عانى الاقتصاد السوري اختلالات هيكلية عدة ومالية كبيرة وعجزاً متنامياً على مر الأعوام الماضية في ظل النظام المخلوع، وهو ما أوضحته تقارير دولية عدة، إذ ذكر البنك الدولي في تقريرين سابقين له أن الأوضاع الاقتصادية في سوريا قد تأزمت نتيجة نقص التمويل ومحدودية المساعدات الإنسانية، وهو ما أدى إلى زيادة استنزاف قدرة الأسر على تأمين حاجاتها الأساس وسط ارتفاع الأسعار وتراجع الخدمات الأساس وزيادة معدلات البطالة والتراجع الحاد في سعر الليرة السورية.

وقدرت الموازنة العامة لسوريا عام 2024 بـ35 تريليون و500 مليار ليرة سورية أي ما يعادل 3.1 مليار دولار، بعجز بلغ 815 مليون دولار، بما نسبته 26 في المئة من إجمالي الناتج المحلي وهذا بحساب سعر صرف الدولار 11500 ليرة سورية للدولار الواحد عند الإعلان عن الموازنة.

سوريا ونموذج السوق الحرة

بحسب رؤية بعض الاقتصاديين يمثل التحول إلى اقتصاد السوق خياراً أيديولوجياً وتوجهاً سياسياً وموقفاً فلسفياً من كيفية إدارة الدولة والمجتمع والاقتصاد، ولا سبيل أمام الإدارة الجديدة في سوريا سوى السير في هذا النهج بخطى صحيحة وواضحة وثابتة، وإلا فإنهم داخل البلد سيأخذون الناس إلى الجوع المحتوم.

كانت سوريا تعيش في ظل دور الدولة في التخطيط المركزي الذي يتمثل بكون الدولة تؤثر في النشاط الاقتصادي من طريق ملكيتها لكل أو الجزء الأكبر من وسائل الإنتاج وقيامها بالإنتاج المباشر للسلع والخدمات، أي إنها تتولى في آن معاً دور صاحب رأس المال ودور المنظم الذي يتحمل أخطار الإنتاج.

أما في ظل اقتصاد السوق فتنتقل الدولة من القيام بأشياء كثيرة بصورة سيئة إلى أداء مهامها الأساسية الأقل بصورة جيدة، وهذا يعني أن الدولة يتعين عليها أن تتقلص أو تنكمش وتغير طبيعتها في الوقت نفسه، وأول المجالات التي يتعين أن يتقلص فيها دور الدولة هو مجال إنتاج السلع والخدمات وتوزيعها، ليصبح قيام الدولة بهذا الدور الاستثناء للقاعدة، وفي المجالات التي تفشل فيها الأسواق حصراً، إذ تتدخل في النشاط الاقتصادي من طريق وضع القواعد الحاكمة واعتماد سياسات مالية ونقدية وغير ذلك من السياسات اللازمة طبقاً للفلسفة التي يقوم عليها اقتصاد السوق.

وهو ما وعدت به الإدارة الجديدة في سوريا، فقد اجتمع رئيس الإدارة السياسية في سوريا أحمد الشرع مع عدد من رجال الأعمال السوريين على مستوى العالم وسوريا، وكما صرح رئيس غرفة تجارة دمشق باسل الحموي “سيكون هناك نظام تجاري حر مبني على التنافسية، فكل شخص مسجل في الغرفة ممكن له أن يستورد السلعة التي يريدها ويطرحها في الأسواق ضمن نظام محدد”، وبحسب الحموي، أبلغت الحكومة السورية الجديدة رجال الأعمال أنها ستتبنى نموذج السوق الحرة وأنها ستدمج البلاد في الاقتصاد العالمي في ظل تحول كبير عن سيطرة الدولة على الاقتصاد لعقود، وبدورهم رحب رجال الأعمال بالإشارات التي تدل على أن الاقتصاد سيكون مفتوحاً للاستثمارات اللازمة لإعادة الإعمار بعد دمار واسع شهدته البلاد خلال 13 عاماً.

قرارات عملية وتخوف

منذ توليها تسيير الأعمال أصدرت حكومة محمد البشير قرارات متتالية تعمل على تشكيل المشهد الاقتصادي السوري بعد عقود من القيود وهيمنة الدولة على شتى مفاصله، فقد وحد مصرف سوريا المركزي سعر الصرف في المؤسسات المالية والبنوك بعدما كان يستخدم سعر صرف أدنى من سعر السوق السوداء، وسمح بتصدير البضائع من دون المطالبة بوجود “تعهد تصدير” وألغى منصة تمويل الواردات والموافقة المسبقة لتخليص البضائع، وسمح للتجار بتمويل وارداتهم من مصادرهم الخاصة بشرط عدم انتهاك القوانين المحلية والدولية المتعلقة بغسل الأموال.

كما أكدت الحكومة الجديدة نيتها إنهاء آليات الدعم الحكومي السابقة ووصفتها بالفاسدة ووعدت بزيادة الراتب بأربعة أضعاف، وأقرت تخفيضات جمركية واسعة ستؤدي بحسب المراقبين إلى خفض أسعار السلع المستوردة، وحددت سعراً متغيراً للمحروقات بالدولار الأميركي ورفعت سعر ربطة الخبز إلى 4 آلاف ليرة سورية، فبحسب رأي وزير التجارة في حكومة تسيير الأعمال الحالية ماهر خليل الحسن فإن “سوريا دولة غنية تكفي الجميع، لكن هناك إرثاً فاسداً خلفه النظام البائد، ونبذل قصارى جهدنا بالتعاون مع شعبنا للنهوض من جديد”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن هناك أصواتاً لاقتصاديين آخرين ارتفعت لتحذر من خطورة اتخاذ هذه الخطوة من دون أن يسبق الإعداد لها، ومنهم الباحثة في علم الاقتصاد لمياء عاصي التي كانت وزيرة اقتصاد سورية سابقة، إذ قالت إن “التحول إلى اقتصاد حر وتنافسي يجب أن يتم بناءً على خريطة إصلاح اقتصادي تهتم بكل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية وليس مجرد قرارات بإلغاء المؤسسات”، وتابعت “إلغاء الرسوم الجمركية لأي دولة له شروط كثيرة، أولها أن يكون بناءً على ترتيبات تبادل تجاري ثنائية أو جماعية بين الدول، وثانيها توفر واردات أخرى للدولة تمكنها من القيام بدورها في الاستقرار والحفاظ على الأمن وتنمية اقتصاد البلد”.

ودعت عاصي إلى تشكيل ما سمته “مجلس إصلاح اقتصادي” لإنجاز إصلاح مدروس لواقع في غاية التعقيد، مشيرة إلى أنه “لا يمكن الاكتفاء بانفتاح اقتصادي مشوه والسماح بالاستيراد لكل شيء وفتح الأبواب على الغرب لنصبح سوقاً لتصريف بضائع الغير من دون القدرة على الإنتاج، ومن دون تبني سياسات تعنى بتشجيع المنتج المحلي وإصلاح القطاع العام المنهك بما يحقق نهوضاً بالاقتصاد السوري كما يحلم جميع السوريين”.

خطوات التحول

من الخطوات الأساسية للتحول إلى السوق الاقتصادية الحرة بحسب منظري هذا الفكر، أن يتركز هدف السياسات المالية في معالجة العجز بالموازنة العامة للدولة من طريق تقليص الإنفاق العام وزيادة الإيرادات العامة، ومن بين الإجراءات التي تتخذ لتحقيق هذا الغرض القيام بخفض كبير في النفقات العامة ولا سيما ما يتعلق بدعم أسعار السلع الأساسية بصورة كلية ومرة واحدة أو بصورة متدرجة بحسب طبيعة الأوضاع الاجتماعية والسياسية القائمة في البلد المعني، بحيث لا يؤدي ذلك إلى ردود فعل شعبية غاضبة تعرض الاستقرار الاجتماعي والسياسي للخطر، وتثبيت الأجور أو زيادتها بنسب لا تتكافأ مع معدلات التضخم ليؤدي ذلك بالنتيجة إلى انخفاض الأجور الحقيقية، وكذلك تخلي الدولة عن التزام تعيين الخريجين الجدد من المدارس الفنية والصناعية والمعاهد والجامعات وبما يفسح المجال أمام قوى العرض والطلب للتحكم في سوق العمل.

أما في جانب زيادة إيرادات الموازنة العامة للدولة فإن ذلك يتم بفرض رسوم على الخدمات التي كانت تقدم مجاناً أو زيادة أسعارها مثل خدمات المرافق العامة كالمياه والكهرباء والاتصالات والنقل، وكذلك زيادة أسعار الوقود، كما يندرج ضمن إطار السياسات المالية المتعلقة بالتحول إلى اقتصاد السوق الحد من الإنفاق الاستثماري العام، وأن يقتصر على المجالات المتعلقة ببناء واستكمال مشاريع البنية التحتية.

وتهدف السياسات النقدية إلى ضبط نمو عرض النقود ضبطاً صارماً من خلال رفع أسعار الفائدة لزيادة الادخار المحلي لا سيما إذا أصبح سعر الفائدة الحقيقي موجباً، وترشيد استخدام رأس المال بزيادة كلفة الاقتراض، ووضع سقوف عليا للائتمان المصرفي، وكذلك تطوير أسواق رأس المال ورفع القيود عن التعامل فيها، بينما تتضمن السياسات السعرية رفع القيود عن الأسعار وترك تحديدها لتفاعل قوى العرض والطلب وبما يؤدي إلى تحركها باتجاه مستويات الأسعار العالمية.

أما في ما يخص السياسات المتعلقة بالتجارة الخارجية والصرف الأجنبي فتهدف إلى رفع القيود عن المعاملات التجارية ورفع أو الحد من إجراءات الحماية الإدارية والسعرية للمنتجات الوطنية لإشاعة روح المنافسة وكذلك تخفيض القيمة الخارجية للعملة بهدف الحد من الاستيراد وتشجيع التصدير.

وتنصرف سياسات الخصخصة بصورة أساس إلى بيع وحدات أو شركات القطاع العام، إلا أنها تعني أيضاً في بعض الأحيان خصخصة عملية الإدارة أو تأجير وحدات القطاع العام إلى القطاع الخاص أو فسح المجال أمام دخول القطاع الخاص إلى مجالات كانت حكراً على القطاع العام ولا سيما في ميدان الخدمات العامة كالصحة والتعليم والاتصالات، وكذلك تعاقد الحكومة مع منشآت القطاع الخاص للقيام بتقديم خدمات كانت تقوم بها المؤسسات الحكومية مباشرة كتنظيف الشوارع ورعاية الحدائق وتجميع القمامة وطمرها ورصف الطريق وصيانة المباني والمركبات وتوريد الأغذية.

وآخر خطوات التحول إلى اقتصاد السوق الحرة تتمثل في سياسات تشجيع رأس المال الخاص المحلي والأجنبي وذلك بإصدار التشريعات التي تتضمن تقديم التسهيلات والإعفاءات التي من شأنها دعم الاستثمارات الخاصة، وبما يوفر مناخاً مناسباً لنمو الرأسمالية المحلية واجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار في الاقتصاد الوطني، وبما يؤدي إلى دمج الاقتصاد الوطني في الاقتصاد العالمي، ومن بين التسهيلات والإعفاءات ما يتعلق بإلغاء القوانين التي تخص تحديد الحد الأدنى للأجور ومنع التسريح التعسفي من العمل والضمان الاجتماعي، وكذلك ما يتعلق بالإعفاءات الضريبية ورفع القيود عن تحويل الأرباح إلى خارج البلد، وغير ذلك من التشريعات التي تستجيب لمصالح رأس المال الخاص المحلي والأجنبي.

نقلاً عن : اندبندنت عربية