على عتبات عام جديد ورئاسة أميركية جديدة يطفو على سطح الصراعات الأممية حديث سباق التسلح النووي القائم والقادم بقوة، وبصورة تتجاوز ما كان معروفاً في زمن الحرب الباردة بين حلفي وارسو والأطلسي.

ولا يزال انتشار الأسلحة النووية يشكل تهديداً خطراً لمستقبل السلام والأمن العالميين، وفي مواجهة هذا التهديد انضمت كل دولة تقريباً في العالم إلى معاهدة حظر الانتشار النووي، غير أن هناك كثيراً من الأنظمة التي تعتبر في عين الولايات المتحدة “ديكتاتورية واستبدادية”، انتهكت هذه المعاهدة ولا تزال تفعل، وفي مقدمها روسيا الاتحادية والصين الشعبية وكوريا الشمالية وإيران، وربما نشهد في الغد محاولات من دول أخرى، ولا سيما الدول التي تعرف بالقوى المتوسطة.

لماذا تبدو توجهات القادة الاستبداديين نازعة إلى امتلاك الأسلحة النووية؟

والثابت أن هؤلاء القادة يتخذون القرارات على أساس الأهواء والمصالح الشخصية لقلة مختارة في القمة، ويقدر الديكتاتوريون غير المقيدين الهيبة والميزة الأمنية المترتبة على تطوير الأسلحة النووية، بخاصة إذا لم يواجهوا أي تحديات داخل بلادهم، وشعروا بالتهديد من جانب القوى الخارجية أو الدول المجاورة المسلحة نووياً.

وتبدو النزعة النووية وكأنها سياق منهجي خلال الأعوام المقبلة، ولا سيما في ظل تصاعد سباق التسلح بين الدول الكبرى وفي مقدمها الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين، مما يعزز الرغبة في دخول النادي النووي الأممي، إن جاز التعبير، رغبة في الحماية ودرءاً لمصير “أنظمة ديكتاتورية” أخرى مثل العراق وليبيا في زمن صدام حسين ومعمر القذافي، إذ كان المصير المؤلم بسبب عدم امتلاكهم تلك الأسلحة، في حين أن دولة مثل كوريا الشمالية لا يستطيع أحد الاقتراب منها، ليقين تام بأن النتائج ستكون وبالاً من جراء امتلاك كيم يونغ أون صواريخ نووية قادرة على نشر الموت السريع.

وهنا يتساءل بعضهم: هل تكون مهمة ردع هؤلاء في طليعة مهمات الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب؟ أم أنه لا حيثية أدبية أو أخلاقية لبلاده طالما أنها تمثل بدورها قوة نووية طاغية حول العالم؟ وربما يتوجب علينا النظر بإجمال المشهد إلى الحال النووية العالمية، ومنها ننطلق إلى الأنظمة المختلفة معها.

العالم وسباق نووي جديد

يبدو عالمنا المعاصر وكأنه في سباق نووي أشد وقعاً مما جرت به المقادير خلال فترة الحرب الباردة، ولا سيما في ظل تسارع الخطوب بين واشنطن وموسكو وبكين، والأخيرتان سيكون لديهما عما قريب عدد من الأسلحة النووية الإستراتيجية يفوق عدد الأسلحة ذاتها لدى واشنطن.

ووفقاً لمسؤول أميركي كبير زار أستراليا في يوليو (تموز) الماضي فإن الصين ستمتلك بحلول عام 2034 عدداً من الأسلحة النووية الإستراتيجية يفوق عدد الأسلحة النووية الإستراتيجية التي تمتلكها الولايات المتحدة اليوم، مما يعني أنه خلال عقد من الزمن قد يفوق عدد الأسلحة النووية الإستراتيجية لدى الولايات المتحدة الأميركية، مما يعد من قبيل الاختلال العسكري القاتل بالنسبة إلى الإمبراطورية الأميركية، فهل يعني ذلك أن المعاهدات النووية كافة التي عرفها النصف الثاني من القرن الـ 20 أصبحت من الماضي، ولا تساوي الورق والحبر المكتوبة به؟

والمعروف أن الولايات المتحدة وروسيا قد نجحتا في التفاوض على محادثات الحد من الأسلحة النووية الإستراتيجية منذ أوائل سبعينيات القرن الـ20 وحتى الآن، وفي ذروة الحرب الباردة بلغ عدد الأسلحة النووية الأميركية أكثر من 32 ألف سلاح، بينما بلغ عدد الأسلحة السوفياتية أكثر من 45 ألف سلاح، كما سحبت الدولتان نحو 14 ألف سلاح نووي تكتيكي من مواقع نشر متقدمة في أماكن مثل أوروبا، وهنا يبدو المشهد وكأن عصر الخفوض النووية الدقيقة والمدروسة والقابلة للتحقق من القدرات النووية الإستراتيجية ولّى، وأن العالم على حافة سباق نووي تلعب فيه الأنظمة الديكتاتورية دوراً مخيفاً.

وفي السابع من يونيو (حزيران) الماضي كان المساعد الخاص للرئيس الأميركي لشؤون ضبط الأسلحة ونزع السلاح ومنع الانتشار النووي في مجلس الأمن القومي الأميركي، براناي فادي، يصرح بأن روسيا والصين وكوريا الشمالية “تعمل جميعها على توسيع وتنويع ترساناتها النووية بسرعة فائقة، ولا تبدي أي اهتمام بالحد من الأسلحة”، فهل تأتي روسيا والصين بنوع خاص في قائمة أولئك الذين تراهم واشنطن أنظمة ديكتاتورية، وأنه لا يجب الحذر فقط من امتلاكهما أسلحة نووية، بل الاستعداد عبر سيناريوهات موازية أول الأمر وفائقة تالياً لما تمتلكه موسكو؟

روسيا الغاضبة والنووي المتجدد

ومن دون أدنى شك فقد ألقت الحرب الروسية – الأوكرانية الضوء على أوضاع النووي الروسي الذي يهدد به الرئيس بوتين صباح ومساء، ويعتبر أنه الورقة الأخيرة لبلاده في مواجهة تهديدات الـ “ناتو”، فهل جاء تغيير روسيا لعقيدتها النووية أخيراً ليلقى الضوء على ما يمكن أن يحدث في حال سخونة الرؤوس؟

المؤكد أن روسيا التي تعد في تقدير واشنطن “كبيرة الأنظمة الديكتاتورية”، قامت خلال العقدين الأخيرين بتحديث قواتها النووية بصورة مميزة، فقد أضافت باقة من الصواريخ النووية الفرط صوتية التي لا تصد ولا ترد، والقابلة لحمل رؤوس نووية، وقد كشف بوتين في خطاب غاضب عام 2018 عن كثير من أنظمة الأسلحة النووية الجديدة، وزعم أن هذه كانت استجابة لانسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية وعملها اللاحق على الدفاعات الصاروخية، والتي عارضتها موسكو بشدة على اعتقاد أنها ستحيد صواريخها المقبلة في وقت الحرب، ولاحقاً في الأسبوع الأول من تولي الرئيس جو بايدن منصبه، أعلنت روسيا والولايات المتحدة تمديد “معاهدة ستارت” الجديدة خمسة أعوام قبل أيام من انتهاء صلاحيتها، ولكن بعد عامين وفي نوبة غضب إزاء الدعم الغربي لأوكرانيا، أعلنت موسكو أنها ستعلق المعاهدة.

وفي وقت لاحق من عام 2021 اتخذت موسكو خطوة أخرى بإلغاء تصديقها على “معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية” لعام 1996 التي صادقت عليها عام 2000، ولم تعد الترسانة النووية الروسية تقتصر على البر، فقد جعلت موسكو البحر نصب عينيها، ومن هنا عملت جاهدة على تعزيز أسطول غواصاتها النووية التقليدية والمحدثة بأنواع سرية من الأسلحة الصاروخية النووية، عطفاً على إضافات غير مسبوقة من غواصات غير مأهولة تعد الجحيم بعينه، من أمثال الغواصة “بوسيدون” والكفيلة بإحداث تسونامي قادر على إغراق ولايات بأكملها عند الساحل الشرقي من الولايات المتحدة الأميركية.

أما عسكرة الفضاء من الجانب الروسي فلربما هدأت قليلاً جراء الضغوط المالية والعقوبات التي تعرضت لها روسيا منذ عام 2014، أي حين ضمت شبه جزيرة القرم، وصولاً إلى عام 2022، أي موعد العمليات العسكرية في أوكرانيا، وهنا يبدو التساؤل الأكثر إثارة هو “هل يمكن للرئيس ترمب أن يروض مثل هذه الترسانة النووية الروسية، بخاصة في ظل حكومة تُتهم كل يوم بأنها ديكتاتورية استبدادية؟ أم أن مجرد الرهان على مثل هذا الترويض كفيل بإدخال العالم في زمن الشتاء النووي البغيض الذي يحمل معالم نهايات بعض عالمنا المعاصر؟

الصين ومخاوف نووية قادمة

ولا يتوقف القلق الأميركي بخاصة والغربي بعامة من الديكتاتورية الروسية ذات الأسلحة النووية، بل يتجاوز الأمر ذلك إلى الصين المرشحة للدخول في صدام عسكري مسلح مع الولايات المتحدة الأميركية في أي وقت من أعوام ترمب الأربعة في البيت الأبيض، سواء من جراء ملف جزيرة تايوان أو بحر الصين الجنوبي، أو من ملفات الهيمنة على المحيط الهادئ حيث الغواصات الأميركية النووية من طراز فيرجينيا، والتي ستزود أميركا بها أستراليا والكفيلة بتفجير هذا الصراع.

هل الصين ماضية قدما في طريق تسلح نووي ديكتاتوري، بحسب ليبرالي أميركا؟

المعروف أن الصين رفضت بصورة قاطعة التدخل مع الأميركيين في مسألة ضبط الأسلحة النووية والتحقق منها، وهي تزعم أن قواتها النووية الإستراتيجية متواضعة للغاية مقارنة بقوات الولايات المتحدة الأميركية إلى الحد الذي يجعل أي حديث عن المفاوضات أمراً لا معنى له، فما دقة هذا الكلام؟ وهل ينسحب على الحاضر وحسب أم على المستقبل كذلك؟

ربما يجوز القول إن مخزون الصين النووي الإستراتيجي لم يكن حتى وقت قريب يتجاوز ما بين 200 و 300 رأس نووي، لكن وفقاً لوزارة الدفاع الأميركية فإن بكين تمتلك الآن نحو 500 سلاح نووي، غير أن قصة الصين الديكتاتورية النووية في العيون الأميركية لا تبدو كاملة حتى هذا الحد، فهناك فصل جديد يجري في الخفاء تحت توجيهات شي جينبينغ، ولكن هناك من كان يترصده.

وتبدأ القصة العام الماضي 2023 حين بدأت الأقمار الاصطناعية الأميركية برصد حواضن صاروخية في باطن الأرض داخل مواقع عسكرية صينية، وقد ظهر واضحاً أنها صواريخ باليستية صينية من التي تحمل رؤوسها أسلحة نووية، ومن هنا بدأت أجهزة الاستخبارات الأميركية في توجيه مصادرها الصناعية والبشرية لمعرفة ما الذي تخطط له الصين، وقد وضح جلياً أن هناك محاولات جذرية جارية للوصول إلى ترسانة نووية جديدة من 1000 صاروخ تقريباً، إضافة إلى نحو 300 رأس نووي موجودة بالفعل على الأراضي الصينية، وتبدو هذه التوجهات الصينية بمثابة معضلة نووية للولايات المتحدة الأميركية، وبخاصة في حال اجتمعت إرادات ديكتاتورية، بحسب المنظور الأميركي، تجمع بكين وموسكو، مما أدى إلى قيام الرئيس بايدن في عامه الأول بإصدار إرشادات محدثة لاستخدام الأسلحة النووية تأخذ في الاعتبار حقائق العصر النووي الجديد، وفيه وتؤكد واشنطن الحاجة إلى مراعاة نمو وتنوع الترسانة النووية للصين والحاجة إلى ردع روسيا، فهل تتوقف الديكتاتوريات النووية، بتقدير واشنطن، على روسيا والصين وحسب؟ أم أن هناك قوى نووية أخرى في الطريق؟

نووي كوريا الشمالية وإيران

من بين القوى التي تصفها واشنطن بأنها “ديكتاتورية” يأتي الحديث عن كوريا الشمالية والتي كشف تقرير أميركي يحمل عنوان “التكتيكات الكورية الشمالية” قبل أربعة أعوام عن أن بيونغ يانغ تمتلك نحو 60 رأساً نووياً و5 آلاف طن من الأسلحة الكيماوية، وعطفاً على ذلك يوضح التقرير أن بيونغ يانغ قادرة على إنتاج ستة رؤوس نووية جديدة كل عام، وهذه الأرقام تغيرت بنهاية 2024 لتبلغ أكثر من 100 رأس نووي، غير الذي لا يمكن التنبؤ به في ظل دولة تعد قمعية وبامتياز، ولعل السؤال المطروح على موائد النقاش في الدوائر الأميركية العسكرية “هل يمكن لكوريا الشمالية أن تضحى مهدداً نووياً للولايات المتحدة في أي وقت؟”

ونجيب في ضوء التعاون العسكري الكوري الشمالي مع روسيا في مواجهة أوكرانيا، حيث تشارك وحدات برية في المعارك هناك مما يدفعنا إلى القول إن نوعاً ما من الشراكة بين بيونغ يانغ وموسكو يمكن أن تطفو على “السطح النووي” حال القارعة من دون شك، ولقد حاول الرئيس ترمب خلال ولايته الأولى الاقتراب من تلك المنطقة الشائكة والتقى رئيس كوريا الشمالية، لكن المسيرة توقفت بعد وصول بايدن إلى البيت الأبيض.

وفي جانب آخر تبدو إيران دولة مرشحة لأن تكون قوة نووية في مدى زمني منظور مما يزعج الغرب وربما الشرق على حد سواء، أما في الإشكال الإيراني فنجد تواصلاً جذرياً بين طهران من جانب وموسكو وبكين من جانب آخر، مما يمكن اعتباره أميركياً تواصل الجسور معاً ومن غير عائق أيديولوجي، لكن إذا أمعنا النظر فسنجد أن المخاوف الغربية من النووي الإيراني تفوق بمراحل النووي الروسي أو الصيني، فلماذا؟

الأمر مرده طبيعة النظام الإيراني الحاكم وكونه نظاماً دوغمائياً عقائدياً يمكن أن يعمد إلى استخدام هذا السلاح الفتاك في معارك نووية كارثية، ومن غير حسابات سياسية منطقية أو عقلانية، ويختلف المراقبون في تقدير ما إذا كانت طهران تمتلك بالفعل أسلحة نووية جرى شراؤها من الجمهوريات السوفياتية السابقة، أو أن لديها المقدرة على إنتاج تلك الأسلحة في المدى المنظور، غير أن النتيجة في النهاية واحدة، وهي وجود سلاح فتاك في أيدي قادة ديكتاتوريين، فلماذا هذا الرعب الغربي من تلك النماذج القيادية؟

الديكتاتوريون وأزمة امتلاك النووي

ما هي أبعاد الأزمة الحقيقية في تعامل إدارة ترمب المقبلة مع الأنظمة التي تسمها بأنها نووية ديكتاتورية؟ من أفضل الإجابات التي تقدمها لنا الأبحاث في هذا الشأن ما صرح به الزميل الأول في مركز الأمن والتعامل الدولي التابع لمعهد الشؤون الخارجية في واشنطن، البروفيسور سكوت ساجان، والذي يرى أن الديكتاتوريين الشخصيين يختلفون عن غيرهم من الزعماء المستبدين، لأنهم يتمتعون بسلطة شخصية  مهيمنة إلى الحد الذي يجعل المؤسسات الأخرى، مثل الحزب أو الجيش أو المكتب السياسي، عاجزة عن إلغاء  قرارات حاسمة  في شأن الذهاب إلى الحرب أو استخدام الأسلحة النووية على هواهم، وهم قادرون على اتخاذ القرارات استناداً إلى افتراضات خاطئة  أو عمليات اتخاذ قرارات معينة إلى حد كبير، فهؤلاء يشكلون تحدياً هائلاً لمفهوم الاستقرار النووي برمته، وفي هذا السياق ينبغي التوقف أمام ما يقوله علماء السياسة من أنه في بعض الأحيان يتطلب الردع النووي الناجح عقلانية من جانب القادة القادرين على موازنة الخطر النووي بحكمة وحصافة، ومن أمثلة هؤلاء القادة العقلانيين الرئيس الأميركي جون كيندي الذي جنب العالم في أوائل ستينيات القرن الماضي خطر الصدام النووي مع الاتحاد السوفياتي جراء “أزمة صواريخ كوبا”.

ويقطع ساجان بأن المثال الأقوى اليوم للديكتاتوريين غير العقلانيين الزعيم الكوري الشمالي كيم يونغ أون الذي يمتلك الآن الأسلحة النووية والقدرة على إطلاقها بثقة عالية ضد أهداف في اليابان وكوريا الجنوبية، بما في ذلك القواعد العسكرية الأميركية هناك، وبثقة أقل ضد الولايات المتحدة، ويبدو من الصعب ردع كيم لأنه عزز سلطته وأقصى منافسيه، واتخذ قرارات حاسمة بمفرده سواء للأفضل أو الأسوأ.

والشاهد أنه إذا كان العالم، بحسب الرؤية الأميركية، قد تجنب حصول ديكتاتوريين مثل صدام والقذافي على أسلحة نووية، فإن الساحة الدولية ستعج بغيرهم انطلاقاً من أن هذين الرجلين قد دمرت بلادهما جراء عدم امتلاكهما لتلك الأسلحة، والتي لو توافرت لأنظمتهما لما كانت قوى خارجية قد أطبقت عليهما، والأمر عينه هنا ينسحب على ما حدث بين بريطانيا والأرجنتين أوائل ثمانينيات القرن الماضي، فلو كانت الأرجنتين قوة نووية لما كانت بريطانيا أقدمت على ما فعلته في تلك الحرب التي انتهت لمصلحتها.

وبالعودة لإيران التي تعد محمومة بديكتاتورية عقائدية فإن الأخطار تبدو عالية للغاية من مستقبلها النووي، ولا سيما أنه سيكون من الطبيعي أن تبادر دول الجوار إلى امتلاك أسلحة نووية لإحداث توازنات لابد منها، على أنه وفي الوسط من تلك التساؤلات المعمقة عن الديكتاتوريات النووية سنسأل هل يحق لنا استثناء الولايات المتحدة من هذا التصنيف؟

هل أميركا دولة ديكتاتورية نووية؟

شغل هذا التساؤل الداخل الأميركي خلال الفترة ما بين عامي 2016 و2020، أي خلال حكم الرئيس ترمب، وكتب نائب وكيل وزارة الدفاع خلال إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما سابقاً ريان ماكماكين يقول “إنه بسبب ترمب المبالغ فيه وغير المتوقع، وربما جراء افتقاره إلى الأصدقاء في واشنطن، أدرك أعضاء الكونغرس فجأة أنه ربما يسعى ترمب عند لحظة خارجة عن المقدرات العقلية إلى تفجير العالم نووياً من جانب واحد”، فهل كانت هناك لحظات حرجة بالفعل في زمن ترمب تلقي بأثرها في ولايته المقبلة؟

غالب الظن أن هناك من توجس خوفاً من انجراف ترمب نحو سلوك ديكتاتوري خلال الأيام الأخيرة من حكمه والتي كان يصر فيها على أن الانتخابات في مواجهة جو بايدن قد جرى تزويرها، وقد حدث ذلك بالفعل مرتين، الأولى حين تواصل رئيس الأركان المشتركة الجنرال مارك ميلي مع نظيره الصيني ليقنعه بأنه لا توجد أخطار من استخدام واشنطن أسلحة الدمار الشامل النووية ضد الصين، وقد جرى ذلك بعدما رصدت الأقمار الاصطناعية الأميركية حركة غير اعتيادية في القوات الصاروخية النووية الصينية، والمرة الثانية حين تواصلت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي مع ميلي نفسه، وتحادثا سوياً عن ترمب بعد خسارته معركته الانتخابية، والخوف من أن يتصرف بطريقة غير مسؤولة، مما دعا الجنرال ميلي إلى عقد اجتماع تشاوري مع كبار جنرالات الجيش الأميركي لوضع حدود وقيود على الرئيس في حال فكر جدياً في تفعيل ديكتاتوريته النووية تجاه الصين، والثابت أن الأمر بدا متجاوزاً لبيلوسي وميلي، فقد أثيرت لاحقاً في لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي تساؤلات حول السلطة الرئاسية التي تمتد لعقود من الزمن لنشر الأسلحة النووية خلال أول جلسة استماع في الكونغرس في شأن التفويض النووي منذ عقود.

وعلى رغم ما جرى في ولاية ترمب الأولى فإنه في الوضع الحالي يستطيع الرئيس الأميركي، أي رئيس، أن يبدأ حرباً نووية بمفرده، ونحن نتحدث هنا عن القدرة على توجيه الضربة الأولى وليس مجرد الرد على عمل عسكري من قبل دولة أخرى، فالديكتاتورية النووية الأميركية لا تحتاج إلا إلى قيام سيد البيت الأبيض باستدعاء الضابط العسكري الذي يحمل كرة القدم، أي الحقيبة الضخمة التي تحوي الشفرات النووية، والعمل من خلال إجراء موجز لنقل أوامر الإطلاق إلى القيادة الإستراتيجية الأميركية.

وعلى هذا فإن كل ما يتعين على الرئيس أن يفعله هو أن يقرر، ربما استناداً إلى أية معلومات غير موثوقة تزوده بها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، أن الوقت قد حان لإطلاق محرقة نووية على كوريا الشمالية على سبيل المثال، وبمجرد أن تبدأ القاذفات النووية في التحليق أو بمجرد إطلاق الصواريخ فبطبيعة الحال سيكون لزاماً على الأميركيين أن يقدموا تفسيرات مقنعة لكل من روسيا والصين بأن الأمر لا يشكل تهديدات نووية بالنسبة إليهما، مما لا يظن أحد أنه سيجري تصديقه بحال من الأحوال.

على أن الولايات المتحدة وبفضل نظام الفصل بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، يمكنها تجنب المستقبل الديكتاتوري النووي بما يجنبها مغامرة أي رئيس عبر ضوابط وقيود واضحة لا يتجاوزها أي رئيس، لكن السؤال الأهم هو هل في مقدور ترمب عما قريب مواجهة تلك الديكتاتوريات النووية، وبطريق يجعل في أي منها أو كلها عند لحظة بعينها، أن تقوم بمراجعة نفسها عوض المرة 1000 مرة، قبل أن تقدم على إطلاق صواريخ نووية على الأهداف الإستراتيجية الأميركية، وسواء كان ذلك في الداخل أو على المواقع الإستراتيجية الحليفة في الخارج.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الاستعداد لمواجهة الديكتاتوريات النووية

من المؤكد أنه في مقدم الإرث الذي سيخلفه جو بايدن لدونالد ترمب مجموعة من التحديات المتعلقة بالأمن القومي، وفي أعلاها التوازنات النووية في عالم يمتلئ اليوم بتحديات ديكتاتورية نووية، فهل سيقود ترمب صحوة نووية أميركية في عالم متغير جيو-نووي إن جاز التعبير بسرعة هائلة؟ وربما ضمن قناعات “جعل أميركا عظيمة مرة أخرى” هو أن تتوافر لها مقدرات نووية تجعل الآخرين من الأعداء والأصدقاء يراجعون أنفسهم في مواجهة الولايات المتحدة.

وبحسب وكيلة وزارة القوات الجوية الأميركية ميليسا دانتون فإن البنية الأمنية التي تواجهها اليوم غير مسبوقة، إذ تواجه أميركا للمرة الأولى منافسين إستراتيجيين على رأسهم دولتان نوويتان بإمكانات ضخمة ومتنامية، وفي هذا السياق بات من المؤكد أن هناك مخططات أميركية لتحديث شؤون القوة النووية الأميركية في القريب العاجل، أي مع بدء رئاسة دونالد ترمب، فالولايات المتحدة حالياً في طريقها إلى إنفاق ما يعادل أكثر من مشروعين من مشاريع مانهاتن سنوياً في واحدة من أغلى سباقات التسلح، على أن السؤال المهم هل هذا طريق ناجع للردع النووي بالنسبة إلى الديكتاتوريات؟

وتبدو القاعدة التي تحكم عمل الرئيس ترمب دوماً وأبداً هي أن “المجنون لا يوقفه إلى مجنون مثله”، وقد تكون هذه هي القاعدة التي ستشكل التوجهات النووية لولايته المقبلة، غير أن هناك من يرى أن السباق النووي العالمي بات خارجاً عن السيطرة ويتعلق بالديكتاتوريين النوويين أو بالقوى الوسطى الساعية إلى حيازة هذا السلاح، فكيف ذلك؟

بعبارات قصيرة نختزل الجواب في القول إن فكرة الردع النووي تجاه تلك القوى أمر يبدو وكأنه مستحيل ما لم تكن القوات الهجومية الإستراتيجية الأميركية قادرة على استهداف كامل القوات النووية المعادية والقوات العامة والصناعات الداعمة للحرب في الدول الديكتاتورية كافة، فهل يعني ذلك أنه يجب على ترمب لردع تلك القوى أن تتفوق ترسانة الأسلحة النووية الأميركية على نظيرتها الروسية والصينية والكورية الشمالية والإيرانية، وما يمكن أن يستجد من قوى قطبية لا تدور في فلك العم سام؟

هذا هو المطلوب بالفعل وغير ذلك يبقى من قبيل هدر الوقت، وعلى سبيل المثال لا الحصر يقول وزير الدفاع من عهد الرئيس جيمي كارتر، هارولد براون، إنه “عندما نبني يبنون”، بمعنى أنه كلما تشتد القوة النووية للولايات المتحدة الأميركية فإن الآخرين يمضون في الاتجاه عينه، وعطفاً على ذلك فإن موازنات التسليح النووي لواشنطن تبدو من دون أدنى شك مرهقة تمام الإرهاق لأميركا التي وصل دينها العام الإجمالي لقرابة 35 تريليون دولار.

وفي عجالة يمكننا الإشارة إلى قرابة تريليون دولار سيجري إنفاقها على البرامج النووية الأميركية، والعهدة على تقرير صادر عن مؤسسة “روس كونغرس” التي تشير إلى 140 مليار دولار خلال العقدين القادمين، و500 مليار دولار على إدارة المخزونات، وتشمل خطة التطوير أيضاً غواصات تحمل رؤوساً نووية مبتكرة وصواريخ وقاذفات إستراتيجية غالباً غير منظورة، فهل هذا عالم يتهدده الديكتاتوريون النوويون وحسب، أم كبار دعاة الليبرالية والديمقراطية الأميركية؟

نقلاً عن : اندبندنت عربية