إكمال تنفيذ عمليات متحرك الصياد لتحرير مدينتي أم رواية والرهد، وتأمين الطريق حتى الأبيض عاصمة ولاية شمال كردفان، مع العمل على تأمين طريق الدبة شمالاً والمحافظة على مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور.
وأردف المتحدث أن “حسم الحرب قولاً قاطعاً قد لا يتحقق بالسرعة التي يتوقعها بعض، لكن بلا شك وتيرتها ستضعف من خلال التراجع الذي تعيشه هذه الميليشيات الآن والذي سيكون فيه استسلام قوات وتسليم قادة وهو أمر مرتبط بالدول الراعية والداعمة لهذه القوات المتمردة”.
وختم المتحدث الرسمي السابق باسم الجيش السوداني “هناك مجموعة عوامل أثرت في تراجع ’الدعم السريع‘ عسكرياً من أهمها التخطيط السليم والمتكامل لإدارة عمليات الجيش، فضلاً عن الإعداد الجيد من ناحية القوة والعتاد، وارتفاع الروح المعنوية مع وجود الهدف والدوافع للقتال، إلى جانب توافر المهنية والاحترافية والتدريب على متطلبات القتال، واستمرار العمليات الاستنزافية الفاعلة التي أدارت بها القوات المسلحة السودانية هذه الحرب، مع الضغط المتواصل الذي أوصل هذه الميليشيات إلى درجة الإرهاق”، مضيفاً أن الإسناد الوطني القوي الذي وجدته القوات المسلحة من المواطنين السودانيين كافة قتالاً ودعماً مادياً ومعنوياً، مقابل المواقف السالبة تجاه ميليشيات ’الدعم السريع‘ محلياً وخارجياً بسبب الانتهاكات الوحشية التي مارستها بحق المدنيين، دفع واشنطن إلى فرض عقوبات ضد قائدها محمد حمدان “حميدتي”.
خطأ سيكولوجي
في السياق، أوضح الباحث في مركز الخرطوم للحوار اللواء الرشيد معتصم مدني قائلاً “في الحقيقة إن انتشار قوات ’الدعم السريع‘ خارج ولاية الخرطوم في ديسمبر (كانون الأول) 2023 كان صادماً بصورة كبيرة وترك أثراً نفسياً ومعنوياً مزلزلاً، فقد كان ميدان المعركة الرئيس حسب تجارب السودانيين في النزاعات السابقة، باعتبار أنه غير مألوف من ناحية الحجم والشكل، إذ اجتاحت هذه القوات قرى المزارعين العزل في ولاية الجزيرة والبعيدة من المناطق العسكرية وممارستها عمليات سلب ونهب وترويع للمواطنين بصورة ممنهجة، وإذلال الرجال تحت تهديد السلاح وقتل أعداد كبيرة منهم والاعتداء الجنسي على النساء والفتيات بصورة غريبة وغير معلومة الدوافع”.
وأضاف مدني “زادت هذه الأنشطة الفوضوية وغير المنضبطة من الجروح وتعاظم شعور الناس بالخطر، مما أدى لرد فعل معاكس وقوي ضد هذه القوات، وفي المقابل تلقى الجيش الوطني دعماً غير مسبوق من طبقات الشعب كافة نتيجة هذه الممارسات اللا إنسانية والمخالفة لأعراف الناس وتقاليدهم وغير المتوقعة لدى كثير منهم، وبموجب ذلك انخرطت أعداد كبيرة من القادرين على حمل السلاح من الأعمار كافة في القتال إلى جانب صفوف الجيش، فضلاً عن انضمام لفيف من متقاعدي القوات النظامية الأخرى بحكم خبراتهم القتالية السابقة وبدافع الواجب الوطني، لكن دخول هذه الميليشيات لولاية الجزيرة على رغم الفظائع كان خطأ سيكولوجياً بائناً، لأنها لم تخض معارك ضد قوات عسكرية على الإطلاق بعد انسحاب الجيش من حامياته في ود مدني”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وزاد المتحدث “هذا الانتشار واسع المدى للقوات المتمردة في جغرافيا كبيرة شكل نقطة ضعف كبيرة لها، بيد أنه ساعد الجيش في رسم خطة لتقطيع أوصال الميليشيات وعزلها عن بعضها بعضاً، إضافة إلى مواصلة مجهوداته في ضرب الأهداف المتحركة ورصد وإضعاف طرق الإمداد ومخازن الأسلحة وتحييد القناصين، الذين كانوا يشكلون أكبر تهديد لحركة القوات على الأرض”.
وتابع “كان واضحاً أن الجيش يعرف أساليب هذه القوات في القتال معرفة تامة وعلى علم كبير بتركيبتها البشرية ونزعاتها القتالية، مما جعله يواصل القتال والحصار المتدرج وفق المتاح من المعلومات على رغم الضغط الكبير والأثر النفسى الذي تركه الإعلام الاجتماعي في نفوس المواطنين، وهذا ما خططت له هذه القوات والداعمون لها”.
واستطرد الباحث في مركز الخرطوم للحوار “من المؤكد أن تحرير ود مدني سيجعل الطريق إلى الشرق سالكاً، وفتحه عبر البطانة إلى ولاية نهر النيل مما يسهل حركة التجارة والمصالح بين مدن مهمة للغاية من الناحية الاقتصادية بعد موسم الحصاد، وهي الدمازين مروراً بسنجة وسنار من الناحية الجنوبية والقضارف وكسلا وبورتسودان شرقاً، وعسكرياً فإنه في حال القضاء على هذه الميليشيات في محيط مصفاة الجيلي المحاصرة الآن والتي تمضي الخطة نحوها بصورة قريبة من مما جرى في ود مدني، فسيشتد الخناق عليها في منطقة شرق النيل من الشرق والجنوب والشمال، مما يؤدي إلى شللها وبخاصة أن قوات الجيش انفتحت في مدينة الخرطوم بحري، من ثم أتوقع حدوث مفاجآت غير سارة لقوات ’الدعم السريع‘ في مدن دارفور في وقت غير بعيد”.
تشتت وانسحاب
من جانبه أفاد عضو القيادة المركزية العليا للضباط وضباط الصف والجنود السودانيين المتقاعدين (تضامن) وليد عز الدين بقوله “كلما طال أمد الحرب تتطور تكتيكاتها ويتغير أسلوب إدارة المعركة وفقاً للنتائج، لذلك نجد أن القوات المسلحة بدأت في تغيير تكتيكاتها بالتركيز على عنصر المشاة الذي كان لا وجود مؤثراً له منذ بداية الحرب وحتى الشهر الـ17 من اندلاعها، إذ تمكنت من حشد المشاة في محاور عدة مسنودة بالطيران الحربي والمسير، مما غير من سير المعارك وجعلها تسيطر على مناطق حيوية كجبل موية وهي التي مهدت الطريق إلى دخول ود مدني، وتزامن ذلك مع عمل مكثف في منطقة الجيلي (المصفاة) وهي أيضاً من المناطق الحيوية تمهيداً إلى هدف استراتيجي آخر، وأتوقع أن يكثف الجيش من عملياته مستغلاً حال التشتت والانسحابات التي بدأت في صفوف قوات ’الدعم السريع‘”.
وأضاف عز الدين “لكن على رغم ذلك ولأن هذه الحرب كما أسميها الحرب المتحركة وكونها تختلف عن الحروب التقليدية في أسلوبها وأسلوب قتال ’الدعم السريع‘ الذي يتميز بخفة الحركة وسرعة المناورة، أتوقع معاودة الأخيرة الهجوم على ود مدني تارة أخرى أو دخول منطقة حيوية تؤثر في ما يخطط له الجيش وهو أمر وارد”.
وواصل عز الدين “فقدت قوات ’الدعم السريع‘ كثيراً من قوتها الصلبة في أشهر الحرب الأولى، وأدى انتشارها في مساحات واسعة إلى فقدانها السيطرة وإدارة المعارك، وهو ما سيعرضها لخسائر كبيرة وبخاصة أنها قوات تقاتل بشراسة ودون حساب لتطور المعركة ومستجداتها، وهنا تكمن أهمية القيادة والسيطرة وإدارة المعركة وهذا سبب أساس في انتشارها وفوضويتها وعدم انصياعها للأوامر، من ثم خسارتها وتراجعها عكس الجيش يفترض فيه الانضباط على رغم تفلت أفراده، وهذه أيضاً نعزيها إلى ضعف تدريبه وكذلك ضعف تدريب الميليشيات المساندة له وهذا اتجاه خطر يحسب على سمعته”.
وأردف المتحدث “الآن قوات ’الدعم السريع‘ تعاني حالاً من الضعف إلا أن ذلك لا يمنع من تغير ميزان القوي وكفته الراجحة للجيش وكل التوقعات والتطورات متاحة في هذه الحرب العبثية، فالحرب النفسية تعد من أهم العوامل والأساليب التي تتبع في الحروب وهو ما نلحظه الآن في الوسائط والأخبار المتناقلة عبرها، إذ تساعد كثيراً في التحليل الخاطئ، الذي بلا شك له تأثير في سير المعركة ومن هم في أتونها من الجانبين”.
وتابع “بلا شك العقوبات التي فرضتها الإدارة الأميركية على قائد ’الدعم السريع‘ أثرت وستؤثر إلى حد ما في معنويات عناصره، لأن الولاء هنا له، وكل القيادة والسيطرة والإمداد بيده وهو يمثل الملهم لهذه القوات، وأعتقد أن بيانه الأخير بعد استعادة الجيش مدينة ود مدني أظهر مدى انزعاجه”.
ومضى عضو القيادة المركزية العليا للضباط وضباط الصف والجنود السودانيين المتقاعدين في القول إن “طرفي النزاع مدانان داخلياً وخارجياً في ما أنتجته هذه الحرب من فقدان لأرواح بريئة ونزوح وتشريد ودمار، لذلك فإن الرضوخ والجلوس للتفاوض هو الذي ينقذ ما يمكن إنقاذه لكنه يتطلب شجاعة، وهو العامل المفقود تماماً، فالحرب تقترب من العام الثاني ولا منتصر فيها، والمواطن والوطن هما الضحية”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية